النهار

العرب... وكهنة إيران
الشرطة الإيرانية (أ ف ب).
A+   A-
 
تباهى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، آية الله علي خامئني، خلال لقائه مع رئيس الوزراء العراقي الجديد، سوداني، بأن البلدان التي "دعمتها" إيران، العراق، سوريا، لبنان واليمن وغزة، هي أكثر الدول العربية تقدّماً ورخاءً!
 
ذكّرني كلامه بما سمعته وأسمعه من أصدقاء لي في هذه البلدان، وما أتابعه عبر وسائل الإعلام عن أحوالها. كما ذكّرني بحال إيران نفسها، مقارنة بما كانت عليه أيام الشاه قبل ثلاثة وأربعين عاماً، وما يرويه المطوفون وأهالي مكة والمدينة عن أحوال ضيوف الرحمن منهم، اليوم والأمس. واللوحة التي ارتسمت بذهني سريالية، لا ترتبط بالواقع، ولا بالمنطق بصلة.
 
شاهد من أهلها
تذكرت تلك الجلسة التي حضرتها في مؤتمر أوروبي، صيف عام 2017، وكانت عن أمن الخليج، تكلم فيها عدد من المشاركين الإيرانيين، مؤكدين فضلهم على العراق، والبلدان العربية الأخرى، ودعمهم المادي والعسكري والديني للحكومة والشعب.
 
حضر الجلسة فقيه عراقي، من آل البيت، ولكنه التزم الصمت والحياد في نقاشي معهم. وبعد الجلسة، دعوته الى كوب قهوة، وسألته عن رأيه في ما دار. أجاب أنه من غيظه سكت، وروى لي قصصاً مؤلمة عن حال بلاده، وأحوال أهلها، وعمليات الطمس الممنهجة للهويّة العربية. دعوته للمشاركة في جلسة حوارية مساء ذات اليوم حول موضوع ذي صلة، وأن يسهم معي في نقل الصورة الحقيقية ولا يترك للوفد الإيراني فرصة لتشويهها أمام الأجانب.
 
الشوط الثاني!
وفي الجلسة الثانية حرصت على أن أفتح له باباً للمداخلة، فطرحت المسألة مرة أخرى، وأجابني عضو إيراني بنفس الأسلوب. وهنا انفجر السيد الموسوي وردّ: أيّ خدمات قدمتوها لنا، وقد سرقتم نفطنا، وماءنا، وميزانياتنا؟ أيّ أمن وأستقرار حققتموه وقد دمرتم عن طريق وكلائكم وميليشياتكم بلداً صمد أمامكم ثماني سنوات، ولا يستطيع اليوم أن يقف أمام منظمات إرهابية تعدادها بالمئات، فيستعين بجيوش العالم لإنقاذه؟ أيّ رخاء ونماء ونحن لا نجد الخدمات الأساسية التي كانت متوفرة في عز الحصار الدولي، وتحت القصف، من ماء وطعام وكهرباء ومدارس ومواصلات؟ أيّ سيادة واستقلال بقي لنا وعسكركم وسفراؤكم وملاليكم يعيثون في الأرض فساداً، ينشئون الأحزاب، ويزوّرون الانتخابات، ويثيرون الفرقة بين طوائف المجتمع، وملايين الزوار يدخلون بلادنا بلا تأشيرات، ولا يدفعون حتى مصاريفهم، فيشحذونها من فقراء الشيعة؟
 
القصف العراقي
حاول الأستاذ الجامعي الإيراني اللجوء الى التهدئة، وهو يردّد يا سيدنا، يا مولانا، حلمك علينا. اسمح لي بالتوضيح! ولكن العراقي لم يتوقف، وكأنما هو بركان وانفجر، وتحدث عن اضطهاد المواطن، وفساد الحكومة، وهيمنة الفرس على كل مفاصلها، وطمس الهوية العربية.
 
وقف مدير الندوة الأستاذ الأميركي بجامعة كاليفورنيا مندهشاً، وحائراً. لم يمنع الإيراني عن مقاطعته، ولم يوقف سيل الحمم العراقية. ورأيت على وجوه الحضور المفاجأة والصدمة، لأنها أول مرة يتصدّى فيها أيّ مشارك من الدول العربية، ما عدا السعودية، للادعاءات الإيرانية، وخاصة أن الرد هذه المرة أتى من بلد تحت الهيمنة الإيرانية، ويفترض أنهم أكثر المشاركين تحفظاً وحرصاً على عدم استفزاز الوفد الإيراني "الحكومي"!
 
المعارضة رغم القمع
ومن سوريا ولبنان واليمن وفلسطين، التقيت بعدد من الإخوة في نفس المؤتمر ومؤتمرات أخرى آخرها في أبو ظبي ولبنان. سمعت الكثير عن العنهجية الإيرانية والغلوّ والقسوة في فرض أجندتها واستخلاص مصالحها بدون مراعاة للمزاج العام، أو تهيّب من ردة فعل. فالأصوات الحرة التي رفعت عقيرتها بالاعتراض تم تحييدها وقمعها إما بالاغتيال أو السجن أو الاعتداء الجسدي.
 
ومع ذلك بقيت أصوات في الداخل تقاوم، وأكثر منها في المهجر. ووجدوا في قناة "إيران انترناشونال" التي تبث بالفارسية من لندن، ولها مكاتب في باريس وإسطنبول وكابول وواشنطن، منصة ذات مصداقية عالية لتوثيق القمع والجرائم العابرة للحدود، كغسل الأموال، وتهريب المخدرات والبشر والمعادن الثمينة، والعلاقات المشبوهة مع المنظمات الإرهابية كداعش والقاعدة، والمكشوفة مع الميليشيات الإيرانية في المنطقة العربية، كـ"حزب الله"، وأنصار الله، والحشد الشعبي.
 
مؤامرة داعش
ولعل من أبرز ما سمعت قصة رواها قيادي في شركة نفطية عراقية عن الأوامر التي تلقوها بعدم اعتراض قوات داعش عند دخولها الموصل، وترك آبار النفط لهم. وعندما راجع حكومة نوري المالكي في بغداد بشأن بقية المناطق في جنوب البلاد، طلبوا منه مراجعة السفارة الإيرانية.
 
وهناك التقى برجل لم يعرفه من قبل، أكد له بثقة أن داعش لن يجتاز منطقة صلاح الدين، شمالي بغداد. وعندما خرج سأل مدير مكتبهم في العاصمة عن شخصية هذا الرجل الذي يلتف حوله أركان السفارة، استغرب الزميل كيف لم يتعرف إلى الحاكم الحقيقي للعراق، الحاج قاسم سليماني! كما لاحظ أن عدداً من القيادات في وزارة النفط والداخلية والدفاع محاطة بحراسات إيرانية، ومنهم مستشارون يحضرون الاجتماعات الرسمية.
 
حرس العملاء العرب
وفي زيارة لليمن، سمعت من شخصية قريبة من المبعوث الأممي السابق لليمن، جمال بن عمر، أنه فوجئ بعد زيارته الأولى لقائد أنصار الله، عبد الملك الحوثي، لتدارس مبادرة السلم والشراكة مع الحكومة اليمنية، بعد استيلاء الجماعة على صنعاء، بوجود عدد من المستشارين الإيرانيين معه. وكان كلما طلب من الحوثي قراراً عاد إليهم، أو أرسل فاكساً الى السفارة الإيرانية في عمان، وانتظر الردّ.
 
ومن سوريا، روى لي رجل أعمال سوري كيف أن قيادة حرس الرئيس السوري بشار الأسد وكبار المسؤولين تتألف من ضباط الحرس الثوري، وأن نقاط التفتيش في المواقع الحكومية الرئيسية تحت قيادتهم.
 
التجنيس والتسكين
ونقل أن شركات ومستثمرين إيرانيين اشتروا "بتراب الفلوس" مناطق عريقة في دمشق، مثل سوق الحميدية، بعد حرائق لم تُعرف أسبابها، وأنه تم تهجير السكان في عدد من البلدات والأرياف وتمليك بيوتهم ومزارعهم لإيرانيين وعراقيين من الطائفة الشيعية بعد تجنيسهم. وهو ما تم أيضاً في العراق ولبنان، أما اليمن، فيبدو أن لا أحد يريد مجاورة الميليشيا الحوثية التي يتعاملون مع قياداتها وأتباعها بكل فوقية واستعلاء، وينعتونهم بـ"أقزام الشيعة، وشيعة الشوارع".
 
وتأكيداً لمسألة التجنيس والتسكين، سمعت من مواطن عراقي مقيم في الخليج أنه راجع بغداد لتجديد مستمسكاته الرسمية حسب نظام الجنسية الجديد، فاكتشف أن رقم قيده الوطني قد مُنح لمواطن آخر، اتضح بعد البحث أنه إيراني. ولحسن الحظ، فقد اكتُشف الشخص المسؤول، وأودع السجن، ولكن بعدما زوّر عدداً كبيراً من الوثائق، مستغلاً هجرة أصحابها واستقرارهم خارج العراق.
 
الفساد والسرقات
أما قضايا الفساد المالي وسرقة النفط العراقي، فأحيل السيد المرشد الأعلى الى تصريحات فائزة رفسنجاني، ابنة الرئيس السابق، وغيرها من الشخصيات الإيرانية في الداخل والخارج، من بينهم شقيقته بدرية، وابنتها فريدة، وهم شهود على ما جرى من استنزاف حقول النفط وتحويل الأنهار، وتمكين الفاسدين، وسرقة التراث والذهب وأطنان الدولارات من المتاحف والبنوك.
 
وفي لبنان، لا تزال قضايا الفساد المليارية من البنوك تحت التحقيق، ولا تزال التحقيقات القضائية في تفجير مرفأ بيروت الذي يديره "حزب الله" متوقفة بسبب رفض الحزب تسليم المطلوبين للتحقيق، فضلاً عن تسليمهم للعدالة.
 
الحقائق والأكاذيب
أعود الى تباهي السيد المرشد الأعلى بما قدّمته إيران للبلدان تحت سيطرتها حتى أصبحت أكثر الدول العربية تقدّماً وتنمية ورخاءً، وأطلب من القارئ الكريم أن يقارن، لا بين حال هذه البلدان وحال البلدان العربية المجاورة، كدول الخليج والأردن، ولكن على الأقل بين ما كانت عليه هذه الدول قبل "الاحتلال" الصفوي وبعده. كيف كانت بغداد ودمشق وبيروت وغزة وصنعاء في القرن الماضي، وكيف أصبحت في العشرين سنة الماضية من حكم الملالي. وكنقطة مرجعية، لنقارن بين حال إيران عام 1979 وحالها اليوم اقتصادياً، وتنموياً، وتعليمياً، ومعيشياً، واجتماعياً، ومكانة دولية.
 
الحقائق والأرقام تستعصي على التلفيق. لكن الطغاة والكهنة يكذبون... ويكذبون... ويكذبون، حتى يصدّقوا أكاذيبهم، ويعتقدون أن العالم يصدقهم، بلا حاجة لأي إثبات وتوثيق.
 
‏@kbatarfi
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium