النهار

مشروع "اليونيسيف" في نبع الطاسة... صفقة ماليّة وتجاذبات سياسية أو مبادرة حيوية للمنطقة؟
رنا حيدر
المصدر: "النهار"
مشروع "اليونيسيف" في نبع الطاسة... صفقة ماليّة وتجاذبات سياسية أو مبادرة حيوية للمنطقة؟
نبع الطاسة.
A+   A-
في حين تهيمن الاستحقاقات السياسية على ساحة الاهتمامات، ما وراء الكواليس مشاريع تبقى مخفية النوايا، وحين نغوص في تفاصيلها، تبرز اتهامات بمنفعة مالية أو حزبية أو حتى شخصية، ومن هذه المشاريع مشروع نبع الطاسة الذي أطلقته "مؤسسة مياه لبنان الجنوبي" التابعة لوزارة الطاقة بهدف "تأهيل وتطوير وصيانة منشآت المؤسسة" المدعومة من "اليونيسيف"، علماً أنّ المشروع واجه موجة اعتراضات من قبل أهالي منطقة إقليم التفاح وناشطين بيئيين باعتبار أنّه لم يكن مبنياً على دراسة علميّة.
 
وعلى رغم إصدار قاضي الأمور المستعجلة في النبطية أحمد مزهر قرار وقف كلّ الأعمال الحاصلة حول المشروع فوراً ومن دون مهلة تحت طائلة غرامة إكراهية، فهناك من يصرّ على استكماله، لذا لا بدّ من الإضاءة على هذا المشروع وأبعاده التي قد تتخطّى البيئية منها؟
 
أعلنت "مؤسسة مياه لبنان الجنوبي" أنّ المشروع هدفه تأمين المياه لأكثر من 350 ألف مواطن موزعين على 35 بلدة، ويقوم على إعادة تأهيل وتطوير نبع الطاسة وصيانة المنشآت.
يقسّم إلى مرحلتين، الأولى تتضمّن تأهيل وتطوير مباني المؤسسة ومنشآتها وصيانتها، والثانية تشمل إنشاء خزانات وتجميع وجرّ جزء من الفائض الشتوي بواسطة الجاذبية إلى عدّة خزانات إقليمية بهدف تعزيز قدرات منظومة مياه نبع الطاسة. أمّا الأسباب الرئيسيّة فهي الحاجة الماسّة إلى مخازن وبرك مائية رديفة، علما أنّ أكثر من 100 ألف من أصل 175 ألف متر مكعب من المياه لا تجد ملاذاً عبر البحر.
 
وتصرّ المؤسسة على انّها قدّمت إلى وزارة البيئة دراسة تقييم الأثر البيئي للمشروع في 29 حزيران 2022، خلافاً لما قاله وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين لـ"النهار"، الذي أكّد أنّه في 21 أيلول قدمّت المؤسسة ملخّصاً لدراسة الأثر البيئي الذي لا يفي بالشروط، ولم تلتزم بمضمون الكتاب الذي أرسلَته الوزارة في آخر شهر تموز من أجل تصنيف المشروع، أي تحديد نطاق الأثر البيئي للمشروع، مضيفاً: "اعتبروا أنّ رسالة الوزارة لم تصلهم، فبعد شهرين باشروا بالعمل، وبناءً على ما طلبناه تتحدّد الخطوات التالية، ونقدّم مراجعتنا للدراسة ضمن القانون، إلى حينها تتوقّف الأعمال، واليوم سنُرسل لهم كتاباً يتضّمن المعايير القانونيّة اللازمة."
 
وأشار الوزير إلى أنّه طلب الالتزام بالقانون 444 وهو قانون حماية البيئة الذي ينصّ على أنّ جميع المشاريع التي تحمل أيّ مداخلة أو تأثير على المحيط الطبيعي يجب أن تنال موافقة وزارة البيئة قبل البدء بالأشغال، وهذا ما نصّ عليه مرسوم أصول تقييم الأثر البيئي.
 
 
الأهداف "الحقيقية"
تحت عنوان المحاصصات، تكمن الأهداف الحقيقية لهذا المشروع. تصوّب مصادر مطلعة على الملف في اتجاه ما أسمته "محاصصة بين نافذين محسوبين على "حركة أمل" و"حزب الله"، أنتجت خلافاً أوقف المشروع في فترة معينة". وفي المعلومات، أنّ هذا المشروع موّلته وكالة ألمانية لدعم المجتمعات المضيفة للنازحين السوريين وهي جهة مانحة لمنظّمة اليونيسف، ويجب أن ينتهي المشروع قبل 22 من هذا الشهر كشرط أساسيّ من الشروط التي وضعت للتمويل.
 
رأي الخبراء
يشرح المتخصّص في الدراسات الهيدروجيولوجية الدكتور سمير زعاطيطي لـ"النهار" أنّ متعهّد أشغال نبع الطاسة طلب منه الكشف على المنطقة ليتبيّن لاحقاً أن لا دراسة بيئية ولا مرجعاً أو مستنداً علميّاً للمشروع سوى أنّه من عمل دار الهندسة والتمويل في الصندوق الكويتي وترعاه مصلحة مياه الجنوب والبلديات موافقة عليه.
 
ويلفت زعاطيطي إلى أنّ الجميع رأى السنة الماضية في الشتاء الفيضان الطبيعي للمياه في نبع الطاسة ومجرى النهر، هذه المياه المندفعة بقوة وبسرعة لم يوقفها سدّ أُقيم بالمجرى بل اجتازته المياه وحطمت الجدران، مضيفاً: "المشروع مبني على استخدام "المياه الفائضة"، لكن المشكلة الأساسيّة هي نسبة التلوّث والمجارير التي تصبّ في النبع، فضلاً عن مجموعة آبار بين جزين وكفرحونة التي حفرت لمدّة ثلاثين عاماً، والتي تسبّبت بخسارة كميات كبيرة من المياه، يتوجب عليهم أوّلاً أن يمنعوا الحفر الجائر."
 
ويضيف زعاطيطي: "هناك أطراف مختلفة تريد استغلال التمويل، ومحاصصة الأموال المقدّمة من اليونيسيف على بعضها البعض، "كلّهم كذابون وبدّن مصاري"، لذا أدعو الى طاولة مستديرة يحضرها الجميع وبالأخصّ باحثون مستقلون ذوو خبرة بعلوم المياه السطحية والجوفية للوصول الى حلول علمية واضحة تؤمّن المياه للمواطن بعد فقدان الثقة الكاملة بوزارة الطاقة ومصالحها ومشاريعها غير المدروسة التي أوصلتنا الى الوضع المأسوي الحاليّ."
 
من جهتها، ترى الدكتورة في جامعة البلمند ياسمين الجبلي أنّ المشروع بإمكانه أن يؤمّن المياه لـ 25 بلدة، ولن يمسّ بحوض الزهراني، بل سيتركّز المشروع على سحب الفائض من نبع الطاسة بنسبة لا تتعدّى الـ10 في المئة من الكمية الموجودة، علماً أنّ المشروع يعتمد على سحب المياه عبر الجاذبيّة، والعملية لا تحتاج إلى كهرباء ولا مازوت.
 
وتشير الجبلي إلى أنّ "آخر دراسة لنبع الطاسة كانت عام 2019، وظهرت فيها نسبة تلوّث بكتيريا جرّاء تصريف مياه الصرف الصحّي، من دون أيّ معالجة، وذلك يسلّط الضوء على فكرة أساسيّة، وهي أنّ في لبنان لا يوجد إلّا 7 في المئة من المياه المبتذلة تخضع للمعالجة وللتدوير."
 
من جهته، يشير الناشط البيئي بول أبي راشد لـ"النهار" إلى أنّ "نبع الطاسة ونهر الزهراني هما من إرث تاريخ لبنان، وهما مصدر ورمز للحياة لا يجب تشويهما. تغذّي مياه النبع الأراضي الخصبة الموجودة على جوانب النهر، كما أنّ هذا المشروع لديه أثر اجتماعيّ، إنّه المتنفّس الوحيد ومصدر راحة لأهالي المنطقة، فضلاً عن التداعيات السلبية على التنوّع الحيوي وعلى البيئة".
 
إصرار على تنفيذه
المشروع الذي انطلق في آب الفائت من هذه السنة، استنفر أهالي المنطقة بمساندة الناشطين البيئيين والجمعيات بالإضافة إلى المصلحة الوطنية لنهر الليطاني، التي رفعت من جهتها كتاباً إلى وزارة البيئة ومنظمة اليونيسف تشرح فيه التداعيات الكارثيّة لهذا المشروع.
 
وفي هذا الإطار، أوضح رئيس المصلحة الدكتور سامي علوية لـ"النهار"، أنّه "لم تُجر أيّ دراسة علميّة توافق المعايير القانونيّة البيئية أو حتى موافقة وزارة البيئة، وهذه المنطقة حساسة بيئياً إضافةً إلى عدم رعاية مصالح السكان الثقافية والبيئية والطبيعيّة، وهنا دخلت اللعبة السياسية، ففي اجتماع لوزارة الطاقة أدليت بوقفي ورفضي لهذا المشروع لكنّها أصدرت بياناً كذّبت موقفنا و"قالت إننا اتفقنا لكنّها تكذب على الناس ".
 
ورأى علوية أنّه "بالرغم من توقّف المشروع لا تزال الجهات المعنيّة مصرّة على تنفيذه وتحاول قدر المستطاع مع وزارة البيئة تسريع دراسة الأثر البيئي". وقال: "بحسب مرسوم الالتزام البيئي، الخطوة الأولى تكون بتقديم طلب تصنيف المشروع، وخلال 15 يوماً تردّ وزارة البيئة في حال كان المشروع بحاجة لدراسة أثر بيئي أو فحص بيئي مبدئي، وحين قُدّم الطلب ردّته وزارة البيئة بعد فترة وطَلبت الدراسة وأرسلت الجواب إلى وزارة الطاقة، لكنّ الأخيرة عمدت إلى عدم الرّد".
 
في المقابل، يؤكّد رئيس بلدية جرجوع حاتم الشامي لـ"النهار" أنّه نتيجة تجارب سابقة غير ناجحة أدّت إلى فقدان مشاريع للمعايير البيئية والفنّيّة والتي سحبت كمّيات هائلة من المياه، يتخوّف الأهالي من تنفيذ هكذا مشروع يصرف مياه النبع. ونفى الشامي حقيقة الفيديوهات التي يتمّ تداولها على مواقع تواصل الاجتماعي، حول استكمال الأعمال ليلاً، وأكّد أنّه بعد وقفة الأهالي تراجع العمّال ولم يعاودوا نشاطهم.
 
 
 
الدفاع عن الأثر البيئيّ
تضامنت العديد من الجمعيات البيئية والناشطين لمساندة أهالي إقليم التفاح، من هذه الجمعيات جمعية "الجنوبيين الخضر" التي أكّدت لـ"النهار" أنّها تتابع القضية وتعمل على الاطّلاع على دراسة تقييم الأثر البيئيّ"، مضيفةً: "نحن في جمعية "الجنوبيون الخضر" نقف إلى جانب جمعية نداء الأرض التي أثارت القضية وناشطيها وأهالي جرجوع والبلدات حماية للنهر وحوضه، وعمليّاً العمل الآن متوقّف ريثما يستوفي تقديم الأثر البيئي الشروط بشكل أساسيّ بانتظار مراجعة وزارة البيئة وملاحظاتها عليها."
 
هذا الواقع والتجاذبات الحاصلة قد تشرح حجم الاستثمار السياسي المخفي وراء المشاريع في لبنان. وفي ظل اختلاف تقييم الخبراء البيئيين للمشروع، يبقى أن تكون الدولة المرجع الحاسم في هذا الإطار عبر الوزارات المعنية لتحديد إيجابية المشروع من عدمه وفوائده، اللهم اذا لم تخضع هذه الوزارات والقيّمين عليها لقوى الاستقواء والأمر الواقع.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium