لا يبدو أن لقاء بيت عنيا – حريصا، بالرغم من نوايا البطريركية المارونية، أعطى أو سيُعطي دينامية جديدة على مستوى الصّف المسيحي، بما يتعلّق بالقضايا المتأزمّة، وفي طليعتها رئاسة الجمهورية، التي تشكّل همّ البطريركية الأول في المرحلة الحاليّة.
خلوة بيت عنيا بقدر ما هي خلوة للصلاة والتأمّل الروحي هي محطة تأمّل في الواقع اللبناني. مشهديّة أرادتها بكركي في أسبوع الآلام عند المسيحيين للعودة إلى الذات والجذور، أي إلى جذور الدور المسيحي اللبناني الطبيعيّ الذي ساهم مع شركاء مسلمين في لبنان في إنشاء دولة نموذجيّة بتعدّديتها، وشراكتها، وديمقراطيتها، وتنوّعها، وازدهارها، وبالرسالة التي أعطتها، وبالنموذج الذي قدّمته على المستويات كافة، من مالية وسياسية واقتصادية، وعلى مستوى عكس السلطة لواقع المجتمع اللبناني. لكن بحسب المشاركين فيها، طرح التأمّل على الحاضرين مسؤوليّتهم السياسية في إتمام الاستحقاق الرئاسي واستشعارهم بالخطر على الوجود.
للتقارب نظرتان مختلفتان
وانطلاقاً من هذا الواقع الذي تضمّنته الخلوة، فإنّ المسيحيين مدعوون كغيرهم للتفكير في أبعاد الأزمة اللبنانية أولاً، وفي الدور المسيحيّ الوطنيّ ثانياً، وإجراء عملية نقد ذاتيّ لمسارات معيّنة للتطلّع إلى المستقبل ثالثاً.
من هنا، ترى "القوات اللبنانية" أنّ "التقارب بين القوى السياسية، أكان بين "القوات" و"التيار الوطني الحرّ"، أو مع أيّ فريق آخر، يتطلّب وضوحاً في الرؤية، وفي كيفيّة مقاربة العمق الذي عبّرت عنه الخلوة الروحية. بمعنى أوضح، إن الخلاف بين "القوات" و"التيار الوطني الحرّ" ليس خلافاً على مناصب، إذ هناك فرق في طبيعة الفريقين؛ فالتيار منذ نشأته إلى اليوم، هدفه السلطة، بينما "القوات" منذ نشأتها هدفها قيام دولة فعليّة لجميع اللبنانيين، يعبّرون فيها عن خصوصيّاتهم وحضورهم بكلّ حريّة ومساواة. لذلك نشأت كمقاومة عسكرية، واستمرّت في نضالها السياسي على الأهداف ذاتها".
بالنسبة إلى "التيار الوطني الحرّ"، التقارب بالمعنى البشري حصل، فستريدا جعجع كانت إلى جانب جبران باسيل؛ وهو أمر بحسب مطّلعين قصده بشارة الراعي لمحاولة التقريب بين "القوات" و"التيار الوطني الحرّ"، علماً بأن "التيار" كان من أشدّ الأطراف دعوة لعقد هذه اللقاء. وتقول مصادره لـ"النهار": "أبلغنا البطريرك قبل فترة طويلة، أننا "مستعدون للتجاوب مع أيّ مبادرة تقارب وانفتاح مهما كانت الصيغة لأن المسألة بالنسبة إلينا تتصل بالحفاظ على الوجود السياسي للمسيحيين بالشراكة الوطنية. وضعنا جانباً كلّ الخلافات السياسية بما يتعلق بالخيارات الرئاسية، واعتبرنا أنه على مستوى الشراكة الوطنية يجب أن يكون الرئيس المقبل حصيلة أعلى نسبة تأييد لدى المسيحيين". من هنا، تضيف مصادر "التيار"، كانت ورقة الأولويات الرئاسية التي عُرضت على مختلف القوى السياسية باستثناء "القوات" التي رفضت استقبال وفد "التيار". لكن هذا لا يلغي حقيقة عبّر عنها رئيس "التيار الوطني الحر" أن هناك اثنين تنازلا عن شرعيّتهما الانتخابية، هما جبران باسيل وسمير جعجع، لكونهما يحظيان بالتمثيل الأعلى بين المسيحيين، ولم يترشّحا".
"الفعل المتشابه" بين الرجلين بـ"التنازل"، بالنسبة إلى التيار الوطني الحر، هو الخطوة الأولى في مسار طويل، لكنها تبقى ناقصة، إذا لم تُدعّم بتوافق مع "القوات" على اسم أو أكثر للرئاسة؛ والاسم الذي يحوز دعم الجهتين يعني أنه حصل على تأييد نحو 40 نائباً في البرلمان بما يزيد عن 60 في المئة من المسيحيين.
وفيما يسعى التيار للوصول إلى هذا الهدف، حدّدت مصادره "لاءين" بالنسبة إلى التعامل مع الشركاء المسلمين؛ "أولاً، "لا" يجوز إطالة أمد الوقت في التفكير من دون اتفاقنا كمسيحيين والإبقاء على الفراغ الرئاسي لفترة أطول؛ وثانياً، "لا" نستطيع أن نفرض على الفريق المسلم اسماً واحداً، ومعادلة إمّا السير بهذا الاسم أو لا رئيس". من هنا، المسألة تَفترض توافق المسيحيين على أسماء ومنحهم الشرعية المسيحيّة، بموازاة أخذ مقتضيات الشراكة الوطنية بالاعتبار".
"المسألة أبعد من رئاسة الجمهورية بحسب "القوات". هناك انقسام بين مشروعين، جبران باسيل في خطابه الأخير عندما كان يتحدث عن خلافه مع "حزب الله" لخّصه بجملة واضحة المعالم أنه كتيار وطني حرّ يعطي الأولوية للدولة ثم للمقاومة، بينما "حزب الله" يعتقد العكس، بالرغم من أن لا ترجمة لهذه الأقوال في ممارسات "التيار".
بالنسبة إلى القوات، مصطلح المقاومة بالمفهوم الذي يستخدمه "حزب الله" هو ضد الدولة، ومقاومة "حزب الله" انتهاك للدولة وضرب لكلّ مشروع الاستقرار والازدهار ولأمن اللبنانيين ولعلاقات لبنان الخارجية، وطالما هذا التوجه موجود فمسألة التقارب صعبة.
خريطة طريق "القوات"
تحدّد "القوات" خريطة طريق للوصول إلى بلورة وحدة صف شبيهة بالجبهة اللبنانية على سبيل المثال، أو بلقاء قرنة شهوان أو 14 آذار، فتؤكد أن هذا الأمر يستدعي أن يسبقه وحدة موقف سياسي، تشخّص مكمن الأزمة ألا وهي "حزب الله"، معتبرة أن استمرار الاختلاف في التشخيص السياسي لمكامن الأزمة يعني أن أيّ حلول ستبقى غير منطقية وغير مرجوة.
وفضلاً عن الإشكالية المتعلقة بـ"حزب الله" وسلاحه، هناك إشكالية أخرى تتعلق بحسن إدارة الدولة. لذلك قبل أن تعالج هذه المشكلة، والخروج بموقف سياسي واحد من الأزمات القائمة فمن الصعوبة بمكان الحديث عن وحدة صف".
باسيل مستثمر غير موثوق فيه
لا تنظر "القوات" إلى الخلوة الروحية على أنها وسيلة فكّت عزلة جبران باسيل، بل ترى أن باسيل في اشتباك سياسيّ، أحياناً يكون متقدّماً، وأحياناً بارداً كما هي الحال اليوم، مع قوى سياسية تختلف معه بالنظرة إلى لبنان؛ وفي الوقت نفسه، هو في مشكلة مع "حزب الله" طبيعتها سلطويّة، بما يعني أن الحزب لو اختاره كمرشّح لرئاسة الجمهورية لما وجدت المشكلة بينهما".
وتوضح عدم استغلال "القوات" لهذا الخلاف، بسبب عدم الثقة بباسيل، لأنه في أيّ لحظة يمكن أن يعود ويتقاطع مع "حزب الله". فتناقضه الحالي ليس مبنياً على رؤية وطنية بل على خلفية سلطوية، وبالتالي تتفادى "القوات" إمكان منحه مكسباً سياسياً ليعود لاحقاً ويستثمره في موقع آخر وواقع مختلف، فضلاَ عن أن القوات ترى أن الأزمة اللبنانية وصلت إلى حدّ لا يمكن معه بعد الآن التساهل والتهاون، بل المرحلة تتطلب مزيداً من التشدّد لإخراج الواقع اللبناني من الأزمة الموجود فيها. لذا، المسألة برأي "القوات" لا تتعلّق باستغلال آنيّ لتوجّه معيّن، بل المسألة الأساسية وجود رؤية ثابتة في مقاربة الأمور الوطنية؛ وإذا لم توجد هذه الرؤية فسيستفيد جبران باسيل من التناقض الموجود اليوم ومن الوضعية ليستثمرها غداً في غير مكانها المطلوب".
إذن بفعل الثقة المفقودة بين الطرفين، تتجنّب "القوات اللبنانية" أي لقاءات مباشرة تعطي الوزير باسيل مكاسب تُستثمر في غير مكانها الطبيعي، وتبقي على خيار "التقاطع غير المباشر"، الأمر الذي لا يرفضه "التيار" بدوره، لكنه نتيجة استشعاره خطراً وجودياً على الشراكة السياسية للمسيحيين في لبنان، يُصرّ على الشراكة الفعلية والمتوازنة، ويؤكد أنه "مهما اقتضت تكلفة الاتفاق بالحوار على مرشح للرئاسة يكون محصّناً من الفريقين، فنحن جاهزون لها وأثبتنا ذلك".
ويضيف: "لا نسعى لتسويات ولا لحلّ مشكلات أو فكّ عقد على حساب الموضوع الرئاسيّ، فأيُّ اتفاق يُمكن أن يتحقّق مع بقاء كلّ طرف على موقفه وخياراته والحقّ في الاختلاف. نحن نتصدّى لكلّ محاولة فرض رئيس جمهورية بغير شرعية الأكثرية المسيحيّة، وموقفنا من مرشّح "الثنائيّ" المُعلن سليمان فرنجية ليس شخصيّاً، بل باعتباره مرشح فريق سياسي "طائفي" هو "الثنائي الشيعي" من دون إرادة الأكثرية المسيحية. عدا عن ذلك، لا يمثل سليمان فرنجية مرشّح الخطاب الإصلاحي، ولا السلوك الإصلاحي، لذلك، نحن لا نختبئ وراء إصبعنا في خلافنا مع "حزب الله" أو حركة "أمل" في موضوع مرشح الرئاسة، والأهمّ أن لا فواتير نسدّدها لأيّ كان". لكن "التيار" يُشدّد على أن موقفه من ترشيح سليمان فرنجية من قبل "الحزب" لا يعني أنّه ضدّ سلاح المقاومة بمواجهة إسرائيل، ويقول: "مفاهيمنا واضحة، ولا خلط فيها، ونحن أسياد قرارنا".
شروط "القوات" واستحالات "التيار"
بالرغم من عمق الخلاف، لا تنكر "القوات" وجود "تقاطع غير مباشر" مع "التيار" من دون تنسيق وتشاور، وهو أمر جيّد، وتجب المحافظة عليه من دون تنسيق، ولاعتبارات مختلفة. فباسيل يرفض سليمان فرنجية لأنّه يشكّل خصمه الرئاسي، بينما القوات ترفض فرنجية انطلاقاً من قناعتها بأنه لا يجوز أن يبقى "حزب الله" ممسكاً بقرار رئاسة الجمهورية. فهي ترى أن استمرار إمساك "الحزب" بقرار الرئاسة انقلاب على الانتخابات النيابية ونتائجها، وانقلاب على المزاج المسيحي العام، ومواصلة الانقلاب على اتفاق الطائف، ومواصلة إبقاء لبنان في الحالة المأساوية الموجود فيها، وبالتالي الاختلاف كبير بين اعتبارات "القوات" واعتبارات "التيار".
وتجدّد "القوات" التأكيد أن الخروج من التقاطع غير المباشر إلى التقاطع المباشر يستدعي من باسيل ثلاثة أمور: الأول، مغادرة التحالف مع "حزب الله" بشكل نهائيّ، وإعلانه جهاراً أن "حزب الله" يتحمّل مسؤولية الأزمات المتتالية في لبنان، وإنْ لم يسلّم سلاحه للدولة اللبنانية فالأزمة مستمرّة؛ والثاني، حسن إدارة الدولة؛ والثالث، ملاقاة "القوات" على مرشّحها.
وترى أنه بعد اتفاق معراب وتبنّي "القوات" ترشيح العماد ميشال عون وانتخابه رئيساً، المطلوب اليوم من "التيار" نفسه أن يبادر باتجاه القوات، وأن يتبنّى ترشيح ميشال معوّض أو أقلّه ما تتفق عليه القوى المعارِضة. المطلوب من باسيل اليوم أن يذهب إلى خيار "القوات"، انطلاقاً من "ردّ الإجر"، والاتفاق على دعم ترشيح شخصيّة سياديّة إصلاحية لإنقاذ الدولة من إمرة "حزب الله".
من جهته، يرفض "التيار الوطني الحرّ" الخضوع لشروط "القوات"، ومنها تأييد مرشحها ميشال معوض، ليس لأسباب شخصية، "فالرجل كان موجوداً في التكتل العوني، وجرفته مغريات 17 تشرين على غرار كثيرين، من دون أن يعني تحوّله إلى عدو في قاموسنا، لكن لا يمكن الإنكار أنه مرشح تحدّ. لذلك البحث مع "القوات" لا يكون "تعوا لعنّا لنتفق نحن وياكن على مرشحنا"، بل البحث يكون على أساس معادلة واضحة، لنلتقي معاً في المساحة المشتركة، ولنطرح معاً اسماً أو أكثر، ولنتّفق عليهم ونمنحهم الشرعية المسيحيّة ثم نطرحهم على شركائنا في الوطن".
ويضيف "التيار": "نريد أن نتوافق مع المسيحيين على أسماء يقبل بها المسلمون تكون إصلاحية، ميثاقية، سيادية. اسمان أو ثلاثة متوافق عليها بمباركة البطريركية المارونية بما لها من تفويض من الكنائس الأخرى".
وتختم مصادره: "لا لقاءات مباشرة مع "القوات. لكن لا نعترض على أي لقاء بالمباشر. كما نرفض تحويل استحقاق رئاسة الجمهورية إلى سجال معها على خلفيّة الخلاف بيننا. نحن سعاة ودعاة تفاهم عميق بين القوى المسيحية الممثلة في مجلس النواب حول اسم أو اسمين أو ثلاثة يحظون بالمواصفات التي حدّدها الجميع: سيادي، إصلاحي، لكنّه توافقياً مقبولاً من الآخرين".