دائماً ما أحاط التأثير الدولي والإقليمي بالاستحقاق الرئاسي في لبنان. دولياً أميركا بالدرجة الأولى ومن ثم فرنسا، وإقليمياً، اختلفت القوى باختلاف المرحلة والظرف، فانتقل التأثير من سوريا سابقاً إلى إيران اليوم. وفي خضم المعارك التي تُخاض على جبهة رئاسة الجمهورية، تكثر التحاليل وتتناقض أحياناً بشأن الدور الغربي في هذا الاستحقاق، وموقع لبنان في الأولويات الدولية.
الاهتمام الأميركي بالميزان
كغيره من البلدان، للبنان حيثية لدى المجتمع الغربي وتحديداً لدى الولايات المتحدة الأميركية. فبنظرة على التاريخ الحديث ومجريات الحرب اللبنانية، مروراً باتفاق الطائف وصولاً إلى مرحلة الاستقلال الثاني في الـ2005 وما بعده، يمكن لمس حجم الاهتمام الأميركي بلبنان، والذي عادة ما يكون متفاوتاً، استناداً أولاً للإدارة الموجودة، وثانياً، للمعطيات السياسية التي تحكم المرحلة، وثالثاً، لحجم انخراط اللبنانيين وتواصلهم مع أي إدارة أميركية بخصوص ملف معيّن. وهذا ما يحفّز مطلق أي إدارة للذهاب بعيداً في أيّ إنجاز يكون لمصلحة لبنان، على غرار القرار 1559.
يمكن المقارنة بمرحلة الرئيسين الجمهوريين رونالد ريغان وجورج بوش الأب. فالأول كان وإدارته يعملان على التصدي للدورين الإيراني والسوري في لبنان، فيما الرئيس بوش الأول، قايض في العام 1990 عبر وزير خارجيته جيمس بايكر، لبنان، بتدخل سوريا ووقوف حافظ الأسد إلى جانب الحلفاء خلال حرب العراق – الكويت.
والسبب بحسب وليد فارس البروفيسور في الاستراتيجيات العالمية والأمين العام للمجموعة الأطلسية النيابية، أن تغيّر السياسة تجاه لبنان، فرضته التطورات الإقليمية والدولية، والأهم، الانفجار الذي حصل في المنطقة الشرقية في الداخل اللبناني، فتم وضع لبنان تحت النفوذ السوري. ولو لم تنفجر الأوضاع في المنطقة الشرقية، برأي فارس، لما تغيّرت السياسة الأميركية تجاه لبنان. من هنا، فإن الاهتمام الأميركي بلبنان متواصل، لكن السياسة تختلف وتتبدّل بحسب الظرف والمعطيات.
انحسار الاهتمام الأميركي بقي طيلة عهد الرئيس بيل كلينتون إلى حين وقوع حادثة 11 أيلول الإرهابية، فبدأ التغيير في السياسة الأميركية تجاه لبنان على عهد الرئيس جورج بوش الابن. وثمار هذا التغيير كان القرار 1559، الذي صدر بطلب لبناني داخلي.
وينقل فارس عن مسؤولين سابقين في الإدارة الأميركية أنّ السياديين في لبنان آنذاك أُعطوا فرصاً كثيرة ولم يحسنوا استغلالها. لتعود هذه السياسة لتشهد تغيّرات بدأت في الـ2008، لعدّة أسباب، منها أولاً، عملية "حزب الله" في 7 أيار، استراتيجية الرئيس باراك أوباما ثانياً، والمرتبطة بالملف النووي ثالثاً. لتنقلب مع مجيء دونالد ترامب، ثم تتغيّر مجدداً مع الرئيس الحالي جو بايدن.
واليوم، تتلخص السياسة الأميركية تجاه لبنان بالمحافظة على الستاتيكو الحالي مع إيران و"حزب الله"، لأنّ الأهم هو الاتفاق النووي.
الدور الفرنسي...
انطلاقاً من هنا، يتخوّف قسم من اللبنانيين من السقوط مجدداً، والوصول إلى لحظة يُسمح فيها بانتخاب رئيس من محور "حزب الله". كما تُطرح تساؤلات عن مدى قدرة الدور الفرنسي على تحقيق المعالجات لبنانياً من دون واشنطن.
لا يرى فارس أيّ دور مستقل وقادر غير الدورين الأميركي والإيراني في لبنان. الأول هو لإيران عبر "حزب الله"، والثاني هو لواشنطن عبر قدراتها المباشرة. أمّا الحراك الفرنسي فيكون من ضمن الدور والإرادة الأميركيين، نظراً لعلاقات فرنسا التاريخية مع لبنان.
وفرنسا اليوم تعمل على الملف اللبناني بالتنسيق مع الأميركيين، الذين بحسب فارس، من غير المستبعد دخولهم على خط المعالجات بشكل مباشر أكثر في حال الشعور بخطورة فشل المساعي الفرنسية، ضمن تصعيد محدود السقف تجاه ايران و"حزب الله"، على خلفية الاتفاق النووي بشكل أساسي، وبسبب امتناع ايران في الوقت نفسه عن القيام بأي عمل عدائي يفجّر الوضع في لبنان، بسبب عدم الاستقرار في طهران، والخوف من أيّ ردّة فعل غربية وعربية، على رغم أنّ هناك فريقاً في إيران يرى أنه من المفيد تصليب الموقف الإيراني في الداخل اللبناني لتحصيل المكتسبات ومنها رئاسة الجمهورية. مع العلم، بحسب ما يؤكد فارس، أنّ الرئاسة ليست هي الأهم بالنسبة للإيرانيين و"حزب الله" بقدر ما سمّاه فارس "الأرض". وهذا يعني أنّ فريق "حزب الله" يمسك باللعبة البرلمانية، وبالقرار اللبناني.
والأكيد ان هذا الأمر سيؤثر على انتخابات رئاسة الجمهورية. تلخيصها أنه لن يكون هناك رئيس جمهورية في لبنان لن يرضى عنه "حزب الله". الإدارة الحالية والاتحاد الأوروبي يأملان بتوقيع الاتفاق النووي، وانطلاقاً من هذه المعادلة لن تفتح الإدارة الحالية حرباً أو تمارس ضغوطاً على الحزب اذا حاول أن يفرض رئيساً من طرفه، من أجل المجيء برئيس سيادي والدفاع عن المعارضة، التي لم تطرح حتى الآن أي مشروع على الكونغرس أو على الإدارة يطالب بمواجهة سيطرة "حزب الله" على لبنان.
لا تغيير في السياسة الأميركية
انطلاقاً من كل هذه المعطيات، يرى فارس أن مجيء سليمان فرنجية أو جبران باسيل يبقى بمثابة تفاصيل ثانوية بالنسبة للولايات المتحدة، والمعادلة الآن الحفاظ على الستاتيكو الحالي، لسببين:
الأول، لا سياسة بديلة للإدارة الأميركية.
ثانياً، غياب التنسيق بين الفريق السيادي في لبنان والأميركيين.
فالسياسة البديلة يمكن أن تحصل إذا تحرّك الوضع داخل لبنان في حركة مقاومة أو معارضة ضد "حزب الله"، أو اذا تغيّرت الأوضاع في إيران. وإلاّ فإنّ السياسة القائمة ستبقى ولو أننا سنشهد في الأشهر المقبلة ضغوطاً من داخل الكونغرس على الإدارة لتغييرها.
ويرى فارس أنّ "حزب الله" يستفيد من التغيرات الحاصلة وسيصلّب تمسكه بـ"الأرض"، وهو ما يظهر من خلال عمليات استيطان يقوم بها وتهريب للسلاح وتجهيز ميليشيات خارج مناطق نفوذه، وهذا ما يُسمى بـ"المواجهة العددية".
رئيس يحمي المقاومة
أمام هذه السطوة لـ"حزب الله"، والمصالح الأميركية والأوروبية لجهة الرغبة في الانتهاء من التوقيع على الاتفاق النووي الجديد، يسعى الحزب إلى انتخاب رئيس يحمي المقاومة، وهو أمر غير مستبعد أن يحصل، خصوصاً أنّ الحديث عن وجود أسماء تريدهم واشنطن او غيرها غير صحيح وهو فقط سائد في العقلية اللبنانية. علماً أن طرح اسم قائد الجيش اذا اتفق عليه اللبنانيون لا تعارضه واشنطن ولو أنها تفضل وصول رئيس مدني.
دعوة البطريرك
هذا النزف اللبناني، له سبيل واحد للحلّ بحسب بكركي، هو "المؤتمر الدولي من أجل لبنان". واللافت أنّ دعوة البطريرك لها مؤيدوها داخل الكونغرس ممّن ينادون بتدويل الأزمة اللبنانية وتطبيق القرار 1559. ولكن، كما هو معلوم، السياسة الخارجية تضعها الإدارة ويموّلها الكونغرس. وهذا يعني، بحسب فارس، أنّ واشنطن ستشهد في المرحلة المقبلة توازناً داخل الكونغرس، ومبادرة البطريرك ستكون لها حظوظ كبيرة لأن تلقى آذاناً صاغية وأن تتحوّل إلى واقع. وجلّ ما هو مطلوب أن يقوم فريق لبناني بإرسال مذكرة إلى الكونغرس والمطالبة بالبت بما يريده البطريرك بشارة الراعي.
ويقول فارس: "اقترحنا دعوة البطريرك إلى الكونغرس ليلقي خطاباً حول أهداف المؤتمر والأزمة اللبنانية، واذا حصل هذا الأمر سيكون له دعم لامحدود من نصف الأميركيين".
ويرى فارس أن "المطلوب في الأشهر المقبلة، استراتيجية واضحة من الفريق السيادي بالنسبة للبنان، وهذا يمكن أن يثير الرأي الدولي والأميركي وينتج توازناً يستفيد منه لبنان. المطلوب منهم الصمود والمبادرة. ويحذر من أنه إذا لم يحصل التحرّك المطلوب من الفريق السيادي فسيربح الطرف الآخر، وفي واشنطن أيضاً".