يوسف عبد الصمد*
من نيويورك إلى لندن التي أمضينا فيها أسبوعا سعيدًا مع الاحفاد، والمتاحف والمكتبات، والحدائق العامة الخلاّبة.
ومنها إلى البرتغال في "مدينة سينترا" نستكشف فلول أشجار التين والزيتون التي غرسها أجدادنا الأندلسيون، حيثُ كانت شجرة التين المزروعة في حديقة الفندق قد عرفت بقدومنا فأخرجتْ فُجّها تنتظرُ وصولنا لنأكل منها ما نضج مدة إقامتنا هناك، عملاً بقاعدة "وغرسنا فيأكلون".
تناولنا غداءَنا مع رشفاتٍ من النبيذٍ اللذيذ في أحد مطاعمها، تخدمنا فيهِ "سيسيليا" الكاعب الرشيقة القوام. عرفتْ أننا من نيويورك وتضاعف اهتمامها بنا.
ثم زرنا في أعالي الجبل، بيت الكاتب أرثر أغناطيوس كونان دويل (22 مايو 1859- 7 يوليو 1950 الكاتب المشهور لتأليفه لقصص المحقّق "شارلوك هولمز" التي تعدُّ معلمًا بارزًا في الادب البوليسي.
في سينترا، كنتُ أتمشّى حول الفندق متنقّلاً بين المكان الذي أنا فيه، والزمان الذي عبر، مسترجعًا صورة الاندلس، وإذْ بنظري يَقعُ على صخرةٍ كالتي جلس عليها عبد الله الصغير بعد سقوط غرناطة. جلستُ عليها مثلما جلسَ، وبكيتُ مثلما بكى، كالنساءِ على مُلْكٍ لم تحافظْ عليه الرجال.
بعدها، طرنا إلى بيروت لقضاءِ مدّةَ أسبوع وكان الخوفُ من المرض فيها هاجسنا الكبير نظَرًا لانعدام أو تدنّي الخدمات الطبية والدواء، وجدناها مفجوعةً بخصائصها الرائعة، على أيدي ملوك الطوائف، وأيدي الذين تركوها مُثخنةً تنزفُ، وتذرفُ، وتعرق، ولمْ يُبقوا في جيوبها دولارًا تدفعه لشراء الدواءٍ والكسوة.
بيروت المنكوبة على أيدي ملوك الطوائف والاقطاع، يجلسون فوق القناطير المقنطرة من الذهب، بعد أن عرّوا أهلَنا من كل شيءٍ وتركوهم محروقي الانفاس من الإفلاس عِوضَ من أن يحرسوهم برموش الجفون ويحفظوا بيوتاتها العتيقة.
مشَينا في شوارعا نتحرّى أبنيتَها الذليلة، ونتقرّى ذكرياتٍ لنا كنَّ عذابًا وصرنا سرابا.
بيروتُ التي كانتْ فوّاحةً بعطور الحوانيت، أصبحت مدروزةَ الشوارع بقوز القمامة لكنّ رائحةَ البنِّ المحروق وفوحِ زعتر مناقيش الزعتر، طغت على روائح النفايا في القمامة.
أمّا المشي على أضواء كهربائها فجعلني أعثر في كل خطوتَين مرّةً تقريبًا. وعندما مشيتُ مُغْمَضًا على أضواءِ قناديل عيون بيروت، لمْ أعثرْ بحصى أو بحجر.
بيروتُ المنكوبةُ على أيدي بعضُ أبنائها اللصوص، رأيتُها مطوَّبةً ومجلّلة، بمسرحِ المدينة الواقف على قدم وساق، يتحدّى بعناده الشعشعانيِّ الإبداع، جحافلَ أعداء النور والهداية.
ومباركةً بالمسارح والمتاحف ودور السينما، والصالونات الادبيّةِ في كل مكان حافظةً روحها التي لن تموت.
وفي مستشفى الجامعة الذي عولجت فيه. الذي لم يستطع على شفائه الدواء، شفته الكلمات الطيبة، والمعاملة الفائقة والمهنية المضمّخة بعطر الإنسانية من قبل الفريق الطبي والذين تركوا في قلبي بصمات محبتهم وجعلوني أتمنى ألا أمرض إلاّ في بيروت.
أمّا الرجوع إلى الينبوع، إلى رأس المتن حيث مسقطُ رأسي، وجدتُ أنفسنا، محاطين بأهلنا وأصدقائنا المحبين، الطيّبين الشفّافين الطازجين كأوراق نعناعها، والفوّاحين كرياحين أحراشها البكر، الذين فرشوا لنا الأرض بالزهر، فنام الساعد على الساعد، واصطدم الحب بالحب في مآدب الاهل وولائم الاصحاب التي جمعتنا بهم وشعرنا أن صنوبرَها وسنديانها تنبّه لاستقبالنا فجعلنا نشعرُ "أنَّ من الضيعة ما يضوع ولا يضيع. الضيعة هي الروعة والغربة هي التربة".
ثمَّ استَيقظنا على صداح ديكِ جريدة النهار، يصحّي الصباح بأعذب الشجن في صوته الحسن.
أما سارقوها ومفلّسو أهلنا الطيّبين، فقناطيرهم المقنطرة من سبائك الفضة والذهب، المهرّبة والمخبأة في مغوارهم فستصبحُ كالمناقيش، طعاما للجرذان والخفافيش.
عدنا إلى أميركا معافين ممتلئين فرحًا وحنينًا إلى العودة للوطن حيثُ:
ذِكَرُ الصبا ومراتع الآرام، تنتظرنا على أحر من الجمر.
*عميد الرابطة القلمية الجديدة في نيويورك.