قد يبدو مصطلح "محاربة الفساد" فضفاضاً بعض الشيء بالنسبة للبعض أو حلماً من الصعب أن يتحقّق في لبنان. فلا شكّ أنّ سوء إدارة السلطة وغياب الشفافيّة لعبا دوراً بارزاً في دفع المواطنين إلى فقدان ثقتهم بالإصلاح. إلّا أنّه على أرض الواقع لا يمكننا غضّ النظر على الجهود "الجبّارة" التي تبذلها بعض جمعيات ومنظمات المجتمع المدني في هذا الإطار، على أمل إحداث تغيير ما ولو كان بطيئاً، على صعيد أفراد المجتمع بالدرجة الأولى ومن ثمّ باقي الشخصيات التي من شأنها التأثير على قرارات المواطنين مثل الخبراء، الصحافيين، الباحثين وغيرهم الكثير.
انطلاقاً من هنا، نشأت فكرة "مدرسة الحوكمة" التي أطلقتها جمعية الشفافية الدولية - لبنان "لا فساد"، والهادفة إلى حثّ المواطنين على التسجيل في دورات تدريبيّة إلكترونيّة مجانيّة، وبالتالي تزويد موظّفي القطاع العام، ومنظّمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، والأوساط الأكاديمية، والعالم المهنيّ والطلاب، بالمعرفة التي يحتاجونها حول الحوكمة الصحيحة والشفافة. وقد تمّ إعداد الدّورات بالتعاون مع عدد من الاختصاصيين مثل الدكتور في الحقوق القاضي زياد مكنّا، وممثلة وزارة العدل في لجنة الإدارة والعدل بكلّ ما يتعلّق بقضايا مكافحة الفساد القاضية رنا عاكوم، والقاضية لدى مجلس شورى الدولة ريان علي رماني، ورئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عطية، والمستشار القانونيّ محمد المغبط، إضافة إلى عدد كبير من الباحثين والخبراء الاقتصاديين، نذكر منهم: مايا بصيبص، إسكندر بستاني، رنا رزق الله فارس، سابين حاتم، تونيا سلامة، وبسمى عبد الخالق.
بدأت فكرة "مدرسة الحوكمة" قبل نحو 3 سنوات، وتبلورت من الناحية التقنيّة لتدخل حيّز التنفيذ فعلياً العام الماضي، إذ أصبحت المنصّة متاحة لكلّ مَن يُريد المعرفة والمساءلة ضمن الإطار القانونيّ الصحيح، بعيداً عن المزايدات والشعبويّة التي يتلطّى البعض خلفها لغاية أو لأخرى. ولأن ثقة الناس تراجعت، كي لا نعمّم مصطلح "انعدمت" في هذا الإطار، لم تكن مهمّة "لا فساد" سهلة على الإطلاق، بل كانت أقرب إلى التحدّي بمختلف أشكاله، فمَن يُريد التعمقّ بهذه القضايا وسط الانهيار الماليّ الذي نعيشه؟
في الواقع، النتائج الأوليّة كانت صادمة، بحيث أقدم عدد كبير من الأشخاص على التسجيل في المنصّة التي توفرّ خدمات تعليميّة عدّة، إضافة إلى مكتبة رقميّة تستعرض مقالات ودراسات وفيديوهات حول قضايا الفساد والحوكمة في لبنان تحديداً والشرق الأوسط عموماً، وهي متاحة دون أيّ تكلفة للراغبين بالاطلاع عليها. كما تمكّن المنصّة المشاركين من الحصول على أيّ استشارة حول هذه المواضيع مباشرة من المختصّين عن طريق مراسلتهم عبر المنصّة بخطوات بسيطة وسهلة، وباللغتين الإنكليزيّة أو العربيّة.
نظرياً، قُسمت المنصّة إلى 4 فئات لتسهيل تجربة الزوّار. يشمل القسم الأول الدورات الذاتيّة التي يختار المشترك/ة ما يُريد منها، بعد الخضوع إلى اختبار معرفة شكليّ لاكتشاف ثقافته حول مواضيع الحوكمة والفساد، ومن ثمّ يبدأ بالدروس التي هي عادة على شكل فيديوهات قصيرة، وبعد الانتهاء منها يخضع مجدّداً إلى اختبار أخير لتقييم الخبرات التي اكتسبها قبل أن يحصل على شهادة مشاركة باسمه الكترونياً. والقسم الثاني يشمل المكتبة الرقميّة التي تحتوي على دراسات متعدّدة، وبالمناسبة بإمكان كلّ الباحثين الذين لديهم إلمام أو معلومات مُثبتة بالوثائق، كتابة تقارير حولها لعرضها بعد موافقة الجمعيّة باسمهم على المنصّة أيضاً، أيّ بإمكانكم تسويق أعمالكم المفيدة للمجتمع بكلّ سهولة اليوم. أمّا القسم الثالث، فيشمل برامج التعلّم المتاحة للجميع، والموجهة إلى الأعمار كافة في لبنان وخارجه. وأخيراً القسم الأخير، أو ما يُعرف بـ"المدرسة الصيفيّة"، التي تُنظمّ خلال الفترة الممتدّة بين تموز وآب، بإشراف خبراء مختصين وبالتنسيق مع عدد من الجامعات، وهدفها جمع أكبر عدد ممكن من الفئات العمريّة تحت سقف واحد لمدّة أسبوع، وتقديم المعرفة الكاملة لهم فيما يختصّ بالحوكمة والفساد الإداري والطرق القانونيّة لمحاربته، ناهيك عن المواضيع الأخرى التي تهمّ الرأي العام وتُساعد في تصويب توجهاته بشكل صحيح، وتزوّده بالمعلومات الكافية للمحاسبة والمساءلة، انطلاقاً من قاعدة "الشعب مصدر السلطات".
وكي لا تبقى البرامج التي توفرّها المنصّة نظرية فقط، تتحضّر "مدرسة الحوكمة" للدخول إلى الجامعات والمدارس في مختلف المناطق لكي تُصبح مادة أساسيّة تُدرّس أو على الأقلّ تُشرح للطلاب بطريقة سليمة، لترسيخ أهدافها عند الفئات الشابة القادرة على إحداث تغيير اليوم. كما تعمل على إطلاق مواد جديدة حول الحوكمة في المجتمع المدني، إيقانًا منها بأن هذه الظاهرة ليست حكراً فقط على الطبقة السياسيّة كما يُشاع، بل توسعت لتُصبح "ثقافة" رائجة يلجأ إليها البعض بحجّة "شو وقفت عليّي؟".
ودعت الجمعية كل من يرغبن ببناء دولة قانون فعليّة، خاليّة من الوساطة والفساد، التسجيل بمنصّة "مدرسة الحوكمة".
https://schoolofgovernance.net/