ليس غريبا ان تعود الأنظار السياسية والديبلوماسية الداخلية والخارجية المعنية بمواكبة الوضع في لبنان ومراقبته مع تعاقب استحقاقاته الدستورية المفصلية الى رصد دقيق لواقع مختلف القوى والتكتلات والتجمعات التي كان يُفترض ان تشكّل في مجموعها الأكثرية الجديدة المنتخبة في مجلس النواب، ثم طاشت سهام الحسابات المعقودة على هذا الرهان في الامتحان الأول. من دون استغراق في استعادة مجريات الجلسات الأُوَل التي عقدها مجلس النواب وشكلت صدمة قاسية للذين انتظروا كتلة معارضة أكثرية متماسكة، اقله عند استحقاقات تملي ترجمة الرفض لسلوكيات وسياسات السلطة بتحالفاتها كافة التي خاضت القوى المعارِضة، سيادية كانت أم تغييرية، المعارك الانتخابية ضدها وحققت نجاحاتها فيها على هذا الأساس، تمثل الآن تجربة جديدة آتية يوم الخميس المقبل في استحقاق الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف شخصية سنّية من داخل المجلس او خارجه تشكيل الحكومة الجديدة. ولم يعد خافيا في هذا السياق ان الأيام الأخيرة التي أعقبت اعلان رئاسة الجمهورية تحديد موعد الاستشارات لا تبشّر بتغيير على مستوى توحيد مواقف القوى المعارضة من تسمية الرئيس المكلف او تحديد برنامج عمل الحكومة وفق رؤية موحدة، وكذلك موضوع المشاركة في الحكومة من عدمه، وكلها مسائل عاجلة في حاجة الى بتّ وحسم قبل الخميس. والحال كما يراه كثر من المراقبين الراصدين لسلوكيات القوى السياسية المعارضة ان كرة الاختبار المقبل ستغدو أكثر فأكثر في مرمى النواب التغييريين الذين عادت الأيام الأخيرة لتظهر الكثير من عدم ثبات مواقفهم حتى في ما بينهم بدليل التخبط الذي طبع موضوع مشاركتهم كتكتل واحد او كنواب مستقلين فرادى في الاستشارات النيابية الملزمة، وبعد صدور البرنامج الرسمي للمواعيد عن قصر بعبدا متضمناً مواعيد منفصلة لكل منهم اسوة بالنواب المستقلين الآخرين، ها هم الآن يتهيأون للحضور الى بعبدا في وفد واحد ما لم يتبدل الامر مجددا في الأيام القليلة المقبلة. ولا يقف الامر عند هذه الناحية التي يصفها بعضهم بأنها شكلية وهي أبعد من الشكل، بل ان المسألة تتعلق باختبار ستتوقف عليه تبعة ومسؤولية الكتلة التغييرية، اذا تمكنت من ان تثبت نفسها ككتلة، في رسم الخيار والموقف الملائم حيال التكليف والتأليف وعدم تثبيت الخط البياني الذي من شأنه ان يقدم هدايا طوعية مجانية إضافية وجديدة الى قوى السلطة ومحور 8 آذار. ووفق انطباعات هؤلاء المراقبين التي يغلب عليها القلق والتحفظ حيال السلوكيات السياسية العملية وليس المبدئية للنواب التغييريين والتي لا جدل تقريبا حول أهمية الكثير منها، ان التعنت غير المبرر في التعامل المرن لهؤلاء النواب مع القوى المعارضة السيادية والمستقلة الأخرى، ولو كانت تقليدية، لم يعد مقنعاً لأحد بعدما شابت تحركات ومواقف عدد من التغييريين سلوكيات ازدواجية تماثل تماما سلوكيات مَن يعلنون انهم خصومهم في الطبقة السياسية، اذ ان لقاءات وفود من النواب التغييريين الى قصر بعبدا تحت أي ذريعة حتى تلك المتعلقة بإبلاغ رئيس الجمهورية الموقف من ملف ترسيم الحدود كما اللقاءات مع اركان السلطة الآخرين ومع رئيس مجلس النواب، ومن ثم الإشادة الصادمة برئيس مجلس النواب على لسان النائبة نجاة صليبا وتراجعها عنها، كل هذا لا يبقي معنى حقيقيا وجادا لتعنّت التغييريين في عدم التنسيق حيال موقف استراتيجي مع الحزب التقدمي الاشتراكي و"القوات اللبنانية" والكتائب والنواب السياديين المستقلين الآخرين بحجة لم تعد صالحة للترجمة "كلّن يعني كلّن". هذه الانطباعات التي لا يمكن النواب التغييريين تجاهل الكثير من اثرها السلبي عليهم، لا تعني في رأي المراقبين إياهم ان يتخلوا عن خصوصياتهم وكل ما جعلهم يصلون الى التمثيل النيابي، لكن ذلك يتطلب أولا محاذرة السقوط في الازدواجية على غرار ممالأة رموز في السلطة في مقابل تصلب غير مبرر في التعامل مع قوى تشاركهم أساسا الموقع نفسه لجهة مناهضة السلطة. كما ان تكرار ما حصل في جلسات انتخاب رئيس المجلس ونائبه وهيئة مكتب المجلس واللجان النيابية في الاستحقاق الحكومي من خلال التكليف والتأليف سيعني تثبيت واقع سياسي لا عودة معه الى الوراء وهو تكريس الأكثرية لمكونات السلطة وقوى 8 آذار والقضاء على كل الفرص لإقامة اطار تنسيقي للاكثرية المنتخبة اقله في الاستحقاقات ذات الطابع الدستوري المصيري من ضمن احترام تعددية القوى المعارضة وخصوصيات كل منها. ويخشى كثر في هذا السياق من ان يؤدي ذهاب القوى المعارضة مشتتة، كما يرجَّح الآن، الى استحقاق الاستشارات النيابية الخميس المقبل، الى زيادة العوامل التي تشجع العهد والقوى الحليفة له إما في فرض رئيس الحكومة الذي يريدون وتصوير الامر انتصارا سياسيا جديدا لهم على حساب الأكثرية المنتخبة وقواها كافة، وإما زيادة تعقيدات تأليف الحكومة بحيث تصحّ "النبوءات" المتكاثرة حول استمرار تصريف الاعمال ولو مع رئيس مكلف حتى نهاية العهد بحيث "يكلَّف ولا يؤلِّف. اما الجانب الآخر من تداعيات فشل التنسيق بين القوى المعارضة في الاستحقاق الحكومي فيرجح ان يكون انفصالا نهائيا بين القوى السيادية والنواب التغييريين بحيث تتجه القوى التي كانت متحالفة ضمن 14 آذار الى تشكيل اطار شبيه بتحالف قوى 14 آذار وحدها لمواجهة الاستحقاق الرئاسي المقبل بمعزل تماما عن التغييريين. وهذا الامر سيرسم خريطة مختلفة في مجلس النواب قابلة لخلط الأوراق عند مشارف الاستحقاق الرئاسي.