يبيت ملحم خلف ونجاة صليبا ليلتهما الثالثة، معتصمين في قاعة المجلس من دون كهرباء أو تدفئة، في هذا الطقس الشتويّ البارد. لم يبقَيا وحيدين، فما إن أعلنا اعتصامهما المفتوح داخل المجلس، إلى حين انتخاب رئيس جديد للبنان، حتّى تداعى إلى البرلمان زملاؤهم من تكتّل التغيير، وعاد الشمل ليلتمّ مجدّداً.
تواجد النواب داخل قبّة البرلمان أمر طبيعيّ، بحسب الدستور الذي يقرّ صراحة بأنّ البرلمان يبقى دائم الانعقاد حتّى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، إلّا أنّ الدستور يجري عكس ما يشتهي رئيس البرلمان نبيه برّي الذي يدير أذن الجرّة كيفما يشاء. فمنذ ثلاثة أيام أطبق حرس المجلس يده على الإعلام مانعاً إيّاه من تخطّي الحواجز الحديدية الموضوعة عند المدخل المقابل لمبنى بلديّة بيروت.
في اليوم الأوّل، لم يستوعب الناس الفكرة. هي المرّة الأولى التي يعتصم فيها نوّاب داخل المجلس. وكلّ نائب لم يعلن التزامه بالمبيت في القاعات الباردة أوكل نفسه بمهمّة. ليل الخميس، تمّ رصد النائبة سينتيا زرازير وهي تُدخل مصابيح مشحونة مسبقاً لمن يجلس في الظلام، بعدما كانت أدخلت "كيس نوم" للنائبة نجاة صليبا. في حين كُلفت النائبة بولا يعقوبيان بتأمين الطعام. أمّا النائب وضّاح الصادق فيتوجّه كلّ يوم إلى القاعة من الثامنة صباحاً حتّى المساء.
عند ساعات الفجر الأولى يدهم النوّاب في مكان مبيتهم قرصة برد لاذعة، يقاومونها قدر الإمكان مستعينين بأغطية من الصوف لا يملكون سواها. في الداخل قاعة لمنامة البرلمانيّين والأخرى للبرلمانيّات، ولكلّ نائب كنبة. تجسّد هذه الحالة الاعتراضيّة الشراكة بين المرأة والرجل، وتعطي نموذجاً عن أيّ وطن يطالب هؤلاء النوّاب اليوم. كان دور النائبات بارزاً جدّاً بعدما جرّ نوّاب لبنان الرجال منذ ثلاثين سنة وأكثر بلدهم الى الهاوية. الثورة أنثى لا محال.
عند الاستيقاظ يرتّب كلّ نائب مكانه، ويقوم بتنظيف القاعة. صباحاً يستحمّ النائب خلف بمياه باردة، ويحاول ألّا يطيل الغياب كي لا يباغته أحد موظّفي المجلس، ويستغلّ غيابه كي يقفل باب القاعة كما جرى. حين تهدأ المدينة ويعمّ السكون ليلاً وتغيب عدسات المحطّات الإعلاميّة عن الشارع، يجلس النوّاب في جلسات يتحدّثون بكلّ شيء، كان أوّل ما تحدثوا به أنّ هذه التجربة الجديدة على اللبنانيين عمليّة اختبار حيّة لما يعيشه الناس اليوم من معاناة بسبب انقطاع الكهرباء وفقدان التدفئة، ومنهم من لا يملك برّاداً أو غسالة أو حطبًا كي يغلي ماءً للاستحمام.
رغم انعدام وسائل الراحة، فإنّ الظروف التي يعيشها النائب ملحم خلف أفضل بكثير ممّا كان تعرّض له أثناء الحرب الأهليّة، حيث مكث في محلّة المتحف في بيروت قرابة اليومين محاصراً، بعد منعه من دخول شطري المدينة المنقسمة والمدمّرة حينها بنيران الميليشيات المتقاتلة.
حرّك اعتصام ملحم ونجاة نوّاباً خارج تكتّل التغيير، وأبدوا تضامنهم وتأييدهم لهذه الخطوة غير المسبوقة في تاريخ لبنان، ومن مدخل جانبي كان هناك نواب يأتون على مدار الساعة لمؤازرة زملائهم. يمرّون أمام غرفة مضاءة يُقال أنّها مزوّدة بتيّار كهربائيّ من أحد المصارف القريبة.
يصعد الزائرون سلّماً يتحسّسون درجاته على ضوء مصابيح هواتفهم، قبل أن يدخلوا القاعة المظلمة، هناك طبخت المجالس المتعاقبة قوانين الاستدانة وتشريع نهب ممتلكات الدولة. وفيها رفع نوّاب أيديهم على وقع كلمة "صُدِّق"، ومن بينهم نوّاب ما كانوا يعلمون على ما يصوّتون.
على مدى الأيام الثلاثة، زار المعتكفين مجموعةٌ كبيرةٌ من النوّاب، إضافة إلى تكتّل التغيير. كان أبرز الحاضرين النائب أسامة سعد والنائب سامي الجميل، في زيارات يوميّة مطوّلة. ومن النوّاب الذين تداعوا إلى المجلس: عبد الرحمن البزري، شربل مسعد، سليم الصايغ، الياس حنكش، أحمد الخير، وليد البعريني، غسّان سكاف، بلال حشيمي، ميشال معوّض، أشرف ريفي، جورج عقيص، رازي الحاج، أديب عبد المسيح، فؤاد مخزومي الذي أعلن اليوم أنّه سيلتحق بزملائه المعتصمين فور عودته إلى البلاد. وكانت حليمة القعقور وفراس حمدان قد أمضيا ليل أمس إلى جانب ملحم خلف ونجاة صليبا.
زيارة نوّاب تكتّل الجمهورية القوية كانت للتضامن مع النوّاب المعتصمين، وأوضحت مصادر "القوّات" لـ"النهار"، أنّ خطوة النائبين جورج عقيص ورازي الحاج للتضامن مع النوّاب المعتصمين، خطوة مطلوبة ولكن من أجل ترجمات عمليّة لهذا الاعتصام".
وأشارت إلى أنّه "يجب الذهاب في اتّجاه تبنّي مرشح واحد وبلورة وحدة موقف معارض، وعندها ستكون للاعتصام نتائج عمليّة".
في المقابل، قال النائب وضّاح الصادق لـ"النهار": "نحن اليوم نطبّق الدستور، والكتل المتحكّمة في قرار انتخاب الرئيس هي كتل ميليشيات حرب، ونحن نحاول تغيير الواقع وفرض حالة جديدة".
إلى ذلك، شدّد النائب ياسين ياسين في حديث لـ"النهار" على ضرورة "النزول بشكل حضاريّ وسلميّ إلى الشارع للضغط في اتّجاه انتخاب رئيس للجمهورية". وقال: "الحكومة الموجودة حاليّاً، هي حكومة المجلس السابق، وليست حكومة مجلس اليوم".
أمّا النائب ميشال الدويهي، فقال لـ"النهار": "ما يحصل داخل البرلمان صرخة قانونيّة دستوريّة، ولتتحمّل الكتل مسؤوليّاتها التاريخيّة أمام الناس". وأضاف: "مفتاح الحلّ رئيس الجمهورية، فالبلد لا يتحمّل المزيد من تطيير الجلسات".
وبالتزامن مع النشاط داخل البرلمان، شهد مدخله على مدار الأيّام الثلاثة اعتصاماً شعبيّاً، حيث حضر عدد من المواطنين كي يعلنوا تأييدهم لهذه الخطوة، فرأت النائبة بولا يعقوبيان في الضّغط الشعبيّ عاملاً مؤثّراً في هذه الحركة الاحتجاجيّة.
وفي حديثها لـ"النهار"، أكّدت أنّ الاعتصام داخل المجلس "خطوة ليست سهلة، وتحتاج إلى نفس طويل، وتتطلّب مؤازرة من الناس كوسيلة ضغط إضافيّة". وأضافت: "وصلنا إلى اتّخاذ هذه الخطوة بعدما نفدت كلّ الطرق والسبل لكسر المسرحيّة الأسبوعيّة".
هناك من يرى أنّ النائبين خلف وصليبا ورطّا نفسيهما بإقامة شبه جبرية من غير المعروف متى تنتهي ومتى يخرجان منها إلى الهواء الطلق، ولكن في المقابل، فإنّ البعض قد يرى أنّ الاعتصام ورّط نواباً آخرين يدّعون الحرص على المسار الدستوريّ والمؤسّساتيّ للدولة، ولا يلتحقان اليوم بزملائهم. تبقى ورطة خلف وصليبا نفسيّة فيما تنسحب ورطة الآخرين على صعيد الضمير والمسؤولية الموكلة إليهم من الشعب، وهي المسؤولية التي انطلق منها خلف في رسالته في اليوم الأوّل من الاعتصام. و"بلكي بيوعا الضمير".