ينأى قائد الجيش العماد جوزاف عون عن الدخول في الصراع الرئاسي، من دون أن يبتعد في الوقت نفسه عن جعل نفسه رقماً مهماً في المعادلة التي يمكن أن تعبّد الطريق بين اليرزة وبعبدا.
منذ بداية المعركة الرئاسية، طُرح اسم قائد الجيش كمرشح ثابت إلى رئاسة الجمهورية بفعل العادات المتكرّرة، التي تكاد تحوّل مسألة الوصول إلى قيادة الجيش عُرفاً للانتقال من بعدها إلى قصر بعبدا.
خلافاً لحالة الرئيس السابق ميشال عون، حمل العديد من قادة الجيش لقب "رئيس الجمهورية"، بفعل ظروف أمنية كان يشهدها لبنان أو بفعل تسويات ترى أنه الأنسب للحفاظ على التوازنات بين الأطراف. وهو الوضع نفسه الذي يحكم المرحلة الحالية، بفعل التوازن السلبي تحديداً بين المعارضة والممانعة.
عدّة أسماء تُطرح على حلبة السابق إلى الرئاسة، منهم من يسقط من الغربال، ومنهم من يبقى. والجنرال جوزاف عون واحد من الأسماء الثوابت، التي بقيت مطروحة في اللقاءات الداخلية والدولية والعربية، بالرغم من صعوبة وصوله دستورياً إلى القصر الرئاسي.
كل هذه المعطيات يقرأها "القائد" جيداً، وهو منذ تبوّئه سُلّم القيادة في اليرزة، مروراً بانتفاضة 17 تشرين إلى اليوم، يوجّه الرسائل بعدة اتجاهات. أولاً، للتأكيد أن الجيش الذي يأتمر بقرارات السلطة السياسية يتصرّف وفق قواعد محدّدة، وليس على "العمياني"، أو وفق أجندات شخصية أو فئوية، وهو قادر بالرغم من الظروف يسير بين النقاط لتجنّب الأسوأ، إذا شعر بأن في القرار منفعة حزبيّة أو فئوية أو سوءاً.
ثانياً، أثبت جوزاف عون أنه في القيادة لا وصيّ يفرض عليه مقرّرات أو استثناءات، بل شكّل هو الاستثناء في القيادة، ليرفض كلّ ما هو غير سويّ وغير مجدٍ لحقوق العسكر والمؤسّسة، إدارياً وأمنياً، وعلى صعيد دور الجيش داخلياً.
وثالثاً والأهم، أبرز قدرة على القول "لا" للسياسيين الذين يتفننون بمصادرة الدولة وتسخير المؤسّسات لرغباتهم ومصالحهم. ووازن بين المعسكرين الشرقي والغربي "ديبلوماسياً"، فكان بابه مفتوحاً للسفيرة الأميركية دوروثي شيا كما لمسؤول وحدة التنسيق والارتباط في "حزب الله" وفيق صفا، مع التأكيد على أن المساعدات على أنواعها التي تصل إلى الجيش اللبناني تأتي من الإدارة الأميركية والغرب وحده.
في 12 أيار الفائت، جال جوزاف عون على الحدود الشمالية، مفتتحاً طرقات برج الدبابية وسيدة القلعة وخربة الرمان وبرج شدرا وحنيدر وكفرنون التي تربط المراكز العسكريّة الحدودية التابعة لفوج الحدود البرية الأول في ما بينها، وتسهّل وصول المواطنين إلى أراضيهم.
كانت الزيارة بمثابة برنامج وخريطة طريق يُمكن أن يتلقّفها كلّ من يريد أن يتعرّف على أفكار قائد الجيش وبرنامجه الرئاسي، إذا ما وصل إلى قصر بعبدا.
هو أكّد بما لا يقبل الشكّ أن الحدود المتفلّتة أمر غير سياديّ، ويساهم بسقوط أيّ دولة، فكيف بالأحرى الدولة اللبنانية؛ فـ"الدولة التي لا تضبط حدودها بالنسبة إليه تصبح عرضة لكلّ أنواع التعديات، يجتازها الإرهابيون ومهرّبو الأسلحة والمخدِّرات بسهولة، ولو استمر الأمر على هذه الحالة لما بقي لبنان".
من هنا، رسالة طمأنة إلى أن ملف ضبط الحدود، الذي يحمله وهو قائدٌ للجيش، سيكون من أولويات أيّ مشروع رئاسيّ قي حال وصوله إلى سدّة الرئاسة. فـ"حدودنا أرضنا وعرضنا".
من الاقتصاد والمال إلى الأمن
اقتصادياً ومالياً، معلوم أن قائد الجيش استطاع حماية المؤسسة عنصراً وكياناً من الانهيار، والتشرذم، والإحباط، ولو أنها شهدت في بادئ الأمر رحيل أعداد لا بأس بها من العسكر، فيما فُتح باب التطوّع لآخرين.
و"بسبب الأوضاع الاقتصادية القاهرة، تركّز اهتمام القيادة على صعيدَين: أولاً تأمين المواد الغذائية والمستلزمات الطبية والمحروقات للحفاظ على القدرات العملانية، وثانياً دعم العسكريين ومساعدتهم على تخطّي التحدّيات المعيشية".
وهو تأكيد على أن القيادة مدركة للوضع الاقتصادي القاهر الذي يمرّ به العسكريون بعدما عاشوا الصعوبات القصوى خلال السنوات الثلاث الماضية، بدءا من انتفاضة 17 تشرين، وما تلاها من تدهور ماليّ واجتماعيّ ومؤسساتيّ؛ وبالتالي، كانت على يقين بأنّ محاولة النأي قدر الإمكان عن الآفات الاجتماعية والمخاطر المالية يمكن أن يحافظ على استمرار دور الجيش في مهماته الأساسية، "حماية الوطن والحفاظ على الاستقرار الأمني ومنع أي حرب أهلية. إذ لا يمكن التفريط بالأمن باعتباره ضروريّاً لبقاء الوطن ونهوض الاقتصاد، فإذا ضاع الوطن فُقِد إلى الأبد".
وذهب قائد الجيش بعيداً إلى جعل مسألة الأمن مهمة "مقدسة وضرورية وتساهم في حماية لبنان واللبنانيين".
التمايز عن السلطة السياسية
جعل قائد الجيش نفسه تحت إمرة السلطة السياسية ومتمايزاً عنها في الوقت نفسه، ففي لقاء شدرا يقول مخاطباً العناصر: "الجيش يتصرف وفق ما يمليه القسَم والواجب حصراً من دون اعتبارات حزبية ولا دينية ولا مذهبية. وينفّذ قرارات السلطة السياسية وفقاً للمعايير الدولية الراعية لحقوق الإنسان، ونحن نحترمها إلى أقصى الحدود، بما يحفظ المصلحة الوطنية العليا التي تبقى بالنسبة إلينا أولوية مطلقة. حقوق الإنسان وُجدت لتحفظ كرامته لا لتدمّر حقوقه ووطنه، ولا أحد يزايد علينا في هذا الموضوع".
كانت مشاهد 17 تشرين وما وقع بعدها من أحداث، خصوصاً في الطيونة، كافية لتؤكّد أنه لا يخضع لاعتبارات هذا الحزب أو ذاك. ومعلوم الكمّ من الضغوط التي تلقتها قيادة الجيش من أجل الصعود إلى معراب وجلب رأس سمير جعجع، فلم تُرِد القيادة الخضوع إلا للقانون، بعدما كُشفت كل المؤامرات التي حاول البعض حياكتها لإلباس "القوات اللبنانية" تداعيات أحداث الطيونة.
واللافت في كلام قائد الجيش هنا أنه ينفّذ قرارات السلطة السياسية وفقاً لمعايير محدّدة، هي "المعايير الدولية الراعية لحقوق الإنسان، والمصلحة الوطنية العليا".
فاختصر الحكاية كلّها بمجموعة عناصر هي: الحفاظ على هيبة المؤسسات السياسية، مع عدم التفريط بحقوق الإنسان وحقوق الشعب اللبناني، والاستناد إلى المعايير الدولية، في رسالة مبطنة إلى الشرعيتين العربية والدولية.
مسيرة مستمرة
يحاول قائد الجيش، بحسب كثيرين، أن يطمئن الأطراف السياسية، وكلّ من يراهن على شخصه كضرورة لمرحلة يجتازها الوطن، إلى أن ما يحمله من مسؤولية وثوابت في اليرزة لن يتوانى عن التقيّد به في بعيدا، ليبقى ملف سلاح "حزب الله" ملفاً شائكاً بالنسبة إلى اجميع المرشحين، لأنّ وجوده من عدمه يتخطى الحدود اللبنانية جغرافياً وسياسياً وقراراً. وبالتالي، يمكن لمن يملك الخبرة العسكرية والأمنية أن يسير في هذه المرحلة بين النقاط، وأن يكون فوق كلّ الاعتبارات والتجاذبات، وأن يكون سيادياً وإصلاحياً ويخدم المصلحة الوطنية بفعل قوة إرادته وقراره، مع محاولة النأي بسلبية السلاح، ووضعه على سكّة الحلّ ربما.