لا يختلف اثنان على أن مكافحة الفساد في أيّ نظام هي من أكثر الأمور صعوبة في ظلّ عالمنا الحالي الذي يشهد انقسامات واختلافات عدّة، غالباً ما تنتهي بنزاعات طويلة الأمد أو خصومات جيوسياسيّة تنعكس آثارها سلباً على الشعب وتُعيق تطورها، كما يحصل في بعض الدول الأفريقيّة مثلاً.
في لبنان، تختلف الأوضاع قليلاً، إذ لا النظام القضائي ولا حتّى السياسيّ يساعدان في الكشف عن الفساد أو مكافحة الفاسدين، وبصراحة من غير المسموح في بعض المؤسّسات التفكير أساساً بهذه "الأمور التحريضيّة"، كما يراها البعض، حفاظاً على ماء وجه الزعيم أو المرجعية المؤسّساتيّة.
تشريعياً، أقرّ قانون إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في أيار 2020، حيث تمّ تعيين الهيئة بأعضائها الستة في شهر كانون الثاني 2022.
ما دور هيئة مكافحة الفساد تحديداً؟
قد يبدو مصطلح مكافحة الفساد فضفاضاً بالنسبة للبعض، حتّى أنّه ليس بقديم إذا أن معظم الشعب لم يكن على دارية كافية به قبل ثورة 17 تشرين الأول، التي حملت شعارات عدّة بطليعتها مكافحة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة تحت شعار "من أين لكَ هذا"؟.
فعلياً، يُتوقع من الهيئة أن "تلعب دوراً محورياً في مكافحة الفساد في لبنان، وقد نص القانون عليها كمؤسّسة رسمية مستقلة إلى أقصى الحدود الممكنة سياسياً، إدارياً، ومالياً عن السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، في حين يتألف مجلسها من ستة أعضاء يتم ترشيحهم أو إنتخابهم من قبل عدة جهات مستقلة ورسمية، ويتم تعيينهم من قبل مجلس الوزراء لمدة ست سنوات غير قابلة للتجديد، ولا يمكن لأحد إقالتهم خلال ولايتهم إلّا بشروط ضيّقة نصّ عليها القانون. كما تمتلك الهيئة جهازاً إدارياً متفرغاً لمساعدتها على القيام بواجباتها"، وفقاً للمدير التنفيذي في جمعية "لا فساد" جوليان كورسون.
بالعودة إلى الصلاحيات القانونية المعطاة للهيئة، فهي تتمتع بصلاحيات واسعة على صعيد تلقّي الإخبارات والكشوفات عن الفساد وتحمي سريتها، وتحمي الكاشفين عن الفساد وتقرّر مكافأتهم مالياً، والتقصّي عن جرائم الفساد، مهما كانت أهمية مواقع المعنيين بها في الدولة، وطلب رفع السرية المصرفية، وإحالة هذه الملفات إلى القضاء وغيرها من الجهات المختصة، ومتابعة التحقيقات معه، إضافة إلى ذلك أنّها تتلقّى تصريحات السياسيين وسائر الموظفين العموميين عن ثروتهم ومداخيلهم ومصالحهم، وتراقب هذه التصاريح ولها تبعًا لرقابتها أن تبادر في الادعاء بجريمة الإثراء غير المشروع، كما تساعد الناس والإدارات على حسن تطبيق قانون الحق في الوصول إلى المعلومات وتفصل في الخلافات بشأنه.
لا يمرّ يوم علينا من دون الحديث عن مكافحة الفساد وإيقاف الهدر، إذ أصبحت هذه المطالب بمثابة وجبة يومية يتناولها المواطن من دون إدراك أبعادها أو أهميتها. فمن العجز الكبير في موازنة العام ٢٠٢١ والفساد المتحكم بالوزارات والإدارات الرسمية وصولاً إلى الصفقات المشبوهة في القطاع الخاص، تضيع حقوق المواطن وأمواله والحلّ الوحيد اليوم يكمن في تصويب آراء الشعب ليعي أهمية دوره في كشف الحقيقة مع تقديم الضمانات اللازمة له لجهة الحماية والمكافأة إذا اضطر الأمر تقديراً لتجاوبه.
يشرح كورسون خلال ورشة عمل تدريبيّة امتدت على فترة أسبوعين، نظمتها الجمعية بالشراكة مع "أريج" أن "هذه الخطوات بدأت بإقرار قانون حق الوصول إلى المعلومات في شباط 2017، وقانون حماية كاشفي الفساد في أيلول من العام 2018. لكن بالرغم من إقرار هذين القانونين، لا يزال تطبيقهما مرتبطاً بإستقلالية القضاء بالدرجة الأولى بإعتباره القاعدة الأساسية التي يُبنى عليها كلّ شيء".
كما يؤكّد كورسون في حديثه أمام عدد من الإعلاميين والإعلاميات أهمية مبادرة 3RF أن إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار هو جزء من استجابة شاملة للانفجار الهائل الذي وقع في مرفأ بيروت، وعلى عكس باقي المشاريع التي أُطلقت لناحية تركيزه على المواطن بشكل أساسي، إذ يهدف إلى مساعدة لبنان على تحقيق ثلاثة أهداف محورية في إطار التعاطي مع تداعيات كارثة الرابع من آب، وهي كالتالي:
-تحقيق تعافٍ محوره المواطن يعيد سبل العيش المستدامة للسكان المتضررين.
-تعزيز العدالة الاجتماعية للجميع بمن فيهم النساء والفقراء وغيرهم من الفئات الأكثر احتياجاً.
-يضمن المشاركة في صنع القرار.
ناهيك عن كل ما ذُكر، فالمشروع يرتكز بأساسه على إعادة بناء الأصول والخدمات والبنى التحتية الحيوية التي تتيح للجميع إمكانية متساوية للحصول على الخدمات الأساسية وتهيئة الظروف الملائمة للتعافي الاقتصادي المستدام، كما تنفيذ الإصلاح لدعم إعادة الإعمار والمساعدة على استعادة ثقة المواطن في المؤسّسات الحكومية من خلال تحسين أنظمة الحوكمة.
وبما أن هذا المشروع يحقّق الفائدة للقسم الأكبر من الشعب كان لا بد من إشراك المجتمع المدني به إلى جانب مؤسّسات دولية والبنك الدولي وذلك لضمان استثمار الأموال في المكان الصحيح. انطلاقاً من هنا، نظمّت "لا فساد" مؤتمراً لتسليط الضوء عليه وسط جلسات حوارية متتالية مع اختصاصيين في مختلف المجالات لا سيما الاقتصادية والصناعية.
يرى كورسون أن ملف عدم تنفيذ القوانين الإصلاحية في لبنان يمكن معالجته من زاوية ضغط المجتمع المدني على الحكومات المتعاقبة لحثّها على تنفيذ هذه القوانين، ومساعدة اللجان النيابية تقنياً على إعداد قوانين إصلاحية جديدة.
وإذ يلفت إلى أن الحلقة المفقودة تكمن في ضعف الدورين التشريعي والرقابي لمجلس النواب، في حين العبرة تبقى في تحرّك الوزراء أو المسؤولين للضغط في بعض الملفات لا سيّما المصيرية منها، على أمل أن نشهد تغييراً ملموساً بعيداً عن الخطابات الشعبوية التي لم تعد تشبع بطون الجياع وتفاقم الأزمة سوءاً.