تتمدّد رعونة صراع الهويّات في لبنان. ولا تقتصر على تظهّر الأزمات ذات الوجه الطائفي بين اللبنانيين أنفسهم، بل تتكثّف راهناً بين اللبنانيين والسوريين، فإذا بنا أمام مجتمع يغلي بتنافر عصبياته. وإن كانت أزمة التوقيت الصيفي أُشبعت تحليلاً ودلالات، ولم يخجل طرفٌ من المجاهرة برسائلها المباشرة وغير المباشرة، فإن استفحال "الصدام" اللبناني-السوري داخل لبنان، ينذر بنتائج كارثية. لا يبدو أن تشبيه برميل بارود مجرّد مبالغة.
يسهل الجلوس في أحد الخندقين، مع عودة النازحين السوريين الى بلادهم الآن، أو ضدّها في انتظار الإشارة التي تجعل هذه العودة غير قسرية. ولم يعد سهلاً رمي من يسأل عن موعد عودة النازحين وتنامي أعدادهم والعبء الذي يتحمّله لبنان بالعنصرية.
ويصعب عدم الشبهة في سياسة "المجتمع الدولي" تجاه الملفّ، مع عدم الالتفات الى وقائع هواجس اللبنانيين وأثر الأحقاد المتنامية. في الأصل، تنمو تيّارات "انفصالية" بين اللبنانيين أنفسهم، فتطلّ مسألة العدد بين المسلمين والمسيحيين عند كل مفترق. التشكيك مستمرّ بحماية اتفاق "الطائف" مبدأ المناصفة.
وتضيف مسألة أعداد النازحين مبرّراً إضافياً لهذه التيّارات من منطلق طائفي أساساً، ولمعظم اللبنانيين من منطلق اقتصادي معيشي.
لا تتعلق مقاربة أوروبا لأزمة النازحين بلبنان فقط. ليس هناك ترحيب أوروبي بعودتهم الى بلادهم راهناً من تركيا والأردن على سبيل المثال. لكن في هذين البلدين، سلطات أدارت الملفّ بمنطق مختلف عن إدارة الدولة اللبنانية. الفشل الرسمي اللبناني لا يعفي أوروبا من مسؤولية مراعاة الوضع الداخلي من منطلق ما تبديه من حساسية تجاه عدم بلوغ الانهيار مرحلة الانفجار الذي لا يعفي الإقليم ولا القارّة العجوز من التبعات. في أيّ حال ومع انتهاء عواصف الشتاء، سيرصد الأوروبيون المزيد من قوارب الهجرة الراغبة في الهروب من الجحيم الى بلدانهم المتعبة.
يعترف مفوّض الاتحاد الأوروبي لإدارة شؤون النازحين يانيز لينارتشيتش بـ"التحدّيات التي يشكّلها هذا العدد الكبير من اللاجئين السوريين وما يمثّلونه لبلد بحجم لبنان". ويتعهّد خلال زيارته الأخيرة لبنان بـ"الاستمرار كما فعلنا منذ 12 عاماً، في مساعدة ودعم كل اللاجئين السوريين كما بدعم اللبنانيين الأكثر هشاشة".
أوروبا تعترف بالتحديات لكنها لا تبدّل موقفها.
في الأثناء، تتنامى العصبيات بين اللبنانيين والسوريين بدفع كبير من الأزمات الاقتصادية. ويتغذى "الصدام" من عوامل ثقافية بوضع لبنانيين موروثات الأرياف السورية "النازحة" في مواجهة نسيجهم الاجتماعي.
توقظ العصبيات الماضي وتتفاعل معه.
مشهد الممثلين جورج خباز وكاريس بشار "الفايرال" في مسلسل "النار بالنار" يختصر ربط الحاضر بالماضي لدى لبنانيين، حين يستحضر "عزيز" سلوك "قوات الردع" الاضطهادي في معرض مناهضته وجود السوريين في حيّه.
والواقع أن الخطاب اللبناني المتصاعد تجاه النازحين، والفارغ من القدرة على الفعل حتى الآن، يحيلنا الى أثره التراكمي في المتلقي.
وهنا أروي تجربتي داخل أحد مخيّمات النازحين التي زرتها أخيراً في البقاع.
كان لسان حال السوريين يختلف في الحديث بحضرة مسؤول لبناني في السلطة المحلية، يريدون إظهار الطاعة له، ويبدون الحاجة الى رعايته وجودهم. خيامهم تحت نظره و"إمرته".
هناك كلامٌ عالي النبرة عن النازحين وما يمثّلونه من عبء كان يتفوّه به هذا المسؤول، ولكن السوريين لم يجرؤوا على الردّ في حضرته.
اصطفّ عدد من الشبان السوريين، وفي عيونهم كلام كثير وغضب وانفعال يصعب إخفاؤه. المشاعر تحكي عن نفسها.
وإذا ابتعد المسؤول، فستمسع منهم كلاماً آخر، ومنه عن استفادة لبنانيين كثر من السوريين لقاء خدمات وسمسرات في الدولة من الكفالة الى وثائق رخص القيادة وغيرها من المعاملات. يضاف ذلك الى ما يسمّونه "فرض خوّات" عليهم لحماية المخيّم وغضّ النظر عن الأوضاع غير القانونية.
يعيش سوريون في لبنان اليوم تحت مجهر تنميط النظرة إليهم، لكن الشعور المتولد لا يدفع غالبيتهم الى العودة لسوريا بسبب المنفعة المعيشية. أيام "قوات الردع" ولّت. نظام "قوات الردع" انسحب من لبنان وهجّر النازحين الضعفاء. مليونان و80 ألفاً هو آخر إحصاء رسمي سمعناه من "الأمن العام" للنازحين.
يخشى اللبنانيون أعدادهم واستهلاكهم البنى التحتية والمأكل والمشرب، ويحصون الجرائم التي يرتكبها سوريون للمحاججة بالأمن الاجتماعي. ويدرك لبنانيون في الآن نفسه الحاجة الى العمالة السورية في الزراعة وأعمال البناء، والمهن الحرّة التي يمهر فيها السوريون. ويخشون سيناريوات التوظيف الديموغرافية والأمنية متى حضرت مشاريع تفجير داخلي جاهزة للبنان. في المقابل، يذكّر سوريون لبنانيين باستفادتهم من المساعدات الدولية وأموال المنظمات.
في بلدنا اليوم، سوري "خائف ومخيف"، ومشاعر سلبية تنمو بين الشعبين، ما يكرّس التأسيس لعقود أخرى آتية من عدم التسامح والتنميط البغيض. لا النظام السوري تعنيه هذه الحال وتضرّه، ولا الدولة اللبنانية قادرة على استدراك إخفاقاتها المتراكمة في ملف النزوح، ولا القوى الكبرى المؤثرة تجد نفسها معنيّة بالتحرك وإنتاج الحلول. وحدها العصبية تتحرّك.
هذه الأرض الجميلة ملعونة بصدام الهويّات القاتل. تغدو أرضاً يلتهب فيها الحقد وخطاب الكراهية. مجتمعات تتواجه بمظلومياتها، وتتعبّأ للعنف وإعادة رسم الخرائط. يصعب تصوّر أنه يمكن للضغينة المتنامية أن تؤدي الى نتيجة مخالفة.
ذات يوم، كتب سمير قصير أن "ربيع العرب، حين يُزهِر في بيروت، فإنّه يُعلِن أوان الورد في دمشق". لم نكن نعرف أن هناك عبارات تُستشهد مع صاحبها. هذا ما تخطّه أقلّه خرائط الأرض الملعونة اليوم.