طوال سنوات الانهيار الأربع، ومع انحسار الطبقة الوسطى وتحوّل الأغلبية من المواطنين إلى طبقة فقيرة، غابت النقابات العمّالية بشكل شبه كامل من المشهد، واكتفت بالبيانات "التحذيرية" والمشاركة في اللجان الوزارية، في الوقت الذي اقتصرت التحرّكات على عددٍ من التجمّعات، وانتهت من دون تحقيق أيّ نتيجة فعليّة تُذكر؛ ما يؤكّد ذلك الواقع أحوالُ العمّال الآخذة بالتراجع.
دور النقابات العمّالية فاعل بشكل عام، ويؤثّر على المشهد السياسي والاجتماعي، وفرنسا وألمانيا مثال، حيث يواجه الرؤساء والحكومات معارضةً واسعة من قبل نقابات عمّالية حول قرارات مرتبطة بسنّ التقاعد وغيرها. لكن هذا الدور غاب في لبنان خلال العقود الأخيرة، لسبب أساسيّ هو ارتباط هذه النقابات بالسياسة بشكل وطيد، وبالسلطة بشكل خاصّ.
عُرفت هذه النقابات بولائها للسلطة والأحزاب أكثر من انتمائها إلى صفوف العمّال، وارتبطت الأغلبية بفئة حزبية معيّنة وتوجّه سياسيّ معيّن، من بينها الاتحاد العمالي العام واتحادات النقل البرّي، التي تم ربط تحرّكاتها بالسياسة والمعارك، وبشكل خاصّ في عهد الرئيس السابق ميشال عون، حينما كان يلجأ برّي إلى التلويح بورقة الشارع للضغط على عون في سياق الاشتباك الذي كان حاصلاً بينهما.
حاولت قوى انتفاضة 17 تشرين دخول المعترك النقابيّ، فشاركت في انتخابات نقابات الصيادلة والمهندسين والمحامين، وحصدت نتائج متفاوتة، من دون أن تفلح في تبديل المسار النقابيّ في لبنان، الذي بقي تحت جناح السلطة، ومن دون تبدّل دينامية العمل، بسبب عوامل عدّة، منها السلطة الحالية التي تواجه قوى الانتفاضة وتُحاول محاصرتها، وغياب برامج العمل في بعض الأحيان.
مسلسل تفتيت الحركة النقابية
شرذمةُ العمل النقابي، الذي كان رائداً في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بدأت في عهد الوصاية السورية، حين مُنحت تراخيص لنقابات عشوائيّة خاضعة سياسياً للأحزاب المقرّبة من سوريا، ثمّ استُكمل الانقلاب مع سيطرة قوى 8 آذار على الاتحاد العمالي العام والنقابات الفاعلة، واستغلّت تحرّكات العمّال في السياسة، ومنها أحداث 7 أيار، التي بدأت بتحرّك للاتحاد العمّالي.
هذا يؤكد أن "الحركة النقابية مسيّسة بشكل كامل في لبنان، والسياسة تُحاول "الاستيلاء" على النقابات والاتحادات لتحريكها وفق ما تقتضي مصالحها، ولإيصال الرسائل السياسية التي تريدها وفق توقيتها، وليس وفق توقيت العمّال، لتعود وتختفي بالرغم من الحاجة إلى دورها النقابي المفترض".
وفي السياق، تتوجّه الانتقادات إلى "رأس الهرم"، أي الاتحاد العمالي العام، بأنه "ليس اتحاداً عمالياً، والدور الذي يلعبه لا يُشبه الأدوار التي لعبتها الاتحادات العمالية في وقت سابق، بسبب تدخّل السياسة، مع العلم أنّ هذا الاتحاد يتبع بشكل مباشر لأحزاب السلطة، وتحديداً حركة "أمل"، وهذه الأحزاب تقف خلف الاتحادات النقابية لتنفيذ أجندات سياسية لا تُريد أن تنفّذها بشكل مباشر"، بحسب ما يؤكّد أحد النقابيين السّابقين.
وهنا، يُمكن التساؤل عن عدد النقابات المرتفع جداً في لبنان. والجواب واضح جليّ، إذ إن السلطة السياسية، منذ زمن الوجود السوري في التسعينيات، وزّعت التراخيص لإنشاء النقابات بشكل عشوائي، فزاد عددها، وكان الهدف السيطرة على الاتحادات النقابية، لأنه - بحسب القانون - كل 3 نقابات قادرة على تشكيل اتحاد، وكلّ نقابة في لبنان تشترك في عدد من الاتحادات بشكل مخالف للقانون، الذي يمنع اشتراك النقابات في أكثر من اتحاد؛ وبهذا الأسلوب، تتم السيطرة على الحركة النقابية.
من هنا، يُجمع النقابيون على وجوب إصلاح المسار النقابي في لبنان، ويبدأ هذا المسار من غربلة النقابات والاتحادات النقابية، وإلغاء الوهميّة منها، وعددها كبير، ثم استعادة النقابيين الشرفاء إلى ميدان العمل بدل أولئك الذين يصلون بإرادة سياسية ولا يعملون لصالح العمّال، لأن دور النقابات والاتحادات فاعل ومحوري في تحصيل الحقوق ورفع مستوى معيشة العمّال.
سوريا: لا نُريد حركة نقابية والإضراب خط أحمر
بدوره، يعود الأمين العام لاتحاد لنقابات عمّال الطباعة والإعلام أديب بو حبيب إلى حقبة التسعينيات والوصاية السورية ليقول إن السوريين أرادوا تفتيت الحركة النقابية الفاعلة آنذاك، بعد الإضراب الشامل الشهير الذي نُفّذ في عام 1992، عقب ارتفاع سعر صرف الدولار، ضد حكومة الرئيس السابق عمر كرامي، الذي استقال بعد حين.
وفي حديث لـ"النهار"، يُذكّر بو حبيب بدعوة سورية تلقاها نقابيون في لبنان حينها، على رأسهم رئيس الاتحاد العمالي العام أنطون بشارة، للقاء نائب الرئيس السوري عبدالحليم خدّام في دمشق، الذي عمد إلى جعل الوفد ينتظر ست ساعات قبل اللقاء، وعند حضوره، وجّه رسالة واضحة قائلاً: "الإضراب خط أحمر. لا نُريد إضرابات في لبنان".
ويتابع بو حبيب روايته: "حينها، أيقن الوفد أن "الرسالة قد وصلت". السوريون لا يريدون حركة نقابية، فعاد إلى لبنان وعقد الاجتماعات مع باقي الاتحادات والنقابات، وكان القرار المضي بالإضراب ثلاثة أيام. لكن أعمال عُنف مشبوهة في البقاع اندلعت في أول أيام التنفيذ، فاتُخذ قرار فكّ الإضراب، وعلمنا أن ثمّة من ينفّذ أجندات سياسية".
ويلفت إلى أنه "بعد حين، تمّ تعيين عبدالله الأمين وزيراً للعمل في حكومتين متتاليتين، وهو المعروف بولائه لحزب البعث والنظام السوري، واقترح آنذاك إيجاد هيكلية نقابية جديدة، وذلك لضرب الحركة النقابية واستقلاليتها، وهدّد "إما بتمشوا معي، أو رح أعمل نقابات لكل الأحزاب والطوائف"، وهذا الحديث تُرجم على أرض الواقع مع الأيام".
في هذا السياق، يكشف بو حبيب عن وجود "650 نقابة اليوم، و67 اتحاداً، مقارنةً بـ225 نقابةً في عام 1992، و22 اتحاداً، وهذا يُشير إلى تنفيذ مخطّط إنشاء النقابات والاتحادات (بمعظمها سياسية أو وهمية) لتفتيت الحركة النقابية وتشتيتها وتفريغ النقابات من مضمونها، كما تمّت محاربة الاتحاد العمالي العام إلى أن وصلت الحال به إلى ما هو عليها اليوم، من دون هيئات، وبمجلس تنفيذي بالكاد يجتمع، ولا يتمتع بثقة الناس".
خريطة طريق لإنقاذ العمل النقابي
أما عن خريطة الطريق الواجب اتباعها لإنقاذ العمل النقابي من مستنقع السياسة، فيُشدّد بو حبيب على وجوب:
- تنظيم العمالة الوافدة غير اللبنانية على أساس الحاجة الاقتصادية بعيداً من منافستها اليد العاملة اللبنانية.
- استعادة الحركة النقابية للقيم الديموقراطية التي فقدتها، وإقرار مشروع هيكلية نقابية تقوم على 18 اتحاداً.
- منح موظفي القطاع العام حق تأسيس النقابات والانتماء إليها.
- تنفيذ إعادة الهيكلة تحت إشراف منظمتي العمل الدولية والعربية، بالتعاون مع نقابيين شرفاء.
- اعتماد سياسة العلم والخبر لتأسيس النقابات بدل التراخيص.
النقابات تردّ: نعمل بالحد الأدنى
على المقلب الآخر، ترد مصادر نقابية قيادية على تهمة التسييس؛ وإذ تعترف بأن "النقابات مسيّسة ككلّ شيء في لبنان واللبنانيين، من مجلس النواب إلى الحكومات والتعيينات ومواقع الدرجة الأولى"، وتقرّ بأن النقابات لا تقوم بواجباتها كاملةً، تُشير إلى أن هذه النقابات تعمل بقدر الإمكان لتحصيل حقوق العمّال بالحد الأدنى في ظل الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد.
وفي حديث لـ"النهار"، تُشير المصادر إلى العقبات التي تواجه العمل النقابي، وفي طليعتها غياب السلطة الفعلية للتواصل معها، لتنفّذ الأخيرة بدورها المطالب، كما تلفت إلى انهيار الاقتصاد والعملة وانعدام الاستثمار، وهي عوامل تمنع أرباب القطاعين العام والخاص من منح الموظفين حقوقهم المستحقّة.
وتعود المصادر لتذكّر بتحرّكات سابقة نظّمتها الحركات النقابية في السابق، منها التظاهرة التي دعا إليها المؤتمر النقابي الوطني في عام 1987، وشارك فيها نحو 300 ألف متظاهر، من المنطقتين الشرقية والغربية، والتقى المتظاهرون عند نقطة المتحف، وتقارنها بتحرّكات اليوم المتواضعة نسبياً، لكنها تلفت إلى الظروف الأمنية الدقيقة، التي تدفع النقابات إلى اختيار طريق المفاوضات بدل التحرّكات الشعبية.
في المحصّلة، فإن الحركة النقابية مُصادرة من قبل السلطة السياسية، التي تنفّذ مآربها الاجتماعية والشعبية من خلالها، فتضيع حقوق العمّال، لكنّه من غير الممكن أن يصلح الواقع الاجتماعي العمّالي من دون إصلاح الواقع النقابي، وهذا ما يستدعي هيكلية ودينامية عمل جديدة بعيدة عن السلطة، إلّا أن هذا المسار لا يُمكن أن يكون منفصلاً عن المسار السياسي العام، الذي ينقل البلاد من سياسة الممانعة ومحور إيران إلى السيادة.