النهار

انتكاسة في الحصن الفكري والإيماني الماروني... لكنّ الوجود أعمق و"الله لن يتركهم"
رولان خاطر
المصدر: "النهار"
انتكاسة في الحصن الفكري والإيماني الماروني... لكنّ الوجود أعمق و"الله لن يتركهم"
تعبيرية.
A+   A-
"لولا المارونية لما وُجد لبنان... المارونية هي أكثر من مذهب، بل نهجُ حياة لشعبٍ، وتراث، وقِيَم، وتعدّدية المجتمع، ولبطريركهم أُعطي مجدُ لبنان". هي من المفاهيم الثوابت التي ذَيّلت اسمَ شارل مالك في وجدان اللبنانيين الموارنة.
 
والكلام بما يعنيه العودة إلى الجذور، إلى نهج العطاء والتضحية وبذل الذات، إلى القيادة والمبادرة، إلى صون العيش الواحد، والأهمّ خيار الحريّة وما يتطلّبه من فكرٍ ومواجهة. فالموارنة والحريّة كما الموارنة ولبنان الدولة والكيان، لا ينفصلان. معادلة واحدة لا تتجزأ.
 
ليسوا وحدهم
لكن هذا لا يعني أنّ الموارنة هم وحدهم من يملكون لبنان، كما لا يمكنهم أن يعملوا بشكل مستقلّ عن بقية الطوائف المسيحية والإسلامية، التي تشاركهم في مجتمعٍ سياسيٍ واحد ومصيرٍ واحد. التجدّد المستمر في إحياء ذكرى شفيعهم مارون يتطلّب تجدّداً فكرياً، إيمانياً، اجتماعياً وسياسياً، ولو تطلّب ذلك ثورة على الذات.
 
يَعتبر كثيرون أنّ ما يعانيه الموارنةُ اليوم هو أزمةُ إيمانٍ وهُويّة، تلقي بانعكاساتها على الواقع الاجتماعي والسياسي؛ ففقدان الحرارة الإيمانيّة ينعكس على بنيتهم الاجتماعية والسياسية، في وقتٍ، لا تنفصل مسألة الهوية عن الأولى، أي الإيمان. فبالأساس، وبعد كمّ من الاضطهادات والإبادات التي تعرّضوا لها، "إيمان الموارنة خلّصهم".
 
تساؤلات وجودية
وبعيداً عن الغوص في أزمة الموارنة البنيوية، ثمة تساؤلات اليوم ترتبط بالمسألة الوجودية، وذلك نتيجة قيام أفكار ومشاريع تناقض أفكارهم اللبنانية التي حملوها للبنان، كالوجود في دولة حديثة بحسب النُظم الديموقراطية المعروفة، قائمة على احترام "التعددية" لا "العددية"، إلى الحفاظ على شعلة المسيحية الحرّة، وعلى الحريّة. والحرية بمعناها الواسع والأساس التمسّك بالخصوصية اللبنانية، التي كانت نتيجتها رفض الموارنة للذميّة بكلّ أشكالها.
 
فهم، كما رفضوا الانتداب الفرنسي، وحاربوا الفلسطيني والسوري معاً، يرفضون اليوم "الاحتلال الإيراني"، ووصاية "حزب الله" على القرار اللبناني، ومصادرة السيادة لفئة وحدها، انطلاقاً من تكوينهم وخصوصيتهم الفكريّة وتوقهم التاريخيّ إلى العيش بحرية، منذ الأمير فخر الدين المعني الثاني والمتصرفية، ولأنهم تكوينياً هم والدولة واحد، ومتى سقط مفهوم الدولة، اهتزّت صفائح البنية المارونية.
ولا بدّ من الاعتراف بأنّه بين الأمس واليوم أُصيب الحصن الفكري والإيماني الماروني بانتكاسة، بسبب غياب الرجاء والإيمان وعدم التمسك بهذا البنيان الفكري والروحي، الذي كان مدماكاً لانتشار المارونية وصمودها، لصالح أنانيات العصر وإغراءاته السلطوية والمالية وغيرها، إضافة إلى ظهور هذه المشاريع والأفكار الغريبة عن الفكرة اللبنانية، والتي تبنّاها "يوضاسيون" موارنة؛ فكانت النتيجة أن انقسمت "المملكة المارونية" في الأمس القريب على ذاتها، انقساماً عمودياً، فخربت. وبات في لبنان صراعان، واحد على مستوى الوطن بين فريق مُصنّف سيادياً، وآخر غير سيادي، وثان في داخل البيت الماروني الواحد، يطال بجزءٍ منه الكنيسة المارونية.
من هنا، تُطرح عدة أسئلة؛ هل بات الخوف هو على الموارنة أنفسهم كأقلية في لبنان والشرق؟ وهل تهديد الموارنة يهدّد مشروع الوطن الذي عمل له لسنين طويلة؟ وما هو المطلوب منهم اليوم وما مصيرهم غداً؟
 
حبشي والقطار
يرى النائب أنطوان حبشي، وهو دكتور في التاريخ، أنّ "الواقع اليوم يشكّل خوفاً وجوديّاً على الجماعة المارونية، كما على المشروع الذي يحملونه. فمشروع الوطن والدولة الذي حمله الموارنة يذوب لصالح أحادية إيديولوجيّة تتمثل بمشروع "الثنائي الشيعي". وهذا يشكل خطراً على الوجود المسيحيّ من مجموعة تحمل مشروعاً إيديولوجياً، وتتمسّك بالسلطة، وتحاول تعميم مشروعها على الجميع"، مستذكراً ما قاله البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير: "ونحن الذين لجأنا إلى المغاور والكهوف في عهد الظلم والظلام طَوال مئات السنين لِيسلم لنا الإيمان بالله وعبادته على طريقتنا في هذه الجبال، وعلى هذه الشواطئ، ولتَبقى لَنا الحُريّة التي إذا عُدمناها عدِمنا الحياة".
ويُضيف البطريرك الراحل: "إذا خيّرونا بين العيش المشترك والحرية لاخترنا الحرية". لذلك، بحسب حبشي، "فإنّ مشروع الحريّة لدى الموارنة هو حقّ للجميع، لكن لا يُمكن التضحية بالحرية من أجل أيّ مشاريع أخرى تناقضها. وهنا، يُمكن فهم قلق البطريرك بشارة الراعي وطرحه للحياد كمشروع يعيد لبنان الوطن والدولة إلى السكّة الصحيحة، ويؤمّن حريّة الوجود لكلّ المكوّنات الباقية".
 
ويعتبر أن "مصير الموارنة يحملونه بأيديهم. والمطلوب الوعي لهويّتهم التي أمّنت وجودهم. وطالما هذا الوجود قائم على الثوابت التاريخية المعروفة فإن الموارنة يستمرّون في تأدية دورهم. هناك أزمة وعي لهويّتهم نتيجة تغطية جزء منهم لـ"حزب الله"".
 
بدوره، يرى المؤرخ الدكتور إلياس القطار أنّ "من الأزمات، التي يعيشها الموارنة، الخيار السياسي"، سائلاً عن النُخب في الطائفة التي يجب أن تتسلّم مقدرات البلد وتقود لبنان نحو الأفضل. ويعتبر أن "الخيار السياسي لدى جزء من الموارنة ساهم بتقدّم أفكار وعقائد في لبنان تناقض المشروع المارونيّ الذي حملوه عبر التاريخ، ممّا جعل القادة الموارنة ومشروعهم وقوتهم في انكفاء".
 
ويضيف: "مشروع الموارنة جوهره الحرية الغائبة في هذا الشرق. لذا من المهمّ أن يبقى لبنان مثالاً وجوهراً للحرية، لأنّ لا إبداع على كلّ المستويات إلا في جوّ من الحريّة".
 
ولعلّ أفضل تعبير عن التزاوج بين الموارنة والحرية ما عبّر عنه شارل مالك في هذا الإطار: "بإمكان الموارنة أن يتساهلوا في كلّ شيء، أو يتفاوضوا حول أيّ شيء ما عدا هذه الحرية الشخصية الكيانية. بدونها لا وجود لهم وحتى لا معنى لوجود لبنان، حتى إن وُجد. ووجوده عندئذ كعدم وجوده تماماً، وعندما يتساوى الوجود وعدمه، ينعدم. أما بوجود هذه الحرية قائمة مضمونة ثابتة، فباستطاعتهم مع الزمن أن يستعيدوا كلّ شيء، تساهلوا به أو تنازلوا عنه. أما بدونها فما يملكون، أو يظنون أنهم يملكون، سيخسرون".
وانطلاقاً من هنا، يقول قطار: "تخلّينا عن حريتنا، وعن القيادة بسبب مصالح ذاتية؛ والخوف أن لا نكون قادة هذا البلد".
ويعتبر أن "الهجرة تضعف قوة الموارنة، خصوصاً أنّنا نعيش في لبنان مع أطراف همّهم "العددية"، وكأن الناس "قطعان غنم". لذلك المطلوب من الموارنة الصمود والمواجهة بالعلم وبالعقل وليس بالعدد".
 
الهُويّة والارتباط السياسيّ
يشدّد النائب حبشي، في حديث لـ"النهار"، على أنّ الموارنة لم يتعاطوا يوماً مع محيطهم انطلاقاً من هُويّتهم الدينيّة بالمعنى البحت للكلمة. الجذور السريانيّة عندهم أساسية، لكن ما ثبّتهم وميّزهم أكثر كجماعة في لبنان هو موقفهم السياسيّ؛ لذلك فإنّ المواجهات التي خاضوها عبر السنين هي لرفضهم بالمعنى السياسي أن يكونوا هامشيّين، بل دائماً كانوا يتوقون لأن يكونوا في صلب القرار وصنّاعه، وتطورُهم هذا أوصل إلى إنتاج "لبنان الكبير"".
 
ويضيف: "لبنان رغم كلّ إشكالياته كان وجوده معاكساً لكلّ محيطه، لأنّنا استطعنا في لبنان رغم كل العلل، إنشاء نظام ديموقراطي، على عكس الأنظمة التي كانت سائدة في الشرق، والتي حكمتها ديكتاتوريات أو توتاليتاريات دينيّة. انطلاقاً من هذا السرد الواقعيّ يمكن التأكيد اليوم أن جزءاً كبيراً من الموارنة ضائع وبعيد من هويته، لأنّ الخيار السياسيّ لهذا الجزء يصبّ خارج الإطار التاريخيّ للمارونية".
ويشرح حبشي: "إن إنشاء الموارنة لـ"لبنان الكبير" لم يكن لأجلهم فقط بل من أجل كلّ الأقليّات التي وجدت فيه. لذلك يسأل العالم كلّه اليوم كيف أن جزءاً من الموارنة يغطّي توتاليتارية دينية إيديولوجية متمثلة بـ"حزب الله"؟".
 
ويتابع: "عندما عمل الموارنة على صياغة مشروع الدولة في لبنان، جاء ذلك انطلاقاً من أن الدولة ككيان هي راعية لحقوق الأفراد ولحقوق الطوائف، ولا تستطيع أن تعتنق إيديولوجيا معينة، لأنه مرفوض أن يفرض أحدٌ إيديولوجيته على الآخرين انطلاقاً من تنوّع وتعدّدية لبنان. فوجود دولة مستقلّة عن كلّ إيديولوجيا يعني احترامها لكلّ المكوّنات بإيمانهم، وبناء مساحة مشتركة بإدارتها لمؤسساتها؛ وهذا كلّه مفقود اليوم. أولاً، لأنّ هناك جزءاً من الموارنة على عكس مسارهم التاريخي يغطّي توتاليتارية دينية ممثّلة بحزب الله، وثانياً هذه التغطية تجعل الدولة هامشيّة وتسمح للحزب بأن يفرض مشروعه على باقي اللبنانيين".
 
بدوره، يعتبر الدكتور قطار أن "ليس لدى الموارنة تشكيك بهُويتهم، والدليل أنّهم لا يحاربون ما حدّده اتفاق الطائف بالنسبة للهوية. أما في ما يختص بالإيمان، فكغيرهم من شعوب الأرض، هناك قسم منهم لديه إيمان لا يتزحزح، والدليل ما مَنّ عليهم الله بقدّيسين مثل شربل ورفقا والحرديني، وهي ظاهرة لكي تقوّي صمود الموارنة في لبنان".
 
دور الكنيسة الأم
كثيرون يسألون عن الدور الذي تؤدّيه الكنيسة المارونية مقارنة بالقوة التي كانت تملكها بالأمس. فها هي أراضيها في لاسا مصادرة، ولا حول ولا قوة لها لاستعادتها. اعتداءات متكرّرة في رميش من دون أيّ دعم أو سند للمسيحيين الموجودين هناك. استراتيجية طرد المسيحيين عبر شراء الأراضي أو وضع اليد عليها أو على مشاعات المناطق المسيحية مستمرّة، وكذلك استبعادهم من وظائف الدولة. الأزمة الاجتماعية كبيرة، والمعالجات ليست على قدر التحدّي. في السياسة، انقسام إلى حدّ الإيديولوجيا التي تجعل جزءاً من الكنيسة يغطّي الفريق الماروني الذي يغطّي "حزب الله" ومشروعه في لبنان.
 
يقول المفكر شارل مالك: "أُعطيَ الموارنة بكركي. بكركي مركز روحيّ فريد في الشرق الأوسط. الكلّ يتطلّعون إلى قيادته وتوجيهه. باستطاعة هذا المركز الكبير جمع شمل الموارنة وأكثر من الموارنة... أما نجاعة التحرّك فتتوقف على العيش على مستوى لحظة التاريخ الحاسمة". فمتى ستحين هذه اللحظة؟
 
قصاص الموارنة... والدور الكبير
لعلّ ما يصيبنا اليوم من شرور وخيبات هو لأنّ الموارنة توانوا عن مسؤولياتهم في هذه البقعة التي أُوجدوا فيها، إذ ليس صدفة أن يوجدوا في هذه المنطقة، وليس صدفة أن يُنشئ الموارنة "لبنان الكبير" بخريطته المعروفة.
قد تكون رسالة الموارنة أعمق ممّا نتصوّر أو نعتقد... هذا العمق الروحانيّ الوجوديّ عبّر عنه شارل مالك في أحد لقاءاته مع المفكّر أنطوان نجم بقوله: "إن الله لن يترك الموارنة، قد يقاصصهم ويقسو عليهم، ولكن عليهم ألا يخافوا. فكما أنّ الربّ ضرب شعبه المختار، أي اليهود، ليربّيه، وليعيده إلى صوابه مع محافظته عليه وحمايته له من الفناء، ليحقق بواسطته وعده، كذلك هو يحافظ على الموارنة ويحميهم. لكنه يربّيهم أيضاً ويجعلهم يدفعون ثمن خطاياهم".
ويضيف مالك: "إن الله أراد لبنان الكبير كي يكون على حدود فلسطين، أي جاراً لدولة يهودية ستنشأ في ما بعد. والله أبقى الموارنة وأنماهم ووسّع آفاق وجودهم، لأنه سيُدخل يهود إسرائيل في الدين المسيحي بواسطتهم. لذلك فإنّ وجود "لبنان الكبير" ليس صدفة. وهناك ملاءمة لغوية ومشرقية بين اليهود والموارنة. لذلك، سيصير اليهود مسيحيين من طريقهم". (كتاب "من أجل العدالة في الوطن" للمفكر أنطوان نجم). وهنا، يأمل نجم ألا تحمل هذه الأقوال تأويلات وتفسيرات من قبل أصحاب النوايا السود وتكون على غير حقيقتها.
 
المطلوب الكثير
ما يهم الموارنة هو أن يُصان أمنهم وحرّيتهم، وتكون خصوصيتهم محفوظة. وهم يريدون لسواهم ما يريدون لأنفسهم. والخطر اليوم أن الشعارات التي كانت تُكتب في الثمانينيات على حيطان شوارع بيروت الغربية كـ"لبنان بلد إسلامي وسيبقى مسلماً" وغيرها من الشعارات التي تشرعن الوجود المسلم أكان سورياً أم فلسطينياً... على حساب المسحيين، تعود اليوم عبر "حزب الله" ومشروعه المغطّى من جزء من الموارنة، ومحاولة تحويل لبنان إلى جمهورية إسلامية، وليعود من جديد هاجس أمن سائر المكوّنات اللبنانية مطروحاً على بساط البحث، ضاربين عرض الحائط بـ"الخصوصية اللبنانية" التي قال عنها يوماً جمال عبد الناصر: "اتركوا لبنان وشؤونه، لبنان له خصوصيّة. يجب أن لا ينضمّ إلى دولة الوحدة لا الآن ولا في أيّ مرحلة أخرى".
وهذا يعني أنّ لبنان لا يمكن أن يكون لا في دولة الوحدة، ولا في أيّ محور! لبنان يجب أن يبقى في قلب لبنان. لذا، المسؤوليّة وطنية بامتياز على كلّ المكونات، أمّا الموارنة فمطلوب منهم الكثير، وعودتهم إلى مقدّمة القرار الوطنيّ وكواليسه، وأن يستفيقوا ويساعدوا على نشوء نخبة تقود بتجرّد، ووفق وعيهم الروحيّ والتاريخيّ. المطلوب عودة الروح المارونية المناضلة لإضاءة الشعلة في نفوس اللبنانيين، والحفاظ على لبنان الحرّ وعلى المسيحية الحرّة، وإلا فإنّ الموارنة والمارونية ولبنان إلى زوال...
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium