أتاح عام 2022 الأرضية لمؤيدي فكرة "التغيير" لقطف ثمار سنوات زرعوها بالنضال على مدى أعوام. مع عودة النشاط الشعبي في ثورة 17 تشرين، وثّقت هذه الفكرة الروابط بين قوى ما لبثت أن حلّت وثاقها عند الاستحقاق الانتخابي، إلا أن التحدّي كان أكبر من عقد وهالات الأحزاب الناشئة والمجموعات.
بلغ الإيمان في التغيير أوجه مع اقتراب الخامس عشر من أيار وهو يوم الاقتراع لمجلس نواب جديد، إيمان عبّر عن نفسه بخروقات أوصلت نواباً تخطوا الثلاثة عشر إلى القبة البرلمانية دون أي خرق يسجّل في جدار الثنائي الشيعي. هذا الثنائي المحصن بمتلازمة الرهاب والاستهداف ونظرية المؤامرة وإقصاء الطائفة، وإذا انتفى الاقتناع بما سبق تحلّ مكانه سياسة الترغيب والترهيب.
لا يمكن الرمي باللائمة على تكتل نواب التغيير وليسوا هم السبب في اختلال الثقة بهذا الخيار، فقد سبقت الانتخابات مؤشرات عدة كان أولها تراجع الزخم الشعبي والتراجع في الانتخابات النقابية والجامعية لقوى حملت لواء المعارضة للنظام القائم. إلا أن المستجد مع العمل النيابي الحالي هو خروج أصوات ممن انتخبوا "الفكرة" مشككين فيها وبخيارهم.
بدأت أصوات التذمر تتراكم مع الجلسة الأولى الخاصة بانتخاب الرئيس ونائب الرئيس وأمينيّ السر، وتصدّعت الثقة مع دعوة المراجع الدينية والسفارات للقاءات أماطت اللثام عن "تنوع" في التكتل أو بالأحرى عدم التجانس وحتى عدم الانسجام بين 13 نائباً جمعت بعضهم المنصات بادئ الأمر قبل نتائج الصناديق.
شكّلت مبادرة التكتل الجديد لانتخاب رئيس للجمهورية "دعسة ناقصة" في نظر الكثيرين، الصور التي خرجت إلى العلن مع شخصيات وقوى متهمة بالفساد ومنها المطلوبة للتحقيق في قضية إنفجار المرفأ. حملات مضادة على منصات التواصل رافقها حديث علني بين المواطنين في الشارع والصالونات عن جدوى المبادرة وعدم الالتزام بنقاطها المعلنة في مؤتمر السوديكو.
إضافة إلى الاستحقاقات السياسية، كان الناس، وفي نظرة غير عادلة نسبياً، ينتظرون من النواب الجدد أن يكونوا رأس حربة في مواجهة الأزمة الاقتصادية وأن يكونوا الصوت الشعبي المعبّر عن واقع الحال المزري والذي يزداد تفاقماً يوماً بعد يوم. دون أن نهمل الحملات المضادة والموجهة ضد نواب التغيير من قبل القنوات والحملات الإعلامية والإلكترونية والتي كانت تهدف إلى تشويههم وتشويه مفهوم التغيير ومبدأ الثورة ضد النظام القائم. ولعلّ هذا العامل الأكثر تأثيراً وخبثاً، حيث تنبري جيوش إلكترونية عند كل استحقاق لتقوم بواجبها المعادي.
يحمّل الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين المسؤولية للنظام الطائفي الذي يتداخل فيه رجل الدين مع رجل السياسة لإقفال كل أبواب التغيير. وفي حديثه لـ"لنهار"، يشير إلى أن القانون الذي جرت على أساسه الانتخابات النيابية هو قانون ضد التغيير، حيث إن القوى السياسية التي وضعته في 2017 واختبرته في العام 2018 وأعادت اعتماده، كانت تحقق به مصالحها النيابية والسياسية. ويرى أن التغيير في مكان آخر، انطلاقاً من المجتمعات الأهلية أي في الانتخابات البلدية، المدارس وهنا ينطلق تغيير من المستوى المحلي بغية الوصول إلى المستوى الوطني الأكبر.
يرتكز شمس الدين في حديثه على نسبة الاقتراع التي انخفضت الى 49.2% عام 2022 بعدما كانت 49.7% عام 2022، وهذا مؤشر عن عدم الرضا، أي أن الناخبين لم ينتخبوا السلطة ولا حاملي شعار التغيير. هذه الظاهرة تستوجب عملاً مغايراً ينطلق من تحفيز الناس على المشاركة في تغيير نظام طائفي عمره نحو 100 عام. وبرأيه أنه ليس صدفة أن ينتخب 195 ألف ناخب من أصل 3967000 أي أن قرابة المليوني لبناني فضلوا البقاء في منازلهم وتخلّوا عن دورهم في التغيير المنشود. كما يعتبر أن العدد الذي انتجته الانتخابات من نواب "تغييرين" ليس بالمعدد المطلوب، وكان من المفترض أن يصل أكثر إلى الندوة البرلمانية.
لا يمكن ربط انطلاق مسيرة التغيير في لبنان بعد صدور نتائج الانتخابات النيابية بالنسبة للنائبة حليمة القاعقور. فالنائبة والأستاذة الجامعية تشير إلى "حملات ممنهجة لإثبات بأن ما من تغيير في لبنان، ولإقناع الشعب أن لا حل سوى بالعودة إلى القوى التقليدية".
تلتزم حليمة القاعقور بخطاب تعيد تاريخه إلى أيام حراك 2015 وتقول: "ما زال خطابي هو نفسه منذ كنت بالشارع وقبل الحملة الانتخابية، أحرص على الحفاظ على مصداقيتي وكل كلمة قلتها للناخبين والناخبات حول الرؤية والمشروع والبرنامج الانتخابي لا أحيد عنها".
التغيير بالنسبة لها بدأ قبل الانتخابات وهو مسار يستوجب التحلّي بالشجاعة والصدق والنفس الطويل لتحقيق ما هو منشود وهو بحاجة لرؤى ومشروع وشروط أهمها ايمان الناس به. وتضيف: "أعتقد أن علينا اتّباع نهج يكون فيه التطبيق الفعلي مطابقاً للنظرية دون مراوغة، هذا هو نهج جديد في البرلمان اللبناني عابر للطائفية والمناطقية، أي أنه وطني بامتياز ونحن اليوم في هذا المسار".
ويعيد أستاذ دراسات الشرق الأوسط والعلاقات الدولية في الجامعة الأميركية في باريس زياد ماجد الانتكاسة النفسية لدى الرأي العام إلى جوانب عدة، وأبرزها جملة الأزمات المتراكمة وما نجم عن إنفجار مرفأ بيروت.
يظن زياد ماجد "أن هناك حالة تعب عند قسم كبير من الناس الذين اعتقدوا بضرورة التغيير وحتميته بعد الثورة التي عرفها لبنان في تشرين 2019". فبرأيه هناك أسباب عديدة بعضها مرتبط بالإنهيار الاقتصادي المروّع الذي تشهده البلاد لجهة انهيار وفقدان الليرة قيمتها، والتضخم والبطالة، يُضاف إلى ما سبق تراجع النشاط الاقتصادي وحرمان المودعين والمودعات من أموالهم في المصارف والمحجوز عليها أو التي وظفت واستخدمت من دون مسؤولية على نحو أضاع في كثير من الأحيان جنى الناس وأرزاقهم".
وانفجار المرفأ وما نجم عنه أبعد من الأضرار الجسيمة على مستوى الأرواح والماديات، وكان له أثر سيكولوجي كبير على آمال الناس وانعدام حس المسؤولية لدى الموجودين في الحكم، بمعنى إجرامي وليس فقط بمعنى سياسي أو إداري، بسبب طريقة التعامل مع نيترات الأمونيوم وما تلا الانفجار من تعطيل للتحقيق ومنع التقدم فيه وعدم رفع الحصانات عن شخصيات مسؤولة في الملف، حسب رأيه.
ويتحدث أيضاً عن الواقع النفسي الناتج عن الأزمات، والذي يدفع إلى الشعور بانعدام الأفق وصعوبة التحوّلات، ويمكن أن نضيف أن التعب الاجتماعي الذي تسبّبت به جائحة كورونا أضاف إلى الأهوال الاقتصادية وكوارث التفجير بعداً آخر، ربما ليس محسوساً بالطريقة نفسها، إنما ارتبط بالخوف من المرض والخوف على الأقارب والخوف من تراجع الخدمات الطبية والافتقار إلى الدواء".
وبحسب ماجد "بالنسبة الى جزء من الرأي العام ولا سيما لشرائح من الشباب والمهاجرين الجدد الذين غادروا البلد في الفترة الأخيرة، شكّلت الانتخابات النيابية الأخيرة محطة لإظهار أن هناك حيوية ما زالت قائمة، وأن جزءاً من الرأي العام ما زال مصرّاً على محاسبة المسؤولين، وتُرجم الأمر في صناديق الاقتراع، ما أدى إلى وصول عدد من النواب إلى القبّة البرلمانية فيما يشبه تغييراً جزئياً جداً ومحصوراً بعدد قليل، لكنه أفضل من نتيجة أي انتخابات جرت في السابق".
بهذا المعنى شكّلت الانتخابات محاولة لإظهار أن الدينامية السياسية التي خلفتها الثورة لم تنتهِ، ويتابع: "لكني أسمع من أشخاص كثر ينقلون كيفية تعاطي الرأي العام مع الشريحة النيابية الجديدة، ويشيرون إلى أن هناك بعض الخيبة أو بعض التمنيات التي لم تتحقق بعد، وأيضاً في ما يخص الأداء والتنسيق وطرح الأمور من دون أن يعني ذلك استسهالاً لصعوبة المرحلة التي تنعكس سلباً على أداء هؤلاء النواب والنائبات".
الموضوع بالنسبة لماجد معقد، وبلا شك فإن نتائج الأزمات التي نعيشها تصيب قسماً من الناس بالتعب والشعور باللاأمان واللاثقة، وهذا يصعّب من مهام التغيير وحتى التفكير به، ولكن لا ينفي أن هناك مجموعات تحاول العمل في الجامعات والنقابات والمنظمات النسوية والمدنية وعمل عدد من الصحافيين والصحافيات. لم ينتهِ ما بدأ في تشرين ولكن لم يحقق التطلعات. المسار طويل وشائك وصعب لأن القوى الموجودة في السلطة لديها شعبية في بعض الأوساط كما لديها شبكة زبائنية ضخمة وعصبيّات طائفية ومذهبية يمكن تحريكها، إضافة إلى الحماية الخارجية من أطراف إقليميين، حسب قول زياد ماجد.
من ناحيتها، تؤكد المرشحة السابقة للانتخابات النيابية الناشطة فيرينا العميل على إيمانها بالتغيير، ولكنها ترفض مبدأ جلد الذات وتفضّل الحديث بشكل موضوعي أكثر، وتوضح أنها منذ اتخاذ قرارها بخوض الغمار الانتخابي كانت وزملاؤها مقتنعين بأن الانتخابات هي خطوة إلى الأمام ولكنهم كانوا على يقين من أنهم غير قادرين في الوقت الراهن على فرض التغيير المنشود على مستوى النظام أو القوانين بصورة جذرية.
تتحدث فيرينا عن ضعضعة وتأثّر فكرة التغيير في الوجدان الشعبي، العديد من الناخبين كانوا يعوّلون بشكل رئيس على الانتخابات النيابية، أداء النواب لا ينفي جهودهم المبذولة في الندوة البرلمانية، ولكن عدم توحّدهم في الآونة الأخيرة حول مرشح رئاسي واحد جذّاب يعمل بطريقة تغييريه، أثّر سلبياً على مستوى المزاج العام. بروز الإحباط لديها يعود إلى ما قبل الاقتراع في أيار، عندما كانت تتشكّل اللوائح وغياب آليات واضحة وشفافة في اتخاذ القرارات.
تحمّل أصغر مرشحة للانتخابات المسؤولية أيضاً للأحزاب الناشئة والمجموعات، ولا تحصر مسار التغيير بالانتخابات، بل ينسحب الأمر إلى النقابات والجامعات، وتضيف: "الناس اليوم بانتظار طرح جدي لتوحيد الصفوف حول رؤية واضحة، وإلا فنحن نتصرف بلا مسؤولية في ظرف دقيق وحساس من تاريخ لبنان، يجب أن نطرح مسائل جدية كي لا تفقد الناس الأمل، وكي لا نكرر الأخطاء في انتخابات عام 2026".