لعلّها الضارّة النّافعة أن يتمّ إحياء عيد القدّيس مارون هذه السّنة من دون "الدولة" وبغياب الطبقة السياسية كاملة تقريباً فينحصر العيد بأبعاده الدينيّة والروحية الصرفة ولو تخلّلته إشارات إلى غياب رئيس الدولة "الماروني" بما يثقل على البعد "السياسي" للمناسبة إذا صح التعبير. إذ انه وسط استفحال مؤشّرات أزمة الشّغور الرئاسي وتراكم المعطيات الداخلية والخارجية حيال الانسداد المتعاظم في طريق انتخاب رئيس الجمهورية بدا المشهد الداخلي في يوم عيد مار مارون أشدّ وطأة لجهة التّقديرات السلبيّة التي تستبعد تماماً اختراق محتمل للأزمة.
وإذا كانت الكنيسة الشهيرة التي تحمل اسم شفيع الموارنة في الجميزة حيث يُقام سنويّاً القداس التقليدي في المناسبة في حضور أركان الدّولة والوزراء والنوّاب والسياسيّين والقادة العسكريّين والأمنيّين والنّقابات وسواهم افتقدت أمس الحضور الرّسمي والسّياسي في ظلّ أزمة الشغور الرئاسي فإنّ هذا المشهد لم يكن وحده كافياً لإلقاء الضؤ على اشتداد الأزمة السياسيّة وتعاظمها بل ان تردّدات إخفاق لقاء باريس الخماسي أخيراً صار بمثابة شهادة حية حيال تصاعد المخاوف من تمدّد غير محدّد ويصعب تحديده لأزمة الشغور الرئاسي إلى أمد طويل جداً. وسيكون الأسبوع المقبل أمام اختبار جديد يعتقد أنه سيكون انعكاساً لمناخ التأزّم السياسي من خلال "كباش" بدأت تتصاعد معالمه في شأن انعقاد جلسة تشريعيّة لمجلس النواب. وسيكون الكباش بمثابة منازلة مباشرة بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ومن يؤيّده وكتل المعارضة وأبرزها "القوات اللبنانية" والكتائب وتكتّل النوّاب التغييريّين حول الجلسة التي يرفض المعارضون انعقادها باعتبار أنّه لا يجوز للمجلس عقد جلسات تشريعيّة قبل انتخاب رئيس الجمهورية فيما تجري محاولة استمالة تكتّل لبنان القوي لحضورها من خلال جدول أعمال يضمّ مشروع الكابيتال كونترول مع بند التمديد للمدير العام للأمن العامّ اللّواء عباس إبراهيم باعتبار أنّ التكتّل قد يوافق على البندين.
في غضون ذلك خرجت باريس عن صمتها أمس حيال النّتائج الغامضة للاجتماع التشاوري الخماسي حول لبنان الذي لم يصدر عنه بيان إذ سئلت النّاطقة باسم وزارة الخارجيّة الفرنسيّة آن-كلير ليجندر عن الاجتماع الذي ضمّ ممثّلين عن كلّ من فرنسا والولايات المتّحدة والسعودية وقطر ومصر، وعُقد في باريس الإثنين ولم يصدر عنه أي بيان ختامي، فأجابت بأنّه "كان اجتماعاً لكبار المسؤولين وبالتالي كان اجتماع خبراء بطابع تقني كالاجتماعات التي نعقدها مع شركائنا دائماً بشأن جميع المواضيع الدولية الرئيسية، ولم يكن مقرراً اتخاذ قرار فيه، ولهذا لم يكن لدينا أي إعلان نصدره".
وأضافت: "موقفنا من لبنان معروف. وقد عبّرت وزيرة الخارجية كاترين كولونا بقولها إن على السياسيين اللبنانيين أن يتحمّلوا مسؤولياتهم فوراً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بعد أكثر من ثلاثة أشهر من الشغور بالإضافة إلى تشكيل حكومة فعاّلة تكون قادرة على تنفيذ الإصلاحات التي يحتاجها لبنان في مواجهة الأزمة الخطيرة التي يمر بها. وفرنسا تقف إلى جانب الشعب اللبناني".
وعن إمكان عقد اجتماع آخر على مستوى وزاري أكبر في الأسابيع أو الأشهر المقبلة، قالت: "إذا كانت هناك اجتماعات أخرى فسيتم الإعلان عنها في الوقت المناسب".
أمّا على الصعيد الدّاخلي فلم يتناول البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في عظته لمناسبة عيدالقديس مارون الشأن السياسي مباشرة وقال: "عيد مار مارون اليوم يدعونا للرجوع إلى هويتنا المارونية التي ترفض التقوقع والمصالح الضيّقة، هويتنا المارونية، هوية انفتاح وحضارة وإيمان. نحتفل بالعيد، وهو علامة فرح، ولكن لا يمكننا أن نتجاهل دموعنا والحزن العيق في قلوبنا ليس فقط على حالتنا المارونية التي نحن فيها، ولكن أيضاً على الكوارث والزلازل والهزّات التي أوقعت الرّعب في وطننا والويلات بخسارة الآلاف في تركيا وسوريا. نذكر اليوم بقدّاسنا كلّ الضحايا والجرحى والعائلات المنكوبة في هذا البرد والصقيع، نلتفت نحو أبانا السماوي ونقول: "أبانا الذي في السماوات، أب الجميع، أرسل قوتك لشعوبنا المنكوبة ورحمتك للقلوب المتألمة". نعم أحبائي، إنّ الله يخاطبنا بكلّ الطرق وفي كلّ الظروف، خاطبنا بتجسده، بإنجيله، بكنيسته من خلال تعاليمها، وهو يخاطب اليوم ضميرنا، ضمير كل إنسان في أعماقه، ويدعونا إلى الخير ورفض كل أنواع الشر. بصوت الضمير الحي، تخاطب الجيوب أبناءنا الموارنة في كل أصقاع المعمورة ونتوجه إليهم بالمعايدة القلبية والروحية، مؤمنين ومؤمنات، متمنين للجميع بعيد مبارك غني بمواهب الروح القدس والفصائل والقيم المارونية العريقة والمقدسة. معكم نتوقف على هوية مار مارون التي يجب أن نعيشها، وهو مثالنا لأنه رجل صلاة، رجل تضحية، فجهله الله للجميع علامة السماء للأرض".
أمّا راعي أبرشية بيروت المارونية المطران بولس عبد الساتر الذي ترأس القداس الاحتفالي في كنيسة مار مارون في الجميزة فقال: "نحن أبناء وبنات مارون نتمسّك بلبنان وطناً نهائيّاً تُحفظ فيه كرامة الإنسان على كافة أراضيه، ويعيش فيه المسيحيون والمسلمون معًا بحسب نظام يسمح لكلِّ مواطن، بمعزلٍ عن انتمائه الديني أو الحزبي أو المناطقي، أن يعيش حريَّته على الصعيدين الديني والمدني، وأنْ يُسهمَ بشكل فاعل في ازدهار الوطن والإنسان فيه. نحن أبناء وبنات مارون متعلِّقون بلبنان الذي ساهمنا في وجوده واستمراره، وطناً واحداً موَّحَداً يعيش فيه مواطنوه تحت سقف القانون، متساوون في الحقوق والواجبات. نحن نحترم تاريخ وتضحيات ودم شهداء كلِّ مكوِّن لبناني وننتظر من إخوتِنا وأخواتنا في الوطن أن يتخلَّوا عن منطق الغالب والمغلوب وأن يحترموا تاريخنا وتضحياتنا ودم شهدائنا. وندعو الجميع إلى تخطّي مآسي الماضي لنبلسم معًا جراح بعضنا البعض ونبدأ مرحلة جديدة في مسيرة بناء الوطن".
وأضاف: "نحن نرفض كلّ محاولة استئثار بمقوّمات الدولة لأنّنا تعلَّمنا من الحرب الطويلة التي عشناها بويلاتها أنَّ الانعزال خطأ تاريخي وأن لا فريق يستطيع أن يحكم بمفرده وأنَّ الاتكال على الخارج والاستقواء به لا يؤدّي إلّا إلى التزلّم له وإلى نهاية الوطن. نحن نطالب بانتخاب رئيس للجمهوريَّة حتى لا تتغيَّر هوية لبنان وحتى تبقى الدولة اللبنانية ويُحفظَ دستورُها. ونطلب من ممثلي الشعب أن لا يتأخروا عن القيام بواجبهم وينتخبوا من يجمعُ في شخصه ما يكفي من الجرأة والنزاهة والصفات الإنسانيَّة والحنكة السياسيَّة وروحِ التعاون من دون تأخير ومن دون اعتبار لأي مصلحة غير مصلحة الوطن العليا".
إلى ذلك، استقبل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر أمس في البلمند رئيس" التيار الوطني الحرّ" النائب جبران باسيل على رأس وفد من "التيار" . وأوضح باسيل :"أنّنا تطرّقنا لموضوع رئاسة الجمهوريّة كما نؤيّد دعوة البطاركة المسيحيّين الذين فوضوا البطريرك الرّاعي لنقوم بالاتّفاق على انتخاب رئيس للجمهورية، بخاصّة أنّه استحقاق وطني وليس فقط مسيحيّاً أو مارونيّاً، ونحن ملزمون بالاتّفاق خصوصاً إذا تمّ بحسب الدّستور والنصاب، ونحن نريد أن نصل إلى برنامج إنقاذي ورئيس ينفّذ هذا البرنامج أيضاً".