انطلاقاً من مناورة "حزب الله" في عرمتى، مروراً بتدريبات حركة "أمل" في أنصار، وصولاً إلى معسكرات الحزب "القوميّ السوريّ الاجتماعيّ"، تحوّل الجنوب إلى منطقة عسكرية بامتياز تضمّ مجموعات مسلّحة ومواقع أمنية خارجة عن سلطة الدولة والجيش، ما يحمل في طيّاته مؤشراً خطيراً لا يدل سوى على تقويض وجود الدولة وإطلاق يد هذه المجموعات الحزبية.
حصلت التطوّرات المذكورة سلفاً على مرأى ومسمع الحكومة ومؤسساتها العسكرية الغائبة عن المشهد، فمجلس الوزراء يقف متفرّجاً على انتشار السلاح والمواقع دون أن يحرّك ساكناً أو يُصدر موقفاً، علماً أنّه يعلم خطورة ما يحصل وتهديداته على الداخل في ظلّ تصاعد حدّة التوتر، وما قد يجرّ من تبعات كان لبنان قد اختبرها في العام 2006 في حال استفزاز إسرائيل، وقصف قاعدة قوسايا قبل أيّام خير مثال، إن صحّ خبر الغارة.
كما أنّ هذه التحضيرات الأمنية تحصل بعد قرار جامعة الدول العربية القاضي بالرفض التامّ لدعم تشكيل الجماعات والميليشيات المسلحة الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة، ولم تحمل المستجدّات سوى رسائل للمجتمعَين اللبناني والعربي، ترفع من سقف التحدّي وتؤكّد على أنّ السلاح الإيرانيّ في المنطقة خارج كلّ المعادلات والتسويات، وفائض القوّة سيُترجم سياسيّاً.
معسكرات "القوميّ" جنوباً: ماذا في المعلومات؟
بالعودة إلى معسكرات الحزب "القوميّ"، أعلن جناح ربيع بنات إعادة تفعيل العمل العسكري جنوباً على مسافة صفر من فلسطين، واستعرض "نسور الزوبعة" أحد المواقع، حيث انتشر المسلّحون ورُفعت أعلام الحزب إلى جانب صور قادة المحور الإيراني، ولكن ما كان لافتاً وجود سلاح متوسّط الحجم عبارة عن رشاشات، وليس صواريخ، ما يُشير إلى أنّ التواجد قد يكون رمزيّاً أكثر ممّا هو فعليّ.
عميد الإعلام في الحزب "القوميّ" ماهر الدنا يُشير إلى أنّ الجناح العسكري "يعمل ضمن غرفة عمليات موحّدة مع فصائل المقاومة الأخرى الموجودة في لبنان وفلسطين وسوريا، بما فيها "حزب الله"، ويندرج عمله ضمن شعار "وحدة الساحات" لأنّ قرار المقاومة واحد، ولا فرق بين فصيل وآخر".
وردّاً على سؤال حول تصنيف الحزب "القومي" كجزء من المحور الإيراني في المنطقة، يلفت الدنا في حديث لـ"النهار" إلى أنّ "القومي" لم ولن يكون جزءاً من محاور إقليمية، لكنّه يلتقي مع القيادة الإيرانية في مشروعها "لتحرير فلسطين"، وانطلاقاً من هذا المبدأ، فإنّ التنسيق العسكري مع أيّ فصيل مقاوم هو قائم.
وحول الجهوزية العسكرية "القومية"، وما إذا كان وجوده رمزياً أو فعلياً، يتمنّع الدنا عن كشف معلومات عسكرية مرتبطة بحجم السلاح ومصادره، لكنّه يُشدّد على أنّ "الوجود حقيقيّ وليس استعراضياً"، ويعتبر أنّ عسكره معرّضون لخطر إسرائيلي حقيقي، مذكّراً بعمليات الاغتيال التي استهدفت قادة "الجهاد" في غزّة، وبالتالي "من يريد أن يخطو هكذا خطوة يعلم تماماً حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، فالحزب جدّيّ بخطواته وبعيد عن الاستعراض"، وفق الدنا.
كما يرفض الدنا كشف المناطق التي ينتشر فيها "القومي" جنوباً، وما إذا كانت معسكراته تتمركز جنوب الليطاني، أي في نطاق القرار 1701، أو شماله، إلّا أنّه يؤكّد أنّ الحزب يعمل تحت سقف القرارات الدولية المعتمدة من قبل الدولة اللبنانية، لكن هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ "القوميّ" في بيان الإعلان عن جولة قيادته على مواقعه العسكرية قال إنّه على مسافة "صفر" من فلسطين.
أمّا بالنسبة إلى توقيت عودة العمل العسكري، يوضح الدنا أنّ "القيادة السابقة في الحزب (أسعد حردان) قايضت العمل المُقاوم بالعمل السياسيّ والمشاركة في السلطة، ومع التغيير الذي حصل (وصول قيادة جديدة)، اتُّخذ القرار بتفعيل الجهد والعمل العسكريّ، وهذا كان بالتزامن مع مشروع "وحدة الساحات" في المنطقة".
إلى ذلك، يؤكّد الدنا التنسيق مع النظام السوري في سياق هذا الجهد العسكري، ويعتبر أنّ "أيّ فصيل مقاوم، مهما بلغت قوّته، لا يُمكن أن يعمل دون ظهر الدولة السورية، لأنّها عمق العمل المُقاوم، وصاحبة كلمة السرّ، وكلّ الفصائل تنسّق مع سوريا".
ويختم الدنا حديثه مؤكّداً أنّ سلاح الحزب موجّه إلى إسرائيل وليس إلى الداخل، ويرى أنّ "القومي" بعيد "كلّ البعد عن استفزاز الأطراف اللبنانية، خصوصاً وأنّه يعمل تحت ما شرّعه البيان الوزاريّ للحكومات المتعاقبة وتحت لواء الجيش والشعب والمقاومة".
هذا دور "القوميّ" العسكريّ جنوباً
العميد المتقاعد ورئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات هشام جابر يستبعد امتلاك "القوميّ" الصواريخ والسلاح الثقيل، ويُشير إلى أنّ "دوره العسكريّ من المرجّح أن ينحصر في مساندة مجموعات "حزب الله" بالعمليات البرية والاقتحامات في حال حصلت يوماً، لأنّه يتمتّع بخبرة في حرب الشوارع".
لكنّ جابر يطرح سلسلة من الأسئلة عبر "النهار": "هل يُريد "حزب الله" انضمام حلفائه إلى ميدانه العسكريّ؟ هل من مصلحة الحزب أساساً وجود أطراف عسكريّة أخرى في الجنوب، وبالتحديد في نطاق القرار 1701؟ وأين يتواجد "القوميّ" جنوباً؟ وهل سيعمل بشكل منفرد أم مع فصائل المقاومة"؟ وما هي مرجعيّته؟"
وردّاً على هذه الأسئلة، يُشير جابر إلى أن "لا قرار بقيام "القوميّ" بعمليات عسكرية جنوباً، لأنّ "حزب الله" أساساً لا يقوم بالعمليات، وما من معارك دائرة للمشاركة فيها، كما أنّ "حزب الله" لا يُناسبه وجود مسلّح آخر في الجنوب بغضّ النظر عن الهوية، لأنّ ذلك سيفضحه، وهو الموجود في مناطق الـ1701 لكن بشكل مستتر".
لكنّه يُشدّد على أنّ عمل "القومي" سيجري بالتنسيق مع "حزب الله"، ولن يُشكّل الجهد العسكري مُشكلة للأخير في حال التزم الأوّل بالانضباط والتنسيق معه بشكل تامّ، إلّا أنّ السؤال يبقى عن شكل التنظيم وشكل المشاركة في إطار مساندة مجموعات "حزب الله" الاقتحاميّة، كقوّات "الرضوان"، في حال حصول أيّ عمل عسكري جنوباً.
ويؤكّد جابر اعتبار الحزب "القومي" وجناحه المسلّح من ضمن المحور الإيراني في المنطقة، ويرى في عودته إلى العمل العسكري رسائل إلى الداخل في هذه المرحلة الدقيقة، وفي ظلّ تصاعد حدّة الخلافات بين الأطراف.
تطوّرات عسكريّة تخدم إسرائيل؟
من جهته، لا يرى القيادي السابق في حزب "الكتائب" فادي الهبر بالعراضات العسكرية الجنوبية المتنوّعة سوى الإمعان في انهيار الدولة ومؤسساتها وخدمة المشروع الإسرائيليّ، ويُشير إلى أنّ "التطوّرات التي حصلت جنوباً في الأشهر الماضية دعمت موقف بنيامين نتنياهو المأزوم سياسيّاً، في حين يفقد لبنان سيادته ويتراجع اقتصاده".
وفي حديث لـ"النهار"، يعتبر الهبر أنّ "حزب الله" يسعى من خلال السلاح المتعدّد الهويّات الموجود جنوباً إلى التسلّط أكثر وترجمة فائض القوّة سلطةً سياسية، ويُريد من خلال الحشد العسكريّ وهذا المشهد المتفلّت غضّ النظر عن اتّفاق ترسيم الحدود الذي عقده مع إسرائيل.
وعن الجنوب، يقول الهبر إنّ "هذه المنطقة تحوّلت إلى دويلة مافيات، تحكمها فوضى السلاح والعسكرة والقرارات السياسية التابعة للحزب، وثمّة تسابق مُريب بين "حزب الله" والدولة وجيشها، وهذا السلاح موجّه نحو الداخل وليس إسرائيل، الأمر الذي يُهدّد وحدة لبنان".
في المحصّلة، إنّ الأنظار ستكون شاخصة على الجنوب ودور "نسور الزوبعة" والمجموعات العسكرية الأخرى في أيّ تطوّر عسكريّ يستجدّ بين "حزب الله" وإسرائيل، كما أنّها ستكون مراقبة لكيفيّة ترجمة هذه القوّة العسكريّة في السياسة والمجتمع، ولكن ما هو مؤكّد، أنّ مشهداً غير صحّيّ يشهده الجنوب وصولاً إلى العمق اللبنانيّ.