يشهد التيار "الوطني الحر" عمليّة "تطهير" مُستغربة، عرّابها رئيسه جبران باسيل، وضحاياها قُدامى "التيار" الذين لم يتماشوا مع السياسات الجديدة التي فرضها باسيل على الصعيدين الحزبيّ والوطنيّ. وبدا هذا المسار واضحاً منذ انتخابات 2018 النيابية، حينما فرض رئيس التيار أسماء جديدة استبدل بها شخصيّات سبق لها أن ترشّحت مع رئيس الجمهورية ميشال عون في دورات سابقة، فصار تكتّل التيار مزيجاً من نواب عون ونواب باسيل.
استمرّ باسيل في اتّباع النهج نفسه مع طرح أسماء جديدة غير مألوفة في الوسط السياسيّ لتولّي حقائب وزارية خلال عهد عون، وهم الوزراء الذين يحملون صيغة عونيّة وباسيلية في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ورسّخه في الانتخابات النيابية الأخيرة، حينما اتبع آلية مشبوهة لاقت اعتراضاً واسعاً في داخل التيار وخارجه، آلت إلى اختيار أسماء دون أخرى للترشّح إلى الانتخابات، فاستبعد بذلك نواباً لا يرغب بوجودهم في الندوة البرلمانية لصالح أسماء معروفة بقربها منه، وأبقى على قلّة قليلة لا يستطيع خوض الانتخابات من دونها نسبةً لشعبيتها الواسعة.
عكست سياسات باسيل انقساماً ظهر جلياً، وبات التيار تيارين، الأول يضمّ الرعيل القديم الذي رافق عون منذ العام 1989 مروراً بمرحلة المنفى والوصاية السورية وما بعد عودته، والثاني مجموعة باسيل الجديدة التي باتت تسيطر على معظم المواقع وتتبوّأ المناصب. ويختلف التوجّهان بشكل جوهريّ وعميق في ما بينهما حول سياسات التيار، وظهر هذا الخلاف إلى العلن حتى بات خارج السيطرة.
مواجهة بين العونيين والباسيليين
من يواكب أداء جبران باسيل يستشفّ أن لدى الرجل نيّة للسيطرة على مفاصل "التيار" كافة والاستحواذ على قراره، خدمة لأهدافه وسياساته. وفي هذا الإطار، يمكن وضع خلافاته التي تظهر في كل مرّة بينه وبين النائب آلان عون، أو أخيراً مع كل من النائبين إبراهيم كنعان وإلياس بو صعب، علماً بأنّ بو صعب لا ينتمي إلى "التيار". فباسيل، بحسب مصادر عليمة، عبّر في أكثر من جلسة داخليّة عمّا يهدف له، بقوله "بعد ما شافو شي".
هذا الأداء، يربطه عدد من قدامى "التيار" بأداء الرئيس ميشال عون عندما كان رئيساً للتيار الوطني الحر، فهو لم يتوان عن التخلي عن عدد من رفاق دربه خدمة لأهدافه الشخصية، مثل عصام أبو جمرا، أو بسام خضر آغا، أو عبدالله الخوري، أو روجيه حنان إلى اللواء نديم لطيف المنكفئ سياسياً، وشقيقه إميل لطيف، والسبحة تكرّ. وعدد من هؤلاء ينضوي اليوم تحت سقف "الجبهة السيادية" لما تمثله من خط وطنيّ سياديّ ونحو الحريّة، إضافة إلى شامل روكز، وجيل جديد يمثّله نعيم عون وزياد عبس، وعدد من مناضلي "التيار" السابقين.
لا يوافق قُدامى "التيار" على ممارساته كافة، ويعتبرونها سبباً من أسباب فشل عهد عون، ممّا أدّى إلى حصول الشرخ في داخل "التيار الوطني الحر". ويشهد "التيار" حملة انشقاقات تقابلها حملة فصل عضويّة تستهدف بعض الوجوه، وقد طالت في الفترة الأخيرة النائبين السابقين زياد أسود وماريو عون، وهما شخصيّتان لهما تاريخهما في التيار منذ تأسيسه. وقد علّلت أمانة السرّ الفصل بعدم التزامهما بالمبادئ والتعليمات. ومن المرتقب أن تطال العملية أسماء جديدة.
وفي السياق، يُشير النائب السابق ماريو عون إلى أن "هدف الفصل إزاحتي لصالح "جماعة جبران باسيل"، وهذا ما حصل في انتخابات الشوف. ووفق معلوماتي، الأمر لن يتوقّف على من طالتهم قرارات الفصل حتى الآن، بل إن الباكورة ستتوسّع، وثمّة أسماء أخرى مرشّحة لترك التيار"، لكنه يرفض الدخول في الأسماء تاركاً الوقت الذي يتكفّل بالإفصاح عن كلّ شيء.
ويلفت في حديث لـ"النهار" إلى أن "هدف العمليّة المستمرّة هو إخراج العونيين من التيار لصالح الباسيليين، علماً أننا الأساس، وذلك لأن باسيل يعمل على مخططٍ يحتاج إلى مُطيعين وتيار على قياسه لتنفيذه، بعيداً عنّا، لأن "عظمنا قاسٍ"، ونُبدي رأينا بالملفات كافةً بكامل حريتنا، ونعتمد مبدأ الديموقراطية، فيما يقلق رئيس التيار من ألا نكون مسهّلين لمخططاته وسياساته"، لكنه ينفي معرفته بما يدور في بال باسيل من مشاريع.
وفي هذا السياق، يكشف عون عن ملاحظات وتعليقات كانت تصدر عن قيادة التيار بعد كلّ ظهور إعلامي له، لأنه لا يلتزم بما يُريد باسيل أن يقوله، إلّا أنه يحمل في نفسه عتباً، ويقول إن "خبرتنا طويلة في "التيار" وفي الحياة بشكل عام، ونحن من مؤسّسيه ومعدّي وثيقته، وكان من المفترض الاستفادة منّا بدل إزاحتنا".
ما موقف رئيس الجمهورية؟
ينقل عون لـ"النهار" معلومات موثوقة وصلته، تقول إن قرار الفصل لم يصدر عن المجلس التحكيميّ، الذي لم يجتمع أو يبحث في الموضوع أساساً، ويذكّر بأنّه كان قراراً رئاسيّاً صادراً عن باسيل.
وعن موقف رئيس الجمهورية ممّا يحصل في التيار، يقول: "إن ميشال عون يُزعجه ما يحدث، لكن تبقى العلاقة معه وطيدة".
ويختم عون حديثه مذكّراً بأن "قرار الفصل جاء بعد الاستقالة التي تقدّمت بها في 14 تموز الفائت لرئيس التيار جبران باسيل شخصياً، لكنهم يريدون تسجيل النقاط علينا، ويحاولون إظهار أنهم لا يساومون على مبادئهم، إلّا أننا نعتبر ما يحصل تعدياً على كراماتنا، ولم يكن من الضروري إرسال مذكّرة الفصل"، موجّهاً رسالة لباسيل: "حلّ عنا ووقّف هون".
عون الذي يُقصي الأسماء وليس باسيل
رئيس حركة "التغيير" إيلي محفوض يرى أن "ما يحدث من خلال إقصاء وإبعاد ومعاقبة العونيين لا يمثّل سوى أسلوب ميشال عون، الذي اعتمده في وقت سابق أثناء قيادته الجيش، حينما تخطّى القادة العسكريين، واعتاد على التوجّه مباشرةً إلى الأفراد على اعتبار أنّ ولاءهم سيكون له".
وفي حديث لـ"النهار"، يُشير إلى أن "الجهة التي اتخذت وتتّخذ قرارات الفصل هي عون وليس باسيل، والأخير ليس سوى أداةً للتنفيذ. أما عن السبب، فذلك يكمن في رغبة التخلّص من كل"صقور التيار"، الذين يتمتعون بعقليّة عدائيّة تجاه "حزب الله" والنظام السوري، حلفاء عون الجُدد منذ عودته في أيار من العام 2005 بصفقة مع الطرفين المذكورَين".
وفي هذا السياق، يُضيف: "الحملة بدأت منذ إقصاء عصام أبو جمرة، واستمرت مع سليم عازار، عبدالله خوري، بسّام آغا، نعيم عون، فايز كرم، شامل روكز، وصولاً إلى النواب الذين فصلهم قبل أيام، وبذلك يكون قد أقصى كافة مؤسّسي التيار، لأن عون يعتبر أن هؤلاء يشكّلون عبئاً عليه يستدعي التخلّص منه للتحرّك بحرية أكبر".
أمّا عن المستقبل الذي ينتظر "التيار" بعد هذه الحملات المُمنهجة، فيقول محفوض: "لاحظنا موقع التيار في وقت سابق والتراجع الذي حصده. كان يمثّل 76,5 في المئة من المسيحيين، لكن التمثيل يتراجع بشكل ملحوظ، والتيار بات بحاجة لرافعة "حزب الله" من أجل حصد الأصوات والمقاعد النيابية والوزارية".
ورداً على سؤال حول الشخصيات التي يستبدلها بقُدامى "التيار"، يرى محفوض أنها "لا تنتمي لوجدان "الوطني الحر" المعارض لسياسات "حزب الله" وسلاح الميليشيات، وهذا المبدأ كان من أساسيات التيار".
ويستبعد محفوض أي حركة مضادة من الشخصيات التي استُبعدت عن التيار، ويعلّل ذلك بقوله إن "لا نيّة ولا إمكانية للتحرّك أو تنظيم الصفوف من أجل معارضة ما يحصل، لأن كل شخصية تتبع فكراً معيّناً ولا يجمعهم شيء".
تؤشّر خطوات باسيل الأحادية في "التيار" إلى أن الأخير سيواجه مرحلة صعبة، ستتضعضع فيها صفوفه، وستزيد من حدّة الشرخ الحاصل، وقد ينجم عن التيار جناحَان منفصلان في حال أراد القُدامى، والذين تعرّضوا للفصل، تنظيم صفوفهم واستعادة التيار من باسيل ومجموعته، خصوصاً أن أعدادهم آخذةً في الارتفاع.