لم تكن العلاقة بين سوريا ولبنان في التاريخ الحديث علاقة ودّية تحكمها النديّة التي كان يطالب بها فريق 14 آذار سابقاً، حتى بعدما تمّ إقرار التمثيل الديبلوماسي بين البلدين في 15 تشرين الأول 2008، علماً بأن النفوذ السوري على قرارات الدولة اللبنانية تراجع مع انسحاب سوريا من لبنان في الـ2005، وانفجار الوضع الداخلي السوري، لينتقل الإمساك بالقرار اللبناني إلى "حزب الله"، باعتراف النائب السابق نواف الموسوي في مؤتمر شارك فيه "حزب الله" في العام 2006 في "سان كلو" الفرنسية.
لا شك في أن العلاقات اللبنانية - السورية تعود تاريخياً إلى مرحلة ما قبل الاستقلال، إذ كان البلدان يعيشان تحت سلطة الانتداب الفرنسي، فكان الهمّ واحداً والهدف واحداً. بقي السلوك المعتدل يتحكّم بهذه العلاقات إلى حين انفجار الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، ودخول القوات السورية إلى لبنان. ومع انتهاء الحرب وتوقيع اتفاق الطائف، ودخول المنطقة آنذاك في صراع عسكري، تم إرساء تفاهمات دولية وعربية جديدة، استطاع معها الرئيس الراحل حافظ الأسد الاستحصال على تفويض أميركي لإدارة الحكم في لبنان، استمرّ إلى حين خروج القوات السورية في العام 2006.
طوال تلك الفترة، تمّ توقيع عدّة معاهدات بين البلدين، اعتبرها البعض غير متكافئة، وعددها نحو 28، الأبرز فيها، كانت معاهدة "الأخوة والتعاون والتنسيق" التي وقعت بين البلدين في العام 1991، ونصّت على الروابط الأخويّة المميّزة التي تربط البلدين، والتي تستمدّ قوّتها من جذور القرب والتاريخ والانتماء الواحد والمصير المشترك والمصالح المشتركة.
اليوم، وإثر الأزمة التي حصلت بين البلدين أخيراً، والتي تتعلّق برفض النظام السوري استقبال الوفد اللبناني للنقاش في ملف ترسيم الحدود البحرية الشمالية بين البلدين، عاد ملف العلاقة بين البلدين ليُطرح من جديد بشأن ما تريده سوريا من لبنان بعد رحيلها؟ ولماذ عرقلة ملف الترسيم؟ وهل لا تزال الأطماع السورية التاريخية بلبنان موجودة؟
لا يختلف المراقبون على أن الذهنية السورية السائدة لم تتغيّر، والعقيدة التي تعتبر لبنان جزءاً من سوريا لم تتبدّل، ومن هذا المنطلق يمكن فهم "الاستكبار" السوري بالتعاطي مع لبنان ومسؤوليه، ومع كلّ قضاياه، وبالأخصّ المتعلّق منها بالحدود ابتداءً من مزارع شبعا والحدود البحرية الشمالية إلى الحدود البرية بين البلدين.
تاريخ العلاقات السورية - اللبنانية
لذلك، ما حصل في ملف الترسيم شمالاً لا يتعدّى كونه محطّة في سياق العلاقات بين الطرفين التي مرّت بتعرّجات كثيرة، يشرحها مدير كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية – الفرع الأول، جهاد بنّوت، الذي يُشير إلى أن "العلاقات بين البلدين مميّزة عن علاقات كلّ منهما مع باقي الدول، وهذا مردّه إلى عوامل متعدّدة، أهمّها التاريخية، واستمرّت بعد استقلالهما (مسألة المصالح المشتركة وغيرها)، ومن أبرز مظاهرها الدخول السوري إلى لبنان في العام 1976 بطلب رسمي، ثمّ تكرّست مع اتفاق الطائف والدور السوري الذي مُنح لسوريا منذ العام 1990، بالإضافة إلى إنشاء المجلس الأعلى السوري – اللبناني".
وفي حديث لـ"النهار"، يلفت بنوت إلى أن "العلاقات الديبلوماسية بدأت منذ العام 2008 فقط، ثمّ سادت البرودة بين بيروت ودمشق بعد بدء الحرب السورية على خلفيّة الانقسام الداخليّ الذي حصل والمواقف المتباينة بين التدخّل في الأحداث السورية والالتزام بسياسة النأي بالنفس؛ وهذا ما ينعكس بين الحين والآخر على العلاقات بين البلدين".
أما على المستوى البعيد، فإن شكل العلاقة ستحدّده مجموعة من الاستحقاقات، أبرزها انتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية، حسب بنّوت.
قطبة مخفيّة
وعن ترسيم الحدود البحرية بين البلدين وما شاب الموضوع أخيراً من استفهامات، يرى بنّوت أن "حلحلة الملف ليست بالسهلة، وهو يحتاج إلى أكبر من زيارة "ارتجالية"، ويعود ذلك إلى اعتبارات متعدّدة، منها مآل الترسيم البريّ بينهما، وقد لا يكون هذا الملف بشكل عام ضمن أولويات سوريا حالياً، لكنّه في الوقت نفسه لن يشكّل تحدياً جدّياً للعلاقة، لأن النظام السوري يحرص على استمرارها وتحسينها مع لبنان".
ويستطرد: "بالنسبة للزيارة، فإنّ ثمّة قطبةً مخفيّة لم تظهر إلى العلن حول حيثياتها والأسباب التي وقفت خلف رفضها، خصوصاً أن التبرير السوريّ لم يقابله توضيح لبنانيّ، وبالتالي تظلّ هناك تساؤلات حول الموضوع".
وفي الختام، ورداً على تدخّل سوريا في الشؤون اللبنانية، يُشير إلى أن "أولوية سوريا تكمن في إنهاء الحرب وتنظيم الداخل لإعادة الحياة إلى طبيعتها، والظروف الحالية لا تسمح أساساً بالاهتمام بشؤون أخرى".
صفقة خلف الترسيم بين لبنان وسوريا؟
منسّق "التجمّع من أجل السيادة" نوفل ضو، يُشير إلى أن "رفض النظام السوري استقبال الوفد اللبناني كان قراراً روسياً وإيرانياً، لأن الطرفين، الذين يبسطان نفوذهما على الأراضي السورية، ويصادران قرار نظامها، يُريدان صفقة أمميّة يُشاركان فيها لترسيم الحدود بين البلدين أسوةً بما حصل بين لبنان وإسرائيل والصفقة التي عُقدت بين واشنطن، تل أبيب، بيروت وطهران إلى جانب دول أوروبية".
وفي حديث لـ"النهار"، لا يستبعد ضو وجود نيّة لدى النظام لرفع مستوى تمثيل لبنان في الوفد المُرسل، لأنّه يستجدي إنتزاع اعتراف حتى من سلطة مهترئة ليست أفضل حالاً منه.
ويخرج ضو من إطار ما حصل على صعيد الترسيم وزيارة الوفد اللبناني، ويتطرّق إلى مجمل العلاقة بين البلدين، ويشدّد على أن استمرارها قرار إيراني، وطهران تُريد تعزيز نفوذ "حزب الله" في الداخل السوريّ، كما أن حلفاء النظام في لبنان مَمْسوكون من قبل الحزب، لأن السّاحتين اللبنانية والسورية إيرانيتان في النهاية.
ويرى ضو أن القرار الاستراتيجي في سوريا لا يملكه بشار الأسد ونظامه، بل روسيا وإيران، فيما لا يتعدّى ملعب ساكن قصر المهاجرين لعب دور الواجهة، وبالتالي أيّ قرار يرتبط بالعلاقة بين الطرفين، وبالأخص ترسيم الحدود، سيكون وفق مصالح روسيا وإيران.
تؤدّي الجغرافيا دوراً أساسياً في العلاقات بين الدول، وبغضّ النظر عن الموقف السياسي اللبناني من بقاء النظام السوري، فإن استمرارها واقع لا مهرب منه، وعودة "الحماوة" ستكون رهن السلطة الجديدة التي ستُشكّل بعد انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية في لبنان، بالرغم من المعارضة الداخليّة للنظام من قبل الأحزاب والشخصيات السيادية.
لكن هذه العلاقة بالتأكيد لن تكون طبيعية، وستشوبها شوائب، لأن النظام السوري لم يغيّر طريقة تعامله مع لبنان معتبراً إيّاه جزءاً من سوريا، ولم يبدّل سياساته الانتقامية التي يعتمدها مع الأطراف التي دعمت الشعب السوري بوجهه، وسيُحاول الاستثمار في كلّ ملف لانتزاع المكاسب، كما أن ثمّة أفرقاء لبنانيين لا يُمكنهم إعادة علاقتهم مع سوريا انطلاقاً من المواقف المبدئية التي اتخذوها طوال سنوات الحرب.