النهار

رسالة إلى الصديق وزير المال
الوزير يوسف الخليل.
A+   A-
المحامي كميل قيصر داغر


أظن أني تأخرت كثيراً في الكتابة إليك، ليس لأهنئك، بالتأكيد، بالمنصب الذي حُزته، بدعمٍ من كل من الثنائي الشيعي، وحاكم المصرف المركزي، بل لأعبّر لك عن ذهولي لقبولك هذه المسؤولية، ولبنان قد انحدر إلى عمق هاويةٍ وصفها أحد المتسببين بإيصاله إليها، بـ"جهنم"! ذلك أنك لن تتمكن من أن تحقق في الموقع الذي وُضعت فيه أياً من الأحلام التي كانت تراودك يوم كنتَ في مقتبل شبابك، وحين اقتربت كثيراً من "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، وهي في أوج تجذّرها. ستحقق فقط إملاءات الثلاثة المشار إليهم أعلاه، والذين "رفعوك" إلى حيث أنت الآن! وهو ما يظهر واضحاً في كل ما فعلته منذ لحظة وصولك إلى المبنى الكائن في أحد التفرعات عن ساحة رياض الصلح، على مقربة من المجلس النيابي، حيث يتربع واحد من الثلاثة هؤلاء، منذ ثلاثين عاماً.

بين أهم هذه الأفعال، لا بل أهمُّها أمورٌ ثلاثة:
1- الموازنة العامة، وربما هي أسوأ الموازنات في تاريخ لبنان، منذ عام الاستقلال عن الدولة المنتدبة سابقاً عليه، فرنسا. ولن أستفيض في شرح الأسباب الكامنة وراء استنتاج كهذا، مكتفياً بالقول إنكم (أي أنت ومن وضعك في هذه المسؤولية)، في الوقت الذي جرى فيه إيصال الشعب اللبناني إلى هذه المأساة، من جانب عصابة من مصاصي الدماء، نهبت الأخضر واليابس من خيرات الشعب المذكور ومقومات عيشه، وانحدرت به إلى مهاوي الجوع والبؤس، عمدتم إلى مساواته، على صعيد الضرائب والرسوم، مع من سبق ان سمّاهم، ذات يوم، واحدٌ منهم، السيد وليد جنبلاط، حيتان المال، غير مستثنٍ نفسه من هذا الوصف. وأبقيتم على كل المسارب التي تسمح لمن في السلطة ومواقع القرار فيها بإهدار أموال المواطنين، الباقية، واستنزافها، وسرقتها.

2- مشروع "الكابيتال كونترول"، الذي يحابي أصحاب المصارف، والمودعين الكبار، والدولة، الممثلة بالمصرف المركزي، ولا يعطي حتى أي وعد جدي بضمان إرجاع ودائع المودعين المتوسطين والصغار، لا بل يشملهم، ولو بصورة غير مباشرة، بعملية "قص الشعر". كما لا يتضمن أيَّ اهتمام بالتعويض على الناس العاديين الذين نزل مستواهم المعيشي إلى أدنى درك، وهبطت قيمة جنى عمرهم، ورواتبهم، وغير ذلك من مصادر عيشهم، إلى مستويات مزرية.

3- المشاركة، عن كثب، في مسعى التعتيم على حقيقة ما جرى في الرابع من آب 2020، عبر رفض التوقيع على مرسوم تعيين قضاة محاكم التمييز، مع ما يعنيه ذلك من منع مواصلة التحقيق في الجريمة الكبرى التي اقتُرفت آنذاك، وضرب دور القضاء في إحقاق الحق، وفي الحيلولة دون إعفاء المجرمين الحقيقيين من العقاب.


صديقي الدكتور يوسف الخليل،
إذ أستعرض هذه الصورة البالغة الكآبة، أتذكر المرة الأولى التي تعرفت إليك فيها، في شتاء العام 1995. كان ذلك بعد سنوات من انهيار الاتحاد السوفياتي، والمعسكر الذي كان يتحلق حوله، وبعد تراجع الصين، هي الاخرى، إلى الرأسمالية... وقد أثَّر ذلك جداً، في الاستعدادات النضالية، وفي مستوى المعنويات، كما في الاستيعاب النظري للفكر الماركسي، وأشكال النضال لوضعه موضع التطبيق، الامر الذي جعل رهطاً ممن ظلوا على قناعاتهم الاصلية يتنادون للتلاقي في ما سُمِّيَ مسعى إعادة إعمار اليسار.

ولكن العديد ممن حضروا الجلسات الأولى سرعان ما انكفأوا إلى حالةٍ انتظارية، ولم نعد نراهم في الاجتماعات. اما انت فواظبت على حضورها، لا بل سرعان ما عرضْتَ استضافتنا في بيتك الواسع، وقبِلَ بذلك الجميع. وبقينا نجتمع لديك أشهراً، لنقاش نصوص سياسية ونظرية ترتبط بالوضع اللبناني، والآفاق المستقبلية للنضال على صعيده، كما على الصعيدين الإقليمي والعالمي. هذا وبعد انفراط الاجتماعات، بقرار من القادمين إلى ذلك المسعى من الحزب الشيوعي اللبناني، الذي فضّل الانصراف كلياً إلى إعداد مشاركته في انتخابات 1996 النيابية، بقيتُ على تواصل معك، اكثر من عشرين عاماً، وظللتَ أنت تحضر، ولو في اوقات متباعدة، ندواتنا الفكرية والسياسية، وإن لم أكن اطمح إلى أن تتخطى العلاقة بيننا تبادل الآراء والافكار. في المقابل كنت أسمع منك احياناً عن تجربتك مع صيادي صور، الذين اهتممتَ، على ما أذكر، بإيجاد رابط يجمعهم، ويساعد في تحسين أوضاعهم المعيشية. وفي هذا الإطار، أخبرتني ذات يوم عن الحديقة العامة التي أنشأوها، بحيث يلهو فيها اولادهم، ويرتاح على مقاعدها شيوخهم، وأي مواطن يود الخلود إلى الهدوء فيها، وسماع زقزقة العصافير.


صديقي الدكتور يوسف،
أظن أن عديدين يقفون الموقف ذاته الذي أقفه الآن، إزاء التحولات التي طرأت على قناعاتك وأفعالك، في السنوات الأخيرة، إذ قبل ان توافق على تسلم وزارة المال، في عز الانهيار المالي، كنتَ قد شاركت، من موقعك كمدير في المصرف المركزي للعمليات المالية، في وضع الهندسات المالية التي لعبت دوراً وازناً في بلوغنا الدرك الذي بلغناه. وأظن أنهم، هم أيضاً، يشعرون بالألم نفسه الذي يحزّ في نفسي، وأنا أرى ما يحصل، ولا سيما في مرحلة بلغت حدود الكارثة، في بلدنا، إذا لم يكن الفاجعة. والمستقبل ينذر بأكثر من ذلك، وربما بما وصفه الرئيس الحالي للجماعة التي تحكم بلدنا، ميشال عون، حين سئل إلى أين نحن ذاهبون، فأجاب على الفور: إلى جهنم! وهو ما قد يحصل، على الأرجح، إذا نجح هؤلاء في الاحتفاظ بالسلطة، واستمروا يحظون بمساندة نسبة مؤثرة من الكوادر الذين كان يمكن، على العكس، أن يلتحقوا بمن سمّاهم المفكر الشيوعي الإيطالي، أنطونيو غرامشي، "المثقفين العضويين"، وانت واحد منهم، وربما بين أهمهم!


صديقي الدكتور يوسف،
العالم يتغير، والناس لا بد من أن تدافع عن نفسها، ضد سيرورة الهبوط إلى الجحيم. وهو ما أظهرته الثورات الشعبية، على امتداد العديد من البلدان العربية، منذ العام 2011، وأيضاً في لبنان في 17 تشرين الاول 2019، وما بعد ذلك التاريخ. وعلى الرغم من الاعتقاد الخاطئ لعديدين، فانتفاضة 17 تشرين تركت أثراً عميقاً في الواقع اللبناني، عبّر عن نفسه أخيراً، ولو جزئياً، بنتائج انتخابات 15 أيار الماضي. وهي قد تتجدد، مثلما ستتجدد الثورات العربية، إلى حين يقيَّض لها الظفر.

وأنا أعتقد أن التحولات اليمينية التي طرأت لدى كثيرين ممن كانوا ينحازون إلى القضايا الشعبية كان سببها اليأس لديهم من بطء التطورات، في الاتجاه الثوري. ولكن الواقع الآن يأخذ منحى آخر، والناس الذين يعانون البؤس والإذلال، وشتى صنوف القهر، سينتفضون في كل مكان، و"يقتحمون السماء"، بحسب الوصف الذي أعطاه ماركس لمقاتلي كومونة باريس، في ربيع العام 1871. وكم أتمنى أن تكون عندئذ بينهم، لا في المعسكر الآخر.
لأجل ذلك، إن 220 قتيلاً، في انفجار الرابع من آب 2020، وآلاف الجرحى والمعوَّقين، ومئات الألوف من المهجرين من بيوتهم المدمرة، يتطلعون إلى أن تنحاز إليهم، لمعرفة حقيقة ما حصل، وتحديد المسؤولين عن هذه الجريمة النكراء.

هذا وليس هؤلاء وحدهم من يناشدونك أن تنجز هذا الاصطفاف الجديد، في الموقف من مرسوم تعيين قضاة التمييز، بدلاً من الاهتمام بالتوزيع الطائفي، على غرار مسعوري المذاهب والطوائف. هذا المرسوم الذي رفضتَ إلى الآن ان تضع توقيعك عليه، بضغطٍ من الجهة نفسها التي وافقتَ على ترشيحها إياك إلى موقعك الحالي في وزارة المال. ليس هؤلاء وحدهم، أقول، بل بيروت كلها، مِن فجر تاريخها إلى الآن، وبيروت المستقبل الطويل، تنضم إليهم، في تطلعها لرؤية يوسف الخليل القديم، صديق صيادي صور، يستعيد الروح ذاتها التي جعلته يشارك، ذات يوم، في اجتماعات مسعى إعادة إعمار اليسار، ويغادر، إلى الأبد، اصطفافه الحالي، بجانب قتلَةٍ وسفاحين!!!



الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium