أُقرّت اتفاقيةُ الترسيم البحري الجنوبي بموافقة لبنان وإسرائيل وفق التقاء مصالح كلّ الأطراف الدولية في لحظة سياسيّة معيّنة، على أن تُوقّع في الناقورة على الأغلب خلال أسبوع إلى عشرة أيام، وسط إشاعةِ جوٍّ من الأمل في الداخل اللبناني عن انفراجاتٍ ستعقب هذه الخطوة، ومرونةٍ أميركية، ستنعكس إنعاشاً اقتصادياً ومالياً واستثمارياً.
ضخُّ التفاؤل، وإنْ تُرجم داخلياً، قد لا يطول، نظراً للخلاف الموجود داخل "الاستبلشمنت" Establishment الأميركي بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي بشأن استخدامات الاتفاقية من الجانب اللبناني، لعدم ثقة الجمهوريين بأن تبقى عائدات الغاز والنفط في خزينة الدولة والمؤسسات الشرعية اللبنانية.
وبالرغم من الأجواء الإيجابيّة التي تحيط بموضوع الترسيم، يرى اليمين الأميركي أنّ ما حصل عبارة عن تهدئة أو هدنة بين الجانبين للاستفادات الاقتصادية.
"لولا أميركا"
في الموازاة، لا بدّ من التأكيد أنّ هذه الاتفاقية لم تكن لتُقرّ لو لم يكن هناك مصلحة للولايات المتحدة الأميركية في ذلك، وفي هذه اللحظة بالذات. فلقد عمل على هذا الملف سابقًا أكثر من وسيط أميركي من فريدريك هوف إلى آموس هوكشتاين فديفيد ساترفيلد إلى هوكشتاين مجدّدًا.
بحسب المحامية الأميركية اللبنانية سيلين عطا الله، الناشطة الديمقراطية في حقوق الإنسان والشؤون الانتخابية الأميركية، والمطّلعة على ملف الترسيم، فإنّ هذا يدلّ على أنّ اللحظة السياسية الدولية ومصلحة أميركا في ذلك هي العامل الأساس في إنجاز الاتفاقية. من هنا، يبدو واضحًا تأمين المصالح الأميركية على المستوى الداخلي لكون الانتخابات النصفيّة هي على بُعدِ أسابيع قليلة من اليوم، وسيكون لهذه الاتفاقية تأثيرٌ مباشر في تحديد نتائج هذه الانتخابات وقد تكون نقطة قوّة أو نقطة ضعف لصالح الديموقراطيين.
أمّا على المستوى الخارجي، تضيف عطالله، فقد أثبتت الولايات المتحدة أنّها لم تزل اللاعبَ الأساس في السياسة العالميّة، وذلك من خلال إرسال رسائل تطمين إلى حلفائها في أوروبا على أنّها تقف إلى جانبهم في معركتهم مع روسيا لتأمين مستلزمات صمود شعوبهم في هذه المعركة.
النفط مصدر بديل لتمويل "الحزب"
من جهته، يشير طوم حرب، مدير التحالف الأميركي الشرق أوسطي للديمقراطية إلى أن الجمهوريين يعتبرون أن ترسيم الحدود سيكون إسرائيلياً لمصلحة الاقتصاد الإسرائيلي والشعب الإسرائيلي، لكنّه لبنانياً سيشكّل مدخولاً لـ"حزب الله" وميليشيا الأحزاب التابعة له، وهذا إجرام بحق اللبنانيين. ويقول: "نحن على مشارف انتخابات جديدة، وبانتظار خريطة الكونغرس الجديدة التي ستتشكّل. يُنتظر أن يلعب الجمهوريون - إذا حازوا الأكثرية - دوراً مهمّاً في مراقبة وضبط مدخول النفط في لبنان عبر إنشاء آليّات ضغط لضبط ومنع صبّ هذه الأموال في خزائن الحزب"، موضحاً بأنّ الكثير من مشرّعي اليمين في أميركا يعتبرون أنه إذا صبّ مدخول النفط لصالح الحزب وميليشياته، فسيَستخدم التعويمَ المادي لتوسيع سطوته ونفوذه في الداخل اللبناني. وبالتالي، فإنّ أداء الإدارة الأميركية منوط بنتيجة الكونغرس في 9 تشرين الثاني المقبل".
عطالله من جهتها ترى أن الدافع الأساس لأميركا في إنجاز هذه الاتفاقية هو مصالحها ومصالح حلفائها في أوروبا، في سياق معركة استراتيجية ستحدّد مصير العالم، وتحدّد حجم الولايات المتحدة وتأثيرها على السياسة الدوليّة.
وتضيف: "أميركا ساعدت بالترسيم طبعاً وفي هذا مصلحة لجميع الاطراف، أمّا أن يُقال إنّ علينا وضع آليات ضغط على لبنان منعاً لتسرّب عائدات النفط باتجاه أيّ فريق في الداخل فهذا كلام غير مقبول، وعلى اللبنانيين أنفسهم أن يوحّدوا هذه الآليات ويعملوا لمصلحتهم ويبتعدوا عن سياسة الاتكال على الغير وانتظار الحلول المعلّبة. على هذا الشعب أن يحسن اختيار ممثليه عند الاستحقاقات وعليه أن يأخذ أمره بيده. كفى لبنان معاناة جراء هذه الخيارات التي لا تؤدي إلا الى الارتهان للخارج، إذ ان خيارات اللبنانيين هي التي تضعهم في خانة التبعية للخارج الذي يأتي بالحلول لمشاكلهم، لا يجب أن يكون هناك وصي على لبنان بعد الآن وهذا مرهون بخيارات اللبنانيين وليس بأي عامل آخر. كفى تبعية وكفى مبايعات عمياء على أسس طائفية ومذهبية وليكن لبنان وطنا للجميع وليس محميات للبعض".
وتعتبر عطالله أنّ "حزب الله" لاعبٌ أساسي على الساحة اللبنانيّة، ومن المستحيل أن يُقرّ هكذا اتفاق له علاقة بإسرائيل من دون أن يكون الحزب منخرطًا في تفاصيله؛ وذلك لأسباب استراتيجيّة تعود إلى قناعةٍ لديه. ومَن راقب نشاطات وتصرّفات "حزب الله" الأخيرة أثناء التفاوض، العسكرية منها والظاهرة من خلال المسيّرات، أو نشاطه المتزايد على الأرض في الجنوب، لأدرك مدى اهتمام الحزب بهذا الملف.
وتشير إلى أنّ أهمّ ثمنٍ سيحصل عليه "حزب الله" كمردود لهذا الملف هو كسرُ الحصار الدولي على لبنان، وبالتالي فورة اقتصادية تعيد إلى الدولة اللبنانية القيام بدورها الأساسيّ على مستوى الأمن الاجتماعي؛ وبالتالي، يتحرّر الحزب من الأعباء المالية والاجتماعية لتأمين صمود بيئته. وهذا الموضوع كان يُشكّل عبئًا كبيرًا على "حزب الله". هذا بالإضافة إلى تراجع خطاب تحميله مسؤولية ما وصل إليه لبنان من انهيار مالي واقتصادي، وهذا مكسب سياسيّ كبير له، خصوصًا أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله قال في خطابه الأخير إنّ هذا الاتفاق يُلاقي ترحيبًا شعبيًا كبيرًا في لبنان، وبالتالي سيكون من الخطأ والمضرّ لـ"حزب الله" أن يقف ضدّ إنجازه".
حرب من جهته، إذ ينفي وجود ضغطٍ أو حصارٍ اقتصادي على لبنان، يرى أن "هناك شركات تمتنع عن الاستثمار في لبنان، والدول العربية بدورها ابتعدت عن لبنان بسبب "حزب الله"، وبالتالي هذه الدول لن تعود إلى الساحة اللبنانية بمجرّد انه تمّ ترسيم الحدود الجنوبية، علماً بأنّ عدداً من هذه الدول ليس على تناغم وتنسيق أخيراً مع الإدارة الأميركية الحالية. من هنا، أيُّ دعم ماليّ للبنان أو استثمار، سيأتي من الدول العربية، وهذا أمرٌ غير متاح حالياً".
وفيما ينبّه حرب إلى أن يكون "حزب الله" حصل على مصدر أموال بديل للمصدر الأساسي، أيّ إيران، وذلك عبر القنوات الشرعية أيّ عبر الدولة، والتي سيستخدمها برأيه لتغيير تركيبة لبنان الديموغرافية من جهة، وزيادة قوته، والضغط أكثر في جنوب لبنان من جهة أخرى"، ترى الناشطة عطا الله في المقابل، أن لا دورَ مباشراً لإيران في موضوع الترسيم، لكنّها تعتبر أنه في ما لو حصل استقرار على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية نتيجة هذه الاتفاقية، فسيشكّل هذا تراجعًا للدور الإيراني في لبنان، لأنّه لن يكون هناك داع لدعم وتمويل أنشطة "حزب الله"؛ فدورُ إيران يُقاس بقوّة "حزب الله" على الساحة اللبنانية، وكلما زاد الدعم زاد النفوذ، ومن المعروف أنّ "من يعطي هو من يأمر".
لا "سلام" قريباً
تعتقد الولايات المتحدة "الديموقراطية" في مكان ما أنّ هذه الاتفاقية ستنعكس استقرارًا على لبنان وإسرائيل لفترة طويلة، وهذا أقصى ما تطمح إليه الولايات المتحدة في ظلّ انشغالها بالحرب الروسية الآن.
فالسلام في الشرق الأوسط هدف استراتيجي للولايات المتحدة وهو ما تعمل على تحقيقه منذ عشرات السنين، وهي ترى في هذه الاتفاقية عنصرًا مشجّعًا لتحقيق هذا الهدف، إلا أنّه باعتقاد عطا الله أنّ الرهان على اتفاق سلام حالياً في غير محلّه، لأنّ الظروف التي تتحكّم بالواقع اللبناني لن تسمح بذلك أقلّه في المدى المنظور.
يمكن فهم الكثير ممّا تقدّم إذا ما قرأنا بين السطور. لكنّ الاستنتاج الأبرز والأهمّ والمؤسّف من كلّ ما تقدّم أنّ الأطراف الأساسية في المفاوضات هم أميركا وإسرائيل و"حزب الله" نتيجة موازين القوى العسكرية والسياسية، التي فرضها الحزب داخلياً وخارجياً، فلعلّ من يهادن اليوم من السياسيين أن يدرك أنّ بأيديهم يُذبح لبنان.