حين رفع الشهيد جبران تويني قلم الصحافة الحرّة في ساحة الشهداء، مُكرِّماً زميله الشهيد سمير قصير، كان مدركاً أنّ للحريّة أثماناً باهظةً، وأنّ كلمة الحقيقة لا بدّ وأن تنغمس بالدمّ، لتُحمَى، وتترفّع عن محاولات إسكات أو قمع أو ترهيب.
لطالما ارتبط اسم لبنان منذ نشأته بالحريّة، من حريّة المعتقد والتعبير وصولاً إلى حريّة الإعلام، وهذا ما تجلّى في عمل القطاع الإعلاميّ الخاصّ، وتنوُّع الصحف، وعدم اقتصاره على الإعلام الرسميّ. وعلى عكس غالبية الدول العربيّة، يلمس عدد من الصحافيّين المخضرمين والشباب في لبنان، حقيقة الواقع الصحافيّ، مؤكّدين على "هامش الحريّة الكبير" الذي نتمتّع به، برغم بعض الهفوات، وهذه الحريّة تُعَدّ "ثروة تُميّز البلد عن جواره".
في اليوم العالميّ لحريّة الصحافة، نناقش مع زملاء في مؤسسات إعلاميّة امتهنوا العمل الصحافيّ لسنوات طويلة، وخاضوا تجارب في الدفاع عن مواقفهم. بعضهم تعرّض للاعتداء في الشارع، وآخر دفعت مؤسّسته ثمن الكلمة دماً، ولم تخضع.
نبدأ مع مؤسّستنا، "النهار"، التي يصفها نائب رئيس التحرير نبيل بو منصف بـ"أمّ الصحف" في لبنان، معتبراً أنّ "حريّة الإعلام ملموسة طالما هناك أحرار يقاومون أيّ نزعة أو اتّجاه لتقليص الحريّات الإعلاميّة أو قمعها".
ليس هناك صحيفة في لبنان والعالم العربيّ دفعت ثمن إيمانها بحريّة الصحافة والحريّات السياسيّة والعامّة بقدر "النهار"، فقد قدّمت شهيدَين مناضلَين، هما رئيس تحريرها جبران تويني والزميل سمير قصير. كما تعرّض الراحل غسّان تويني للسجن، والزميل ميشال بو جودة للاعتداء الجسديّ. وسابقاً، في زمن الوصاية السورية، تعرّض عدد من الرعيل الأوّل في الصحيفة إلى التوقيف، منهم أنسي الحاج وفرنسوا عقل وإدمون صعب.
يروي بو منصف التحدّيات التي واجهت "النهار" على مرّ السنوات بالقول: "لم يبقَ حزب سياسيّ أو قوّة غاشمة كانت تسعى إلى السيطرة على لبنان إلّا واستهدفت الصحيفة، ما أدّى إلى إقفالها وتوقّفها عن الصدور لأسابيع عند دخول القوات السوريّة إلى بيروت، والسيطرة على أرشيفها"، إلّا أنّ الاستمراريّة، في العيد الـ90 للمؤسّسة، دليل واضح على أنّه "لدينا مهمّة لن نتنازل عنها، فهي ملازمة لوجودنا واسمنا ورسالتنا، وقد تحدّينا اغتيال جبران ولن نتراجع".
المشهد التلفزيونيّ في لبنان
أكثر من 30 عاماً على عمله الصحافيّ ولا يزال الزميل في "المؤسّسة اللبنانية للإرسال" يزبك وهبي يحافظ على أخلاقيّات المهنة، رافعاً شعار "حريّة الإعلام هي عمل وممارسة ورسالة". وبُعيد مشاركته في مؤتمر حول حريّة الصحافة في مبنى الـ"يونيسكو" في بيروت اليوم، دعا إلى "تعزيز مفهوم الحريّة حول العالم"، مندّداً بـ"التعرُّض لحريّة الصحافة في عديد من الدول، إذ ثمّة صحافيّون يُقتَلون في الدول الفقيرة التي تعاني من نزاعات وحروب، في حين أنّ بعض الدول الأوتوقراطيّة أو الديكتاتوريّة لا تتقبّل الرأي الآخر".
وأمام هذا الواقع، يُعدّد وهبي العقبات التي قد تحدّ من حريّة الصحافة، بدءاً من "فرض قوانين جائرة، وعدم الكفاية الماليّة للصحافيّ ما يدفعه لأن يكون عرضة للارتهان، إضافة إلى القمع واستخدام السلاح وترهيب الصحافيين"، مؤكداً أنّ "الحرية تُحمَى من خلال الأنظمة المؤمنة بالحرية أوّلاً".
وبالرغم من تعرّض صحافيين للاغتيال والسجن في لبنان، تبقى مساحة الحريّة أفضل من دول عربية، برأي وهبي، الذي يرى أنّ الفجوة مع الحريّات في الإعلام الغربيّ يُعزّزها "غياب القانون المنظّم للإعلام الإلكترونيّ في لبنان، إذ يتعرّض الصحافيّون والناشطون والمغرّدون للانتقادات والملاحقة عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، خصوصاً من يعمد إلى الشتم وليس إلى التعبير عن الرأي". ويقول: "أؤيّد حريّة الرأي التي قد تصل أحياناً إلى الهجوم، ولكن شرط أن تبتعد عن الشتيمة".
الفجوة القانونيّة التي خلّفتها "فوضى" القطاع الإلكترونيّ وتمدّده تعود إلى تقلُّص المفهوم المهنيّ، وهو ما يتشاركه بو منصف بالرأي مع وهبي، معتبراً أنّه "نحن في معركة دائمة للحفاظ على حريّة الصحافة"، آسفاً لـ"تخلّفنا" عن حرية الإعلام في أوروبا، إذ "لم يعد لدينا الألَق الصحافيّ السابق، ليس بسبب القمع فحسب، بل إنّ الأزمة الماليّة والاقتصاديّة في لبنان تؤثّر بشكل هائل وخطير على الإعلام، فعندما يفقد الإعلام استقلاليّته تتراجع حريّته".
اعتداءات على مؤسّسات إعلاميّة
في زمن الوصاية السوريّة، كانت إدارات المؤسّسات الإعلاميّة، ومنها الـLBC، تُرسل تعليمات إلى مراسليها لتفادي الخوض في مواضيع معيّنة، نظراً إلى أوضاع سياسيّة وعسكريّة كانت مسيطرة حينذاك، في حين أضحت مساحة الحريّة أوسع في لبنان بعد العام 2005. لم تسلَم "المؤسّسة اللبنانيّة للإرسال" من الاعتداءات أيضاً، وقد دفعت ثمناً، فبعد أقلّ من 3 أشهر على اغتيال الزميل سمير قصير، حاولت أيادي الغدر استهداف الإعلاميّة مي شدياق، تاركة حينذاك مشهداً أسودَ في تاريخ الصحافة اللبنانيّة الحرّة.
برأي الزميل بسام أبو زيد، فإنّ مفهوم حرية الصحافة هو أن "يكون الصحافيّ قادراً على تناول المواضيع التي يرغب بها شرط أن يتمتّع بالمصداقيّة والموضوعيّة والأصول المهنيّة"، مؤكّداً أنّ "ثمن الحريّة الإعلاميّة كبير، ومن يطبّقها بشكل جيّد يجب أن يتوقّع التعرّض للكثير من المقايضات كالقتل والتخوين".
يتخوّف أبو زيد من ثقافة باتت سائدة على لبنان بـ"عدم تقبّل الرأي"، ومن الممكن أن "تأخذ البلد إلى مكان آخر، وهذا ما يُهدّد الحريّة الإعلاميّة في ظلّ غياب قانون للإعلام يُنظّم العمل الصحافيّ، كما يجب على القضاء أن يتصرّف بمسؤوليّة عند إحالة أيّ صحافيّ إليه".
إشكاليّة مسؤوليّة القضاء تطفو إلى الواجهة مع كلّ استدعاء لصحافيّ للمثول أمام المحكمة العسكريّة أو الخضوع أمام أجهزة أمنيّة، في تعدٍّ فاضح لأسس المحاكمة أمام محكمة المطبوعات. هذا الأمر يعتبره الزميل إدمون ساسين "عائقاً أمام ممارسة الحريّات الإعلاميّة التي ترعاها القوانين والدستور"، إضافة إلى "إتاحة قانون الوصول للمعلومات الذي من المفترض أن يُسهّل عمل الصحافيّ ويمنحه حريّة في بناء تحقيقاته وفق معلومات دقيقة". ولا يغفل ساسين في التشديد على ضرورة أن "يكون الصحافيّ محصّناً ماليّاً واقتصاديّاً تجاه أيّ طرف، والامتناع عن تلقّي الهدايا والخلط بين العلاقات الشخصيّة والمهنيّة".
إلى ذلك، حاول ساسين وزملاؤه في قنوات تلفزيونيّة أخرى تغيير قاعدة التعاطي مع القضاء، فبادروا مراراً إلى تحويل كلّ تحقيق متّصل بقضيّة فساد على القضاء المختصّ، كجزء من العمل الصحافيّ المسؤول.
"شجاعة" الصحافيّ قد تُهدّد حياته
ثمّة مخاطر على الأرض تُهدّد الفِرق الإعلاميّة وخصوصاً التلفزيونيّة، التي يعتبرها البعض "مكسر عصا" في الشارع، ما يعرّضها لاعتداءات بسبب اختلاف الجمهور مع سياسة المحطّة، وقد شهد لبنان اعتداءات عديدة طالت مؤسّسات بقوّة السلاح والقنابل، وآخرها قناتَي الـLBCI في 22 كانون الثاني الماضي، و"الجديد" نهاية كانون الأوّل 2022.
فقد اختبر الزميل في قناة "الجديد" فراس حاطوم، في حادثتَين أمنيّتَين، خطر السجن والملاحقة القضائيّة، الأولى قضية المحكمة الدوليّة وزهير الصدّيق، والثانية وثائقيّ يتعلّق بالمطلوب فضل شاكر، بعد أحداث عبرا. وممّا لا شكّ فيه أنّ مراكمة الخبرة الصحافيّة عبر السنوات تُعلّم دروساً مهمّة، أبرزها، وفق حاطوم، أنّ "الوصول إلى المعلومة لا يتطلّب الاندفاع الجسديّ الكامل إلى حدّ التهوّر، ويجب الحذر والوصول إلى المعلومة من دون المخاطرة الجسديّة".
إلى ذلك، يعتبر مدير العلاقات العامة في قناة "الجديد" إبراهيم الحلبي أنّ "الطبقة السياسيّة حاولت تقييد الحريّة الإعلاميّة أو قمعها أحياناً، مثل تعرّض القناة مراراً للاعتداءات بالرصاص والحرق والضرب لمراسلين ومصوّرين، ورفع دعاوى علينا بالقضاء، في حين لم تمتنع المؤسّسة عن استكمال مسيرتها، في ظلّ وجود ضغوط على القطاع الإعلاميّ ككلّ".
كما يؤكّد أنّ "القوانين تمنح الحريّة للقطاع الإعلاميّ، لكنّ الحكومات المتعاقبة كانت تنزعج من آراء تُعارض سياساتها ما أدّى إلى صراع بين الإعلاميّين والسلطات المتعاقبة حول إفساح المجال كاملاً لحريّة الإعلام ومنح القضاء لممارسة دوره من التدخّل من السلطات السياسيّة والأمنيّة". هذا الخلل في القوانين يقابله الحلبي بالإعلان عن "مناقشة مشروع قانون موحّد للإعلام، في وزارة الإعلام، يُنظّم أيضاً عمل الإعلام الإلكترونيّ".
مواقع التواصل تُقيّد الحريّات أيضاً
تُعَد سياسة المؤسّسة الإعلاميّة أوّل حاجز يُبنى بين الصحافيّ وحريّته في التعبير، في حين لم تستطع مواقع التواصل الاجتماعيّ، التي لجأ إليها كثيرون لتفادي الرقابة، في تشكيل داعمة حقيقيّة للحريّات، بالرغم من عدم وجود رقابة مسبقة على المضمون، إذ يعتبر حاطوم أنّ "كلّ شخص أصبح اليوم مالكاً لمؤسسة إعلاميّة من خلال السوشيل ميديا، إلّا أنّ الحرية هنا أيضاً ليست مطلقة".
ولطالما عمدت منصّات "تويتر" و"فايسبوك" إلى إلغاء منشور أو تجميد حساب مستخدم، بسبب خرق المنشور سياسات المنصّة. ويضيف حاطوم لـ"النهار": "السوشيل ميديا التي كانت مهرباً للكثيرين باتت حريّتها مقيّدة، وليس شرطاً أن تكون الحريّة المطلقة إيجابيّة لِحاجتنا إلى الضوابط، خاصّة للأخبار المضلِّلة وغيرها، وهذا طبعاً لا يُبرّر القمع".
بين الحريّة والديموقراطيّة
في تجربة صحافيّة جمعت بين الإعلام المرئيّ والمسموع والمكتوب، لم يتعرّض الزميل عماد مرمل لأيّ قمع أو رقابة مشدّدة، ويعود ذلك، برأيه، إلى ضرورة أن "يكون لدى الصحافيّ نوعٌ من الرقابة الذاتيّة بتقدير اللحظة والظرف والمصلحة العليا على أيّ تصريح".
يُفرّق مرمل، في حديث لـ"النهار"، بين الحريّة والديموقراطيّة، فـ"الهوّة تكمن في كيفيّة ترجمة الحريّة إلى ديموقراطيّة وأن يكون لها تأثير في القرار والتغيير"، مؤكّداً أنّه "يجب أن تكون الحريّة مرفقة بالمسؤوليّة حتّى لا تتحوّل إلى فلتان وفوضى".
لا ينكر مرمل أنّ للحريّة الإعلاميّة ثمناً في لبنان، إلّا أنّه "يجب أن تكون لها قواعدُ ناظمةٌ، فيجب أن تُنظّم محكمة المطبوعات أيّ خلاف أو مخالفة لصحافيّ، لئلّا نتّجه إلى قمع عسكريّ أو سياسيّ"، مؤكّداً أنّه "يجب ألّا تدّعي السلطة على الصحافيّ، فيحظى بتعاطف الرأي العام عند مثوله أمام المحكمة، ظالماً كان أم مظلوماً، وتنتصر عندئذ قضيّة الحريّة".