النهار

"خيمة لبنانيّة" بأساسات مختلّة
مخيّم للنازحين السوريّين في سهل البقاع. (أ ف ب)
A+   A-
من الصعب، أو لربما من المستحيل مناقشة ملفّ النزوح السوريّ في لبنان بالشكل الذي حصل فيه خلال الأسابيع الأخيرة، لاسيّما مع غياب المنطق في مقاربة ما يمكن وصفه بأكبر تحدّ اقتصاديّ واجتماعيّ يعيشه البلد.
 
الجدل حول ملفّ اللاجئين وطريقة خوضه لبنانيّاً لا يختلف في صميمه عن الثقافة السائدة في مقاربة التحدّيات العديدة التي تغوص في جدل "شعبويّ" يتجاهل الظروف الموضوعيّة التي أوصلت البلد إلى هذه المراحل من الانهيار.
 
وموضوع اللاجئين تحوّل من قضية تحتاج نقاشاً هادئاً إلى أزمة جديدة، كما موضوع التوقيت الصيفيّ الذي تحوّل إلى نقاش سخيف، أو كما في محاسبة النظام المصرفيّ و"المنظومة الحاكمة" المسؤولَين عن سرقة أموال المودعين، أو في مسألة سلاح ميليشيات "حزب الله"، الذي يحمي المنظومة ويشترك معها بمنع الإصلاحات اللازمة لإنقاذ اللبنانيّين من الانهيار المستمرّ.
 
الواقع اللبنانيّ يمكن وصفه بالمزري، ومن نواحٍ عديدة، ولكنّ قضية اللاجئين تحتاج إلى حلّ، بعيداً عن العنصرية والخلافات، فالقضية لها أوجه عدّة إنسانيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، وللبعض أيضاً رؤية ديموغرافية تعيد التخوّف بين الأقليّات والأكثريّات والطوائف والمذاهب، فتتحرّك مكامن الخلاف مجدّداً من دون رادع يوقف ما تحوّل إلى ما وصف بـ"المهزلة العنصريّة".
 
من المجدي إرساء ملفّ اللاجئين على نقاط ثلاث يمكنها تقديم إطار واضح يعالج المسألة، وعبره العمل من أجل إعادة تكوين الدولة اللبنانيّة ومؤسّساتها، والانتقال بلبنان الى طور الدول الطبيعيّة.
 
معظم الطبقة السياسيّة تستعمل ملفّ اللجوء كسلاح في حربها المستمرّة لإخضاع اللبنانيّين ولو بطرق ملتوية، بهدف منع الإصلاح المرجوّ. فالأصوات نفسها المحرّضة على اللاجئين كانت في السلطة وفي مجلس الوزراء عند بدء مشكلة اللجوء، وبالتحديد ما يعرف باسم قوى "الممانعة" التي تمثلت في "التيّار الوطنيّ الحر" و"حزب الله" وحركة أمل، وهي قوى رفضت منذ بداية "الثورة السورية" الاعتراف بحقّ السوريّين بالانتفاض للمطالبة بحقوقهم؛ وانضمّت هذه القوى إلى خطّ الدفاع عن "الطاغية" بشّار الأسد في تخوين وحتّى في المشاركة بقتل المتظاهرين السلميّين، ولاحقاً المشاركة في الحرب.
 
منذ نهاية العام 2011 ومع بدء وصول لاجئين من مناطق قريبة من حمص إلى لبنان، هرباً من عمليات القتل التي بدأها النظام السوريّ في بلدة تلكلخ المحاذية لمنطقة عكار، رفض الوزير جبران باسيل إنشاء مخيّمات على الحدود وفي مناطق آمنة، بحماية الجيش وبإشراف أمميّ، كذلك عبّر بشكل مباشر عن رفض "حلف الممانعة" القيام بإحصاء جدّيّ ودقيق للاجئين، ومع غيره من قوى فرض شروطاً على المجتمع الدوليّ والمؤسّسات الأممية والدولية بالإضافة إلى اشتراط "كوتا" من التوظيفات داخل المؤسسات المعنية باللاجئين، ما أدّى إلى خلق بيئة فاسدة داخل جمعيات ومؤسسات أهلية ودولية تستفيد منها أحزاب "المنظومة". يضاف إلى ذلك أنّ العديد من الدول الأوروبية فقدت الأمل في حلّ سياسيّ لموضوع اللاجئين، ما دفع بعضهم إلى الترويج لمبدأ الاندماج الاجتماعيّ، وهو ما يعيد إلى الذاكرة نظرية التوطين التي ترافق اللجوء الفلسطينيّ.
 
النقطة الثانية، وربما هي الأهمّ في قضية اللجوء السوريّ، ولا تطرح أبداً، وهي الإشارة إلى قتال "حزب الله" وتورّطه في سوريا، ومساهمته في تفريغ مناطق كبيرة من سكّانها وتحويلها إلى مواقع عسكرية له، وإسكانها ضمن مجموعات تابعة له، في تغيير ديموغرافيّ يؤثّر على مستقبل السوريّين واللبنانيّين معاً.
 
أنصار الحلّ الفوريّ والشامل – أي "طرد السورييّن" يتغاضون عن واقع أنّ قسماً كبيراً من اللاجئين في لبنان هم من قرى وبلدات مناطق حمص والقصير والقلمون المحاذية للحدود اللبنانية، التي حوّلها "حزب الله" وميليشيات تابعة لـ"الحرس الثوري الإيرانيّ" إلى مستوطنات ومراكز لتخزين الصواريخ وتصنيع مخدّر "الكبتاغون".
 
وبينما كان "حزب الله" في الماضي يصمت عمّا يثار في ملفّ اللاجئين، اتّضح خلال الحملة الأخيرة أنّه من يقودها في الكواليس، كونه يرى اللاجئين مكوّناً مذهبيّاً يختلف معه، وهو المكوّن السنّيّ، وهم بالنسبة إليه واقع يشكّل بحسب "عدسته" المذهبيّة خطراً ديموغرافيّاً على سيطرته على الساحة اللبنانيّة.
 
ولذلك زاد الكلام عن خطر تسليح اللاجئين وتحوّلهم الى كيان يشبه "منظمّة التحرير الفلسطينية" أو تحوّلهم الى التطرّف الدينيّ، ولكنّ التجارب في كلّ مرّة كانت تثبت أنّ اللاجئين لا هموم لهم إلّا العيش بانتظار رحلة العودة إلى بيوتهم كما أثبتت التجربة، لاسيّما أحداث مخيّم نهر البارد عام 2007 حيث ظهر أنّ "التطرّف" وسط بيئة اللجوء الفلسطينيّ مرتبط بالنظام السوريّ.
 
النقطة الثالثة تتمثّل بعدم الاعتراف بأنّ الانهيار السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ الحاصل في لبنان ليس نتيجة مباشرة للجوء السوريّ، بل هو نتاج مجموعة من العوامل الموضوعية الداخلية ضمن "المنظومة" التي مكّنت "حزب الله" وسلاحه من انتزاع الحكم عبر "انتخاب" ميشال عون سنة 2016، كما أعطى هذا السلاح الحماية المعنوية والأمنية للفساد في مواجهة ثورة تشرين الأوّل 2019.
 
من الادّعاءات التي ساقها البعض أنّ اللاجئين السوريّين يحصلون على مرتّبات تتجاوز ما يقبضه المدراء العامّون في الإدارة اللبنانية، وبأنّ الجمعيات الأهلية كافة من الفاسدين، ليتأكّد بالملموس أنّ هذه الإشاعات هي ضرب من الخداع. وبالنسبة إلى هجرة الشباب اللبنانيّ، فالواضح أنّ ما يحصل هو عكس ادّعاء البعض بأنّ سببه منافسة العمالة الأجنبية والسورية تحديداً، محاولين تزوير حقيقة أنّ لبنان تحوّل في ظلّ هذه المنظومة إلى لعنة على قاطنيه من مختلف جنسيّاتهم.
 
ويأتي الطلب من اللاجئين لتنظيم وضعهم، وتحويلهم عبر الخطابات الى مجرمين ومغتصبين وتجار مخدّرات بما يمثّل عملاً دنيئاً، فاللاجئون السوريون هم ضحايا وليسوا مجرمين، هم ضحايا كما هو الشعب اللبنانيّ الذي يدفع فاتورة خيارات سياسية خاطئة مكّنت أمراء الطوائف من التنصّل من المسؤوليات، وعلى رأسها قضية اللاجئين.
 
لبنان بأسره تحوّل الى خيمة كبيرة، ليس بسبب بشر يستحقّون الحماية الإنسانية من براثن القاتل بشار الأسد، بل بسبب سذاجة بعض اللبنانيين بأنّ النظام السوري يملك الرغبة في عودة ملايين السوريين إلى بيوتهم، وبأنّ خلاصهم سيأتي على يد الطبقة نفسها التي أوصلت البلد الى القعر، وإيمانهم بأنّ الإصلاح ممكن دون المطالبة بدولة قويّة سيّدة ومستقلة.
 
من الأجدر بغالبيّة اللبنانيّين القلقين من "خطر" اللجوء الطلب فوراً بوضع خطّة حكومية تنظّم ملفّ اللجوء وتضع له قوانين وإجراءات تطبيقية تحرج المجتمع الدولي وتدفع بهم الى ضخّ الأموال في مكانها الصحيح، بدل السماح للمنظومة الاستمرار بمحاولة تسليح قضية اللجوء لخدمة فسادهم وإجرامهم تجاه الشعب اللبناني قبل السوري. وقبل التحريض على قاطني الخيم من السوريين، على اللبنانيين طلب ترحيل فوري لمن يذهبون إلى سوريا أو منعهم من العودة إلى لبنان طالما لا يوجد عليهم أيّ موانع أمنية لدى النظام.
 
أزمة لبنان لن تنتهي مع انتخاب صديق بشار الأسد، سليمان فرنجية رئيساً، كما ترحيل السوريين الفوري لن يعيد لبنان "سويسرا الشرق" بل سيرسخ لبنان كخيمة كبيرة غير جديرة بالإنقاذ.

اقرأ في النهار Premium