مرّة جديدة، يضع المؤرّخ عبد الرؤوف سنّو القارئ أمام مسؤوليته كمواطن في ضياع الوطن وصولاً الى غمز المسؤولين على مسيرة طويلة فيها النجاحات والإخفاقات في مؤلّف عن "دولة لبنان الكبير-1920-2021، إشكاليات التعايش والحياد والمصير" الصادر عن دار المشرق، في محاولة صريحة لجمع سيرة وطن لم ينعم بسلام حقيقيّ في كلّ ما للكلمة من معنى، في إصدار واحد موثّق.
التقت "النهار" المؤلّف عبد الرؤوف سنّو في محاولة للإحاطة بأهمية الكتاب، الذي اعتُبر بداية إنهاء إصدار يتوجّه "إلى كلّ اللبنانيين لتقديم جردة حساب عن أماكن الإخفاقات والنجاحات في تعايشهم الذي أُطلق عليه تكاذبًا "العيش الواحد".
عمّا إذا كان أهداه الى أحد السياسيين، قال: "أهديته إلى الوزير الصديق جورج كلّاس الذي كتب أنّه لا يمكن فهم لبنان الكبير وأسباب إنشائه وما طرأ عليه من تحوّلات وحوادث، وتعرّضه لمخططات الدول الخارجية والتباينات بين طوائفه، من دون الرجوع إلى كتابي. وبرأيه فقد أعاد "تقويم التاريخ الحديث للبنان... بعلمية تأريخية أضيفت عليها كياسة الأسلوب وسلوك إنساني ونظرة انفتاحيّة..." (وهو) يكتب بضميره ويؤرخ بأخلاقه، فقدّم سفرًا جديدًا من (أسفار التكوين) اللبنانيّ. إنّها الدبلوماسية الإقناعية التي وظّفها العلّامة عبد الرؤوف سنّو في كتابه لإعادة تصويب التواريخ، وإنتاج تاريخ يتّصف بالجودة ويليق بمئوية (إعلان لبنان الكبير)".
عما إذا كان هذا الإصدار يكمل موسوعته عن حرب لبنان بين 1975-1990، ذكر سنّو أنّ "هناك كتابين لي يكملان كتابي "حرب لبنان"، مشيراً الى أنّ "كتاب "لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف" تناول إشكاليات الطائفية المجتمعية والطائفية السياسية والديموقراطية التوافقية التي تمنع جميعها الانتقال إلى دولة المواطنية".
الطوائف المتضعضعة
أ
وأشار الى أنّه "تناول الشرخ الذي أحدثته سورية بين أبنائها، وتداعيات تمديدها لولاية الرئيس لحود، وظروف
اغتيال الحريري والحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، في سياق "الفوضى البنّاءة" الأميركية في المنطقة، ثمّ وقوع لبنان وطوائفه في دوامة الجيوسياسة الإقليمية حتى العام 2011، مرورًا بالمحكمة الدولية، فيما أكمل كتابي الجديد "دولة لبنان الكبير" تاريخ لبنان بين العامين 1920 و2021، وعلاقاته الخارجية، والانتفاضة اللبنانية وتداعياتها، وحياده، وانهيار اقتصاده وتضعضع طوائفه من الداخل ومشاريع الفدرلة وديموقراطية الأكثرية والمثالثة".
وعمّا إذا كانت إشكالية التعايش بين اللبنانيين انعكست على هذه الظروف المواكبة لمئوية دولة لبنان، أكّد أنّ "لبنان الكبير بدأ مسيرته منقسمًا حول الهوية، فالمسيحيون أرادوا وطنًا يحفظ خصوصيتهم، والمسلمون رفضوا إخراجهم من فضائهم العربي-الإسلامي، لكنّهم تحلّوا بالواقعية السياسية واندمجوا تدريجيًّا في الدولة، إلى حين عقد "الميثاق الوطني" الذي كرّس الديموقراطية التوافقية على أساس النسبية والهوية الملتبسة"، مشيراً الى أنّه "مع تغيير الديموغرافيا لصالح المسلمين، واستقوائهم بالناصرية والمقاومة الفلسطينية، اهتز التوازن والتعايش، فخشي المسيحيون من خسارة امتيازاتهم ودورهم لمصلحة المسلمين؛ فكانت الحرب الأهلية في العام 1958 والتوترات بين العامين 1968 و1975 على خلفية تحوّل المقاومة الفلسطينية إلى دويلة في الداخل حتى وقوع حرب لبنان".
قال:"إنّ مصالح البرجوازيّتين المسيحية والإسلامية أمّنت الحفاظ على السلم الأهلي، لكنّ الولايات المتحدة هي التي أرادت الحرب الداخلية لتحجيم المقاومة الفلسطينية وحماية إسرائيل من عملياتها، وبالتالي إدخال سورية إلى لبنان لتقاسم النفوذ مع إسرائيل سرًّا والإمساك بالفلسطينيين. فقضت الحرب تقريبًا على التعايش السابق".
الفساد
انتقل في حواره الى قراءة الوضع المأساوي الحاليّ ومن المسؤول عمّا يجري،" مشيراً الى أنّ "وجود منظومة فساد حاكمة تختلف سياسيًا وتتوافق على تحاصص المناصب والصفقات ونهب المال العام، وشعب يعيد إنتاج زعيمه، فضلًا عن تدخّلات الخارج، أدّى إلى الوضع المأساويّ الراهن".
لمن تحمّل مسؤولية ما وصلنا إليه؟ قال: "أنا أحمّل الجميع المسؤولية، لأنّ معظم الأحزاب والقيادات شارك في الفساد. وقد عمل على تفكيك الدولة ومؤسساتها وفرض سيطرته على الدستور والقانون فتسيّس القضاء".
في تفاصيل الكتاب، توقّف عند الفصول الثلاثة الأولى، التي تعكس قلقه لما وصل اليه لبنان في مئويّته قائلاً: "لن يعود لبنان كما كان".
استمرّ في شرحه قائلاً: "لا وجود لدولة ذات سيادة في وجود دولة "حزب الله". مصير لبنان مرهون بالصراعات الخارجية، وفي مقدّمها بين إيران وإسرائيل، وما يجري في سورية من تدخّلات دولية وإقليمية، وفي العراق، حتى اليمن. لذا، لا توجد حلول للأزمة حاليًّا".
الفدرلة
وعن رأيه في طرحه للفدرلة قال: "يفكّر الموارنة في الفدرالية. أنا معها كحلّ ناجح جرّبته دول اعتمدته، لأنّ شعوبها عرفت العلمانية أو فصلت بين الدين والدولة، واعترفت بالأقليات لديها تحت مظلة حكومة فدرالية ومحكمة دستورية وغيره. في لبنان الفدرالية تعني دولة طوائف دينية لها مواقف سابقة في التناحر والاستتباع للخارج". وعمّا إذا كان طرحه فعلياً أمرًا ناجحًا قال: "نحن نختلف في لبنان الموحّد على السياستين الدفاعية والخارجية، فكيف سنتّفق عليهما في لبنان الفدرالي وهما مركزيتان فيه؟ الحكومة المركزية ستكون من رؤساء الطوائف من الأقاليم، فكيف سيتّفقون على المسائل الاستراتيجية بخلفيات طائفية ومذهبية؟ كيف سيحسم الجيش الفدراليّ الخلافات بين الأقاليم وهو مكوّن من أفراد من الطوائف؟ واليوم لدينا نفط وغاز، ولدينا أقليات في مناطق أكثرية، وهذا سيصعّب عملية التوافق. وطالما أنّنا نفتقد ثقافة التعايش مع الآخر، فقد تؤدّي الخلافات والتطلّع إلى الخارج إلى سقوط الفدرالية وتقسيم لبنان".
انتقل في حديثه الى قراءته للفساد المستشري في لبنان، كما تناوله في الفصول 4 و5 و6 من الكتاب، مشيراً الى أنّ "الفساد والمحاصصة ونهب المال العام وانهيار الخدمات وعجز الخزينة وزيادة الضرائب والرسوم، كلّها حرّكت الشارع اللبناني منذ العام 2011،" مشيراً الى أنّه "خلال الانتداب تألّق الاقتصاد اللبناني، وبعد اتفاق الطائف عاد إلى النهوض بدخول رساميل إلى لبنان، في قطاعات البناء وإعادة الإعمار والسياحة، لكنّ المحاصصة (الترويكا)، ووصول منظومة من أصول ميليشياوية إلى الحكم تغلب مصالحها على مصالح الدولة والشعب، أوصل لبنان إلى الانهيار في العقود الثلاثة المنصرمة".
توقّف عند أسباب فشل ثورة 17 تشرين المتناولة في الكتاب، مشيراً الى أنّ الانتفاضة كانت "مكوّنات مجتمعية مختلفة، دينيًا وثقافيًا ومهنيًا ومناطقيًا هزّها الفساد فنزلت إلى الشارع".
الثنائيّ الشيعيّ
برأيه، "لم تعرف القيادة المركزية ولا البرنامج الموحّد أنّ تسيس الأحزاب لها، والتصدّي العنيف من قبل ميليشيات الثنائيّ الشيعي والقوى الأمنية، والحملة عليها من المنظومة الحاكمة جعلها تتلاشى تدريجيًا ثمّ انطفأت بسبب انتشار كورونا".
ردّاً على سؤال عن تخصيصه البطريرك الراعي بالتفاتة خاصّة في كتابه قال: "في أيار 2019، طالب عبر الإعلام بحياد لبنان لعدم إمكان الإصلاح بوجود الطبقة الفاسدة و"حزب الله".
ماذا عن المسلمين و"حزب الله"؟ قال: "أمّا عن المسلمين، فالسنّة يخشون تأثير التدويل على عروبتهم، فيما الحقيقة أنّهم يخشون أخذ قرار من دون ظهير عربيّ (السعودية). أمّا "حزب الله"، فيرفض التدويل، لأنّه سيكفّ يده ويد إيران عن لبنان. وعن السلاح وقرار الحرب، فالحزب يمسك بهما. ولا قيام لدولة ذات سيادة، طالما أنّها لا تحتكر وحدها السلاح وقرار الحرب والإمساك بشعبها. وهذا يقودنا إلى جريمة مرفأ بيروت التي توقّف التحقيق العدليّ فيها، بأمر من "حزب الله".
خلص الى اعتباره لبنان خسر، كما تناول في الفصل الثامن، القدرة على الصمود في هذه الأزمة لأن لا قدرة للشعب على التغيير، وأيّ تحرّك في الشارع سيقمعه الثنائيّ، أو نذهب إلى حرب أهلية".
ختاماً، أمل أن "تقوم طائفة قوية بالتصدّي لهما، أو أن يحدث تضافر وطنيّ بين الطوائف لإنقاذ لبنان. وكلاهما غير موجود في الوقت الراهن: الموارنة متآكلون من الداخل، والسنّة من دون قيادة، وجنبلاط بطائفته القليلة العدد يتموضع حيث مصالحه، مشيراً الى أنّه "كذلك، لا بوادر على تضافر وطنيّ، فالقوات اللبنانية والكتائب والمستقلون والتغييريّون لا يتوافقون على مرشّح للرئاسة".
[email protected]
Twitter:@rosettefadel