فشل المجتمع الدولي بالإيفاء بالتزاماته تجاه النازحين السوريين والدول المُضيفة لهم، ولم يستطع إقرار سوى 9,6 مليارات دولار لمساعدة السوريين في بلادهم ودول النزوح، علماً بأن الاحتياجات الفعلية تفوق المبالغ المرصودة، إذ تبلغ حاجة لبنان وحده نحو 5 مليارات دولار سنوياً، وفق ما نقل وزير الخارجية عبدالله بوحبيب عن البنك الدولي؛ وهو رقم معلن على سبيل المثال لا الحصر.
توطين "مبطّن"
فشل التمويل ترافق مع تصريحات أوروبية مفادها رفض عودة النازحين إلى سوريا بسبب غياب الحل السياسيّ، ممّا استدعى استنفاراً سياسيّاً في لبنان على اعتبار أن المجتمع الدولي يسعى بطريقة مبطّنة من خلال تقديماته للنازحين، ورفضه عودتهم إلى سوريا، إلى ما يُشبه "التوطين". وقد تمّ استذكار التجربة الفلسطينية في لبنان في هذا الإطار، والتي أدّت إلى بقاء الفلسطينيين رهن حلّ سياسيّ غير مرتسم في الأفق.
استمرار الوجود السوري في الدول المستضيفة، وتأمين المال له، لا يؤدّيان سوى إلى ترسيخ هذا الوجود، لأنّه توفير جزئيّ لمقوّمات العيش المفقودة في سوريا، وهذا ما يُثير القلق، في حين أن المجتمع الدولي، خصوصاً الغربي، لم يتحمّل مسؤوليّاته في هذا السياق، ولم يوفّر المال المطلوب، ثمّ لم يستقبل إلّا أعداداً قليلة من النازحين، علماً بأنّه يتحمّل مسؤوليّة سياسيّة وإنسانيّة في الأزمة السوريّة.
ويربط المجتمع الدولي عودة النازحين إلى سوريا بالسياسة ليتحدّث عن غياب الانتقال السياسيّ. لكنّه انطلاقاً من اعتبارات سياسية، يُمكن للأسرة الدولية حلّ الأزمة جزئياً عبر قرار يقضي بالعودة الطوعيّة إلى بعض المناطق الآمنة التي يُمكن إخضاعها لمراقبة المنظّمات الأمميّة لتفادي الانتهاكات من جهة، وللتشديد على عودة مَن تسقط عنه صفة "النزوح" من جهة أخرى، أي أولئك الذين لا يعانون مشكلات أمنيّة مع النظام السوري، على أن تتمّ حماية اللاجئين السياسيين للتخفيف من ضغط النزوح على لبنان وتبعاته السياسية والاقتصادية والديموغرافيّة.
حجّار يشرح تفاصيل المبالغ المرصودة
وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور جحّار الذي شارك في مؤتمر بروكسل يوضح لـ"النهار" تفاصيل المبالغ التي تمّ رصدها لأزمة النزوح، ويُشير إلى أن "حاجة لبنان السنوية الفعلية تبلغ 5 مليارات دولار، فيما المجتمع الدوليّ لم يؤمّن سوى 5,6 مليارات دولار من الهبات، و4 مليارات دولار من القروض مسهّلة الدفع، وهو ما مجموعه 9,6 مليارات لخمس دول، هي: سوريا، لبنان، تركيا، الأردن ومصر".
وإذ يلفت حجّار إلى تواضع المبالغ المرصودة، يحذّر أيضاً من غياب الالتزام الفعليّ بتأمين هذه الأموال، ويُذكّر بتجارب سابقة لم يتمكّن فيها المجتمع الدولي من الإيفاء بالتزاماته وتأمين كافة المبالغ المرصودة. ففي العام الماضي تم تأمين 6 في المئة فقط، وفي العام الذي سبقه 22 في المئة، وبالتالي ثمّة فرق وتناقض بين المبالغ المرصودة وتلك المؤمّنة، وفق حجّار.
لكن وزير الشؤون الاجتماعية يؤكّد أن الأزمة "لا تكمن في حجم المبالغ فحسب، بل في مقاربة مشكلة النزوح ورفض المجتمع الدولي عودتهم إلى سوريا"، ويقول إن "أكثر من 30 في المئة من سكّان لبنان نازحون سوريون، والكثافة السكانية في لبنان تبلغ 650 شخصاً في الكيلومتر المربّع، وهي الأعلى عالمياً، وبالتالي فإن بقاء النازحين السوريين "جريمة" بحق البلاد".
دورات مشبوهة في المخيّمات!
يكشف حجّار في هذا الإطار عن معلومات خطيرة ويربطها بدمج النازحين السوريين في المجتمع اللبناني بشكل "مقنّع"، فيُشير إلى دورات يتمّ تنظيمها في مخيّمات النزوح حول توعية قانونيّة لحفظ حقوق الملكيّة على سبيل المثال، وأخرى مرتبطة بالعمل والدمج المجتمعيّ وغيرها، بالإضافة إلى عروض تأمين الإقامات، وذلك بهدف دمج النازحين في لبنان.
وإذ يقول إن "المجتمع الدولي لا يُعلن عن مشاريع للدمج"، يسأل حجّار هذا المجتمع عن "سبب عدم إرجاع السوريين إلى بلادهم وتقديم المساعدات لهم هناك ما دام مؤتمر بروكسل قادراً على تأمين المبالغ إلى العمق السوري"، ويدعو أوروبا إلى استضافة النازحين على أراضيها ما دامت تعتبرهم "يداً عاملة تحيي الاقتصاد"، خصوصاً أن المجتمع الأوروبي "كهل ويحتاج إلى الشباب".
ويلفت حجّار إلى أن ثمّة أزمات يعاني منها لبنان جرّاء تداعيات النزوح السوري، منها اقتصادية - ماليّة وأخرى أمنيّة، بالإضافة إلى البيئيّة والاجتماعيّة. ثم يخصّص في قوله، ويؤكّد أن "تبعات النازحين الاجتماعيّة يُمكن تلخيصها بمجموعة ظواهر، منها الأمّية، زواج القاصرات، ارتفاع نسب الولادات، العنف الأسريّ وغيرها، والأموال لا تُعالج هذه المشكلات".
أما عن الإجراءات التي سيتّخذها لبنان في ضوء مقرّرات مؤتمر بروكسل وغياب نيّة إعادة النازحين إلى سوريا، يقول حجّار إن "الغد لناظره قريب"، وثمّة خطوات عمليّة سنقوم بها في إطار خريطة الطريق التي أصدرها مجلس الوزراء، وتقوم على خطوات ثنائيّة مع سوريا، وحوار مباشر ولجنة لمتابعة الملف. وفي هذا السياق، كان ثمّة مواقف مشابهة لوزراء من دول عربية أخرى في بروكسل.
خلل ديموغرافي في لبنان وسوريا
الكاتب والمحلل السياسي توفيق الهندي ينبّه إلى سياسات المجتمع الدولي لجهة رفض عودة النازحين، ويُشير إلى أن بقاء السوريين في لبنان يحمل في طيّاته تداعيات خطيرة جداً، منها ما هو بعيد الأمد، أبرزها التغيير الديموغرافي، لأن النازحين يُشكّلون ثلث سكّان لبنان تقريباً، وأغلبيّتهم من الطائفة السنّية، ممّا سيؤدّي إلى خلل لصالح السنّة على حساب الشيعة والمسيحيّين.
وفي حديث لـ"النهار"، يلفت الهندي إلى أن خطط المجتمع الدولي لا تتوقف فقط على لبنان، بل على المنطقة وسوريا ضمناً. وفي حين تمّ تهجير السنّة من سوريا إلى دول أخرى منها لبنان، تمّ توطين أعداد من الشيعة في مدن سورية، ممّا يعني أن التغيير الديموغرافيّ يحصل في المنطقة بشكل عام، وليس في لبنان فحسب.
وينتقد الهندي المجتمع الدولي وسياساته، ويقول إن "أوروبا والولايات المتحدة يفرضان على لبنان ما لا يقبلانه. فالقارة العجوز رفضت استقبال النازحين السوريين، وهي بالكاد تتحمّل وزر النزوح الأوكراني بسبب الحرب مع روسيا، فكيف لها أن تفرض على لبنان بقاء السوريين؟ فليستقبلوا النازحين في دولهم في حال كانوا حريصين عليهم وعلى حقوق الإنسان!".
أما عن أسباب هذه السياسات الغربية، فيردّ الهندي الأمور إلى أولويات المجتمع الدولي والولايات المتحدة بشكل خاص، ويُشير إلى أن "أولوية الغرب اليوم تكمن في كسر روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين، ومواجهة الصين وصعودها، وبالتالي فإن منطقة الشرق الأوسط في أسفل الأولويات، وهم يتّخذون هذه الخطوات لأنّهم لا يهتمّون لما يحصل في لبنان وسوريا وغيرها، ويؤجّلون المعالجات".
ويُشدّد على وجوب مواجهة محاولات توطين النازحين السوريين بوساطة السياسة لا العسكر، ويُذكّر بالعمل السياسي الذي خيض ضد الوصاية السورية، والذي أثمر بعد سنوات انسحاباً؛ وانطلاقاً من ذلك يدعو إلى مواجهة القرارات الدولية.
في المحصّلة، فإن سياسات المجتمع الدولي ظالمة للسوريين والدول المضيفة على حدٍّ سواء، لأنها لا تؤمّن مقوّمات الحياة من جهة، في الوقت الذي ترسّخ فيه دعائم النزوح، وذلك لأنّ أزمات شعوب الشرق الأوسط ليست في هرم أولويات الغرب، بالرغم من أن لهذه السياسات تداعيات قد تكون دمويّة.