في كلّ مرة يُطلق سلاح الجوّ الإسرائيليّ طائراته الحربيّة في سماء لبنان لإحداث دويّ أو غارات وهميّة، يعود إلى الواجهة تساؤل حول الهدف الرئيسيّ من هذا الأسلوب عسكريّاً ومعنويّاً، إضافة إلى مدى تأثُّر الناس بدويّ جدار الصوت أو اعتيادهم إيّاه، وخاصّة في بلدات الجنوب حيث الحرب على أشدّها.
كمشهد عام، يُلاحَظ أنّ أبناء الجنوب باتوا أكثر تفاعلاً مع هذا الدويّ يوميّاً، بخلاف أبناء المناطق الأخرى. وبات في إمكان الأهالي أن يفرّقوا بين صوت الطائرة الحربيّة والمسيّرة، أو بين دويّ الغارة وجدار الصوت.
إلّا أنّ هذا الأمر قد لا ينسحب على المدن التي لم تشهد دويّاً مماثلاً منذ تسعة أشهر، الأمر الذي أحدث "صدمة" لدى عدد من سكان بيروت تحديداً حيث سُمِع دويّ جدار الصوت للمرّة الأولى قُبيل منتصف ليل السبت- الأحد الماضي، قبل أن تخرق المقاتلات الإسرائيليّة أجواء العاصمة وضواحيها مجدّداً ظهر اليوم، إلّا أنّ الناس حافظوا على حركتهم الطبيعيّة في الشوارع وعلى الكورنيش وداخل المطاعم.
فهل اعتاد اللبنانيّون جدارَ الصوت؟ وبات جزءاً من يوميّات الحرب العسكريّة والنفسيّة المستمرّة منذ تسعة أشهر؟
مقاتلة إسرائيليّة في أجواء الجنوب (أ ف ب).
ما هو جدار الصوت عسكريّاً؟
قبيل البحث في الآثار النفسيّة والمعنويّة لهذا الإجراء العسكريّ، لا بدّ من تعريف جدار الصوت وكيفيّة حدوثه.
في التكتيكات العسكريّة للحرب، يلجأ الطيران إلى سرعة الصوت بهدف التخفّي عن الرادار وتفادي المضادات الأرضيّة. إذ إنّ سرعة الصوت تُعَدّ المدّة التي تفصل بين الرادار المُخصّص لرصد الطائرة الحربيّة، والمدّة التي يحتاجها إعطاء الأمر للصاروخ المضادّ بالانطلاق نحو الطائرة. وتُقاس سرعة الصوت بـ340 متراً في الثانية، أو 1027 كيلومتراً في الساعة.
عام 1947، استخدم طيّار أميركيّ، للمرّة الأولى في العالم، هذه التقنية، مختبراً كيفيّة اختراق جدار الصوت عسكريّاً.
كيف يحدث جدار الصوت إذاً؟ يشرح العميد المتقاعد ناجي ملاعب لـ"النهار" الأمر عسكريّاً، ويقول: "يحدث دويّ جدار الصوت حينما يخترق جسم الطائرة وأجنحتها موجات من الضغط الجوّيّ، التي تمرّ عبرها الطائرة، وتحدث موجة تصادميّة تؤدّي إلى دويّ انفجار". أمّا قوّة الانفجار فتُحدّده "نوع الطائرة وحجمها وقوّتها وطريقة عملها ومعدّل الضغط الجوي الذي تسير فيه".
وبالرغم من الدويّ الكبير الذي يُسمَع عادةً عند حدوث جدار الصوت، فإنّه "يصعب معرفة نوع المقاتلة، ولا يمكن مشاهدتها بالعين المجرّدة خلال الخرق، إذ إنّها تخرج من الأجواء بعد حدوث الدويّ"، بحسب ما يؤكّد ملاعب.
مقاتلة إسرائيليّة تُغير على بلدات في جنوب لبنان (أ ف ب).
إلامَ تهدف إسرائيل بخرقها جدار الصوت في لبنان؟
قُبيل منتصف ليل السبت- الأحد، دوّى انفجار كبير في معظم الأجواء اللبنانيّة، وعمّ السؤال الموحّد عبر السوشيال ميديا "بلّشت الحرب؟"، وما لبث أن تبيّن أنّه ناجم عن خرق الطائرات الإسرائيليّة جدارَ الصوت من الجنوب إلى البقاع والشمال مروراً بالعاصمة، وهي المرّة الأولى التي يتزامن فيها خرق جدار الصوت في لبنان ككلّ، ممّا أثار تساؤلات حينها عن التصعيد المستمرّ لإسرائيل ضدّ لبنان، وأساليب الترهيب التي تتبعها خصوصاً فوق بيروت.
يرى ملاعب أنّ "إسرائيل تعمد إلى خرق جدار الصوت في البيئة غير الموالية لـ"حزب الله"، كحاصبيا وجزّين وصيدا وبيروت، في محاولة لإثارة الرعب لدى السكّان، وللقول إنّه إذا استمرّ "حزب الله" بالتصعيد، فإليكم ما يمكننا فعله".
ما يقوله ملاعب يؤكد ثابتة أنّ تكثيف الطلعات الجوّيّة الإسرائيلية على علوّ منخفض والخرق المتكرّر، يوميّاً، لجدار الصوت، يهدف إلى ترهيب اللبنانيّين، وبثّ الذعر في نفوسهم من أيّ حربٍ شاملة مقبلة.
أمّا الهدف الثاني لإسرائيل فهو عسكريّ بحت، في وقت كبّد "حزب الله" عدوّه خسائر كبيرة بإسقاط 5 مسيّرات حربيّة خلال الحرب، من طرازَي "هيرمز 450" و"هيرمز 900" بمضادات أرض- جوّ وعلى علوّ متوسّط ومنخفض، فيما أطلق مضادّاته نحو مقاتلة "أف-16" و"أجبرها على التراجع"، بحسب بيان للحزب.
يقول ملاعب في هذا الشأن إنّ "إسرائيل لا تعلم بعدُ إن كان "حزب الله" يمتلك مضادّات أرضيّة لإسقاط الطائرات الحربيّة، ويحاول من خلال خرق جدار الصوت وشنّ غارات وهميّة أن يستطلع بالنار إمكانات "حزب الله" الجوّيّة".
حياة "طبيعيّة" في بيروت بعد خرق جدار الصوت
بخلاف التسمية العسكريّة المتداوَلة لدى الرأي العام في لبنان والعالم، فإنّ علم النفس يُطلق على خوف الإنسان وعجزه عن الكلام مفهوم "جدار الصوت" أيضاً. وهو ما يُمكن ربطه بالآثار النفسيّة التي يتركها مثل هكذا دويّ على الفرد.
تفاعل أهالي الجنوب مع جدار الصوت اليوميّ لديهم لا يُقارن بردّات الفعل المتباينة للمواطنين في الأقضية الأخرى، وهذا ما تؤكّده أستاذة علم الاجتماع في معهد العلوم الاجتماعيّة، في الجامعة اللبنانيّة، جنات الخوري جبّور، بالقول إنّ "أهل الجنوب اعتادوا على جدار الصوت وباتوا يعبّرون عنه باستهزاء أحياناً، وباعتباره حدثاً عاديّاً مقابل انفجارات الغارات اليوميّة وتدمير أبنية وسقوط شهداء".
بدا لافتاً اليوم أنّ دويّ جدار الصوت فوق العاصمة لم يترك آثاراً سلبيّة على القاطنين، بل شوهد الناس يؤدّون عملهم بشكل طبيعيّ، فيما المنتجعات السياحيّة تعجّ بروّادها. فكيف يُفسّر علم الاجتماع هذا التصرّف؟
تقول جبّور إنّ "الحروب الإسرائيليّة متكرّرة على لبنان عبر الزمن، وقد اعتاد اللبنانيّون على الأسلوب الإسرائيليّ، وخاصّة مع تَركّز الضربات اليوم في الجنوب، ما يجعل المواطن مطمئنّاً بألّا استهدافَ مباشراً للعاصمة حتّى الساعة، إلّا في حال بدأت إسرائيل بضرب مناطق أخرى كما حصل عام 2006، فعندها سيعمّ الذعر لدى الجميع في كلّ المناطق"، مع النظر أيضاً إلى "إدراك أهالي بيروت لقواعد الاشتباك التي يعمل بها الطرفان في الجنوب، وعدم تخطّيها بعد".
كاميرا الزميل نبيل اسماعيل تُوثّق الحياة الطبيعيّة في أحد المنتجعات البحرية في بيروت بُعَيْدَ دويّ جدار الصوت ظهر اليوم.
الآثار النفسيّة لدويّ الأصوات
في حديث لـ"النهار"، تُعدّد جبّور العوارض النفسيّة التي قد تُصيب الأهالي في خارج نطاق الحرب: "الدويّ يُخلّف لديهم مشاعر القلق والتوتّر، لأنّهم لم يتوقّعوا مسبقاً إمكانيّة حدوثه، كأهالي الجنوب مِمّن يتعايشون معه يوميّاً، كما يُسبّب لهم ضغطاً نفسيّاً وتساؤلات حول ما إذا كان سيتبع هذا الصوت قصفاً جويّاً".
من تداعيات هذا الحدث أيضاً، "معاناة البعض من اضّطرابات في النوم، وزيادة المشاعر السلبيّة مثل الغضب، خصوصاً بالتزامن مع توتّر الظروف السياسيّة والأمنيّة في البلد"، بحسب جبّور. أمّا الفئة الأكثر عرضة للخوف من جدار الصوت، الأطفال، باعتبار أنّ "الطفل يعجز عن استيعاب زنين الطائرة أو الدويّ الهائل الذي قد يترك آثاراً نفسيّة عليه".
مَن يُتابع صفحات أهالي الجنوب على "السوشيال ميديا" في الأيّام الأخيرة، يلحظ أنّهم باتوا يضبطون ساعاتهم يوميّاً بانتظار دويّ جدار الصوت، بعدما أضحى جزءاً من يوميّات الحرب، وقد اتّخذوا تدابير استباقيّة له، كفتح الأبواب والنوافذ تفادياً لتصدّعها. كما بات تناقل مقاطع الفيديو لتحليق الطائرات الإسرائيليّة على علوّ منخفض هواية يوميّة للبعض أيضاً.