ماذا تغيّر منذ 17 عاماً؟ هو السؤال المؤرق الذي يحضر في ذكرى اغتيال كل صاحب رأي وفكر سياسي تغييري. ويصبح الجواب أكثر إيلاماً حين تتوالى الخيبات ويمعن تلاشي الدولة في تبديد آمال التغيير.
ماذا نخبر سمير قصير اليوم؟ هل أن التغيير بات كلمة "ممجوجة" يتاجر بها وتنتحل صفات باسمها، وأن التغيير أصبح جبهات وتكتلات ومجموعات تمعن في تشتيت البوصلة؟ أم نخبره بأن الشباب الذي تأثّر بأفكاره وقرأ كلماته بنهم الثورة، استفزته انتفاضة 17 تشرين فملأ ساحاتها قبل أن يهجرها على وقع الانهيار المتمادي الى بلاد المعمورة بعد الفشل في كسر شوكة المنظومة البارعة في تجديد نفسها عبر الألاعيب والحنكة وتبادل الأدوار وعبر استمرار الخيانات...
الشهيدان سمير قصير وجبران تويني.
أنخبره بأن القبضة الأمنية التي ناضل ضدها تشتد بنفوذ أقوى وإن تبدّلت الهويات التي تأخذ البلد رهينة الى ما لا نهاية...
أنخبره عن فوز تغييريين يتحدثون بلغة الاصلاح والحداثة ويبدون أقلية تبرع حتى الآن في إطلاق الشعارات فقط...
أنخبره عن بيروت المتوسطية التي تفشل في ملاحقة جلاديها وعن أهالي ضحايا تفجير المرفأ الذين يرجمون بسبب مطالبتهم بالعدالة والقصاص من قتلة أبنائهم...
أنخبره عن فشل الديموقراطية الرازح في دنيا العرب، عن ترنح تونس وجلجلة فلسطين المستمرة وعن شيرين زهرة شهداء القدس، عن التمثيل بأحلام الياسمين في دمشق على مذبح الأمم ولعبة "الكبار".
سمير... في هذا الصباح الثقيل، تُفتح كتبك وتُقرأ في التاريخ والجغرافيا ومسار الحريات. ومن يرفضون الانكسار، وهم شامخون بعزتهم ومواصلة المسار، يردّدون معك: "اليأس ليس قدراً".
وليس أبلغ اليوم من استعادة مقالك الأيقوني الذي يصح في كل زمان ومكان: "عسكر على مين". ( 16/03/2001)
....
مشهد من الذاكرة: لسنوات، ظل الشعار مدموغاً بالاحمر على احد الجدران في حي بربور بالمزرعة، على بعد امتار من المبنى الذي قطنه الاستاذ نبيه بري قبل ان يصبح رئيساً لمجلس النواب. كان شعاراً نادراً، لم يتكرر جداراً بعد جدار على غرار غيره من عبارات التعبئة، ربما لانه كان في الاصل من صنع شاعر.
"انا شعبي اكبر يا عسكر"، كان يقول الشعار، وقد خطته يد مجهولة استفزتها على الأرجح حكومة العسكريين في بدايات الحرب. لكنه لم يكن من أدبيات الحرب، على العكس كان صدى لظاهرة مدنية في المقام الأول هي التظاهرات الطالبية التي عاش لبنان على وقعها مطلع السبعينات. بل أن الشعار هو في الاصل من "قرادة" شاعت يومها على ألسن الطلاب، ومما جاء فيها:
"وينن قياداتك، يا عسكر؟
بالحمرا بتسكر، يا عسكر
عسكر على مين، يا عسكر؟
عالفلاحين، يا عسكر".
كان من الصعب على من سمع يوماً صدى تلك التظاهرات الطالبية ألا يردد هذه "القرادة" وخصوصاً لازمتها أوّل من أمس، اذا تسنى له المرور قرب أحد المعسكرات، عفواً الجامعات.
صحيح أنه تغيّر الكثير منذ مطلع السبعينات. فأولاً كانت كلمة "العسكر" تعني خصوصاً قوى الأمن الداخلي المولجة آنئذٍ بقمع التظاهرات. ثم أن الحمرا لم تعد المكان الأمثل للهو والسكْر، بل ان السكْر لم يعد السبيل الوحيد للتلهي عن المصلحة العامة، إذ يمكن الوصول الى النتيجة نفسها بوسائل اكثر صحية، الرياضة مثلاً.
والأهم أن الجيش، الذي كان ينال قسطه من الانتقاد خلال الاشارة الى امتناعه عن حماية الجنوب، تغيّر جوهرياً، أصبح "وطنياً"، كما طمأننا قائده السابق بعد انتقاله من اليرزة الى بعبدا. واذا كان لا يزال يحاذر التوجه جنوباً، فليس بدافع من قلة الوطنية، وانما من باب الحرص على الاستراتيجيا القومية، التي لا تكتمل الا بضغط لبناني على اسرائيل من أجل القبول بالسلام العادل والشامل، كما شرح لنا رئيس الحكومة في محاولة بطولية لعقلنة اللامعقول.
جيش وطني اذاً، بل عسكر عربي. فكيف يجوز السؤال؟
يجوز.
مشهد من "الميدان": حاجز عسكري على بعد مئة متر من احدى الجامعات، أمام مقهى يقصده الطلاب في ساعات الفراغ. كل من يمر يخضع للتفتيش، ما لم يكن "مسنودا" بصلة مع جهاز. الشاب مثل الكهل، النساء مثل الرجال، المشاة مثل السيارات. الضابط الشاب بنفسه مستنفر، بنفسه، ممتلئ بخطورة مهمته، يصادر العلم اللبناني أن أخطأ العلم وظهر على مرأى من حاميه، ولا يعجبه أن يرى الطالب نفسه مرّتين، فيتوعد من يكثرون من التجوال بين الجامعة والمقهى. الضابط الشاب لا يحب الشباب، والبحث يدور عن "دفاتر الجيش"، عسى ولعل أحدهم أفلت من التجنيد، فالجنوب بحاجة الى كل القوى. لا، ليس الجنوب، ولكن لا فرق.
الأستاذ يخرج من المقهى مع أحد طلابه. الضابط الشاب ينادي المواطن الشاب. يتدخل الاستاذ. "هذا واحد من طلابي"، يقول في محاولة لتهوين الامر. "هذا مواطن عندي"، يرد الضابط الشاب، قبل ان يدفع بالاستاذ ويباشر تفتيش كتاب "القانون المدني"!.
لمَ العجَبْ من تفتيش كتاب، وإن يكن كتاباً في القانون، ومدنياً فوق ذلك؟ لمَ العجَبْ ما دام الضابط الشاب يرى الشعب مواطنين "عنده"، فينسى أن مبرر وجوده أن يكون هو "عند" المواطنين، أداة لصون السيادة ومصدرها الوحيد الشعب.
عسكر على مين؟ على المواطنين؟
طبعاً، المشكلة ليست في اداء الضابط الشاب. المشكلة في من عبأ رأسه حتى يصير كأي عسكري عربي، منتفخ الذات، يحسب نفسه اسمى من "العامة"، لا يأبه مسؤول إنْ وصلوا حيث لا يريدون الذهاب.
الى الخراب. أو الاغتراب.
مشهد من وراء الشاشة: ثكنة عسكرية في مؤسسة تلفزيونية. أو مؤسسة تلفزيونية في ثكنة عسكرية. الأحكام العرفية فجأة من دون إعلان مسبق ولا قرار من سلطة شرعية. التوقيف الاعتباطي من دون أدنى أمر قضائي. بل انقلاب على القضاء والسلطة المدنية، ومن دون بلاغ عسكري. والسؤال هنا اكثر من اي مكان آخر عن المسؤولية.
فما جرى في "المؤسسة اللبنانية للارسال" اخطر حتى من قرار تحويل بيروت معسكراً حربياً وتشويه صورة السلم الاهلي وسمعة لبنان وتطفيش المستثمرين، فضلاً عن المواطنين. هو اخطر لأنه يمثّل النموذج الصارخ ليس فقط لسوء استخدام السلطة، بل لاستخدامها من أجل مصالح شخصية. ففي النهاية الخلاف بين مساهمين في شركة خاصة، ولا يهم، في هذا المجال على الاقل، ان كان لبعضهم صفة رسمية ولا حتى طريقة حصولهم على صفة المساهم وصلاحياته. خلاف بين مساهمين قال القضاء كلمته فيه، فيقحم الجيش فيه من دون مبرر ويتحول توقيف الاعلاميين عملية حجز رهائن حتى تبدأ مفاوضات الافراج عنهم وعن مؤسستهم، فيظهر فجأة شبح المدير الخاص للأمن الخاص في "اللبنانية-السورية للتلازم والعلاقات المميزة" (شركة غير محدودة اللامسؤولية).
من يضمن أن ما حدث مع "المؤسسة اللبنانية للارسال" بحجة سياسية، فقط حجة، لن يتكرر غداً مع غيرها، ومن دون حجة، او بأيّ حجة كانت؟
من يضمن أن لا يؤدي سوء استخدام سلطة العسكر الى أن يتساءل أحد غداً: عسكر على مين؟
وأن يجيب: على الآمنين؟
اقرأ أيضاً: سمير قصير: 17 عاماً استشهاداً... ولا غياب