يُشكّل الوعي السياسي الشبابيّ حجر أساس لمشاريع سياسية مستدامة تستهدف بناء الأوطان، لأنّ هذه الفئة تزخر بأفكار التغيير، ويُمكنها تجديد دماء المؤسّسات والأحزاب الجديدة، بل الدولة كلّها، إذا نعمت بالحرية في العمل السياسيّ غير التقليدي.
يبدأ دور الشباب أولاً في الانتخابات النيابية واختيار ممثليهم، ولا ينتهي مع تبوّئهم المواقع في السلطة. وبالتالي، فإنّ شكل الحاضر والمستقبل يحدّده الوعي السياسيّ المحقَّق لدى هذه الفئة العمريّة.
والتنظيمات الشبابية الحزبية تكاد تكون ركناً رئيسياً في إعداد الوعي السياسي وتطويره وتوجيهه، لأنّها مؤسّسات تتمتّع بالهيكليّة والأهداف وحتى التمويل، وقادرة - تالياً - على تأدية دور محوريّ في رفع نسبة التثقيف السياسيّ والكودرة (تأطير الناشطين). لكنّها في بعض الأحيان، قد تؤدّي دوراً عكسيّاً إذا كانت برامجها فئويّة لا وطنيّة.
الشباب يؤوب من 17 تشرين إلى الأحزاب
شكّلت انتفاضة 17 تشرين 2019 محطّة تحذيريّة للأحزاب التقليدية، وأظهرت رغبة جديّة لدى الشباب في الانخراط ضمن تكتّلات جديدة، قد تكون سياسيّة أو غير سياسيّة، بل مناقضة في بعض الأحيان للأحزاب المعروفة تقليدياً، وتحمل أفكاراً تقدميّة وتحرريّة غير معلّبة. لذلك، غادر البعض من الشباب صفوف أحزابهم إلى الحراك المدني، الذي شكّل إطار استقطاب لشريحة من الشباب الحزبيّ، ورفع منسوب الخوف لدى العديد من قيادات الأحزاب اللبنانية التقليديّة. لكن فشل التنظيمات المدنيّة، لا بل سوء إدارتها السياسيّة وحتى المالية للأزمة، دفع بقسم كبير جداً ممن غادروا أحزابهم إلى العودة أدراجهم.
تتعدّد أدوار المنظّمات الشبابية الحزبية، لكن دورها الأبرز يتلخّص بالتربية السياسية والتاريخية، وتثقيف الشباب وتعريفهم العمل الحزبيّ ومبادئ الحزب وسياساته وخططه المستقبلية، بهدف ترسيخ الانتماء الحزبي لدى الشباب، ومنحهم الحوافز للحفاظ على "الاستقرار في الانتماء".
إلى ذلك، هناك أدوار أخرى، منها تفعيل الحركة الطلابيّة، تنظيم النشاطات الإنمائية والاجتماعية. وعادة ما تقسّم الأحزاب عملها إلى قسمين، يتجلّيان تنظيمياً في مجموعة طالبية وأخرى شبابيّة، والثانية كشفيّة. الأولى تركّز على رفع نسبة الوعي السياسي و"أدلجة" الشباب، وتضمّ فئة محدّدة من الشباب؛ والثانية، تربوية، ترفيهية، تدريبية، وتختلف عن الأولى بضمّها فئة عمريّة صغيرة جداً.
من هنا، يمكن إجراء قراءة نقدية لكلا المجموعتين، ولمدى ملاءمتهما لدورهما حزبياً ومجتمعياً.
تشريح لواقع المنظّمات: ما توجّهات الشباب اليوم؟
يقول مطّلعون على التجربتين الطالبية والشبابية إنّ "هوّةً كبيرة بين التنظيمات الحزبية والشباب حصلت بعد انتفاضة 17 تشرين، ولم يكن السبب سوء عمل القطاعات الشبابية في الأحزاب، بل التحرّكات التي نُظّمت في الشوارع وقطعت الطرقات، وهي التحرّكات التي ابتعدت عنها الأحزاب التقليدية في فترة معيّنة، نتيجة عوامل سياسية وأمنية والمطالب المحقّة التي رُفعت وكانت تعني كل الشباب".
ويضيفون: "المطالب المحقّة تحتاج إلى سقوف مرتفعة قد تصل إلى تحرّكات في الشارع، وهذا ما ابتعدت عنه القطاعات الشبابية في الأحزاب واكتفت بالوقفات الرمزية"، بسبب المخاوف الأمنية والمسؤوليات التي تقع على عاتق الأحزاب عندما تدعو شبابها إلى التحرّك، بالإضافة إلى سوء الظروف الاقتصاديّة لدى الشباب الذين من المفترض أن يشاركوا في التحرّكات".
لكنّ جزءاً كبيراً من الشباب الذي خلع رداءه الحزبي في 17 تشرين عاد إليه بعد 3 سنوات، وهذا ما تلحظه العديد من المنظمات الشبابية؛ ذلك لأن تجربة الحراك الجديد لم تكن على قدر التطلّعات، والتشرذم الحاصل على صعيد "النواب التغييريين" خير دليل على فشل التجربة، إضافة إلى عوامل عديدة، منها ضعف التحرّكات في الشارع، ومعرفة الشباب بأن شعارات المجتمع المدنيّ هي نفسها العناوين التي ترفعها الأحزاب.
ويرى كثيرون أن من أبرز العناوين التي يجب على المنظّمات الشبابية التركيز عليها، والتي كانت قد رفعتها سابقاً، لكنها لم تكن جاذبة ومهمّة بقدر ما هي عليه اليوم، عنوان الزواج المدني، القانون الموحّد للأحوال الشخصيّة، القانون العصري للانتخابات، خفض سنّ الاقتراع، وغير ذلك من القضايا التي تهمّ فئة الشباب، وتتماشى مع تطوّر أولوياتهم. يُضاف إلى ما تقدّم العمل على تطوير القدرات، وتعليم المهارات، مع التشديد في الموازاة على أهميّة الخطاب السياسيّ، الذي يجب أن لا يغيب عن أدبيات المنظّمات الشبابيّة.
ولا ننسى أن من أسباب انطفاء شعلة 17 تشرين كان غياب البرنامج السياسي الواضح، والاكتفاء بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية. من هنا، يتعزّز وجوب الاستمرار في عمليات التثقيف السياسي لتأكيد الانتماء الحزبي من جهة، ولرفع نسبة الوعي السياسي من جهة أخرى.
يشير حزبيون، في الإطار، إلى أهمية العمل الكشفي، بالقول: "يبدأ العمل الحزبي مع الفرد منذ سنّ الـ15 تقريباً، وفي هذه السنّ، يبدأ الشخص بتكوين هويته السياسية وأفكاره ومبادئه، وبالتالي من الضروري أن يكون الكشّاف مدخلاً لطرح القضايا السياسية، ولتعليم الأفراد الحقوق والواجبات إلى جانب الأدوار الاجتماعية والإنمائية التي يقوم بها أساساً؛ هذا الدور مفقود اليوم في معظم الجمعيات الكشفية".
التقدمي: rebranding الأفكار والمبادئ
الأمين العام لمنظمة "الشباب التقدمي" نزار أبو الحسن يؤكّد ما ذُكر سابقاً، ويقول إن "الانتفاضة الشعبية، الظروف الاقتصادية، وتبدّل الأولويات، وهجرة الشباب، وجائحة كورونا، كانت عوامل أثّرت على العمل الحزبيّ الشبابيّ"، لكنّه يكشف عن أن الانتساب إلى صفوف المنظمة يرتفع لجملة من الأسباب، منها العمل البرلمانيّ الذي أظهر حقيقة عمل كلّ طرف. وعلى سبيل المثال، فإن نائب "التقدمي" بلال عبدالله كان الأنشط في مجلس النواب، ولهذا الواقع تأثيرات إيجابيّة على الشباب.
وفي حديث لـ"النهار"، يلفت أبو الحسن إلى التحوّلات والتطوّرات التي طرأت على أفكار الشباب، ويُشير إلى تبديل ديناميكية العمل الشبابيّ الحزبيّ. وبرأي أبو الحسن، فإن "فئة الشباب ما عادت تتقبّل الخطابات التقليديّة، والتبدّلات دفعتنا إلى تبنّي نهج جديد مع الحفاظ على مبادئنا؛ وما نقوم به اليوم هو عملية "Rebranding"، بمعنى تقديم الأفكار بطريقة عصريّة من خلال ورشات عمل، مسابقات لإعداد الأفلام القصيرة، تلخيص الكتب، إطلاق نشرة إلكترونية وغيرها".
ويتابع حديثه في السياق نفسه: "وإلى جانب الدور السياسيّ المحوريّ، تقوم المنظمة بورشات عمل لتطوير القدرات وتنمية المهارات بهدف اكتساب الشباب المشارك خبرات جديدة واستثمار الوقت في ما قد يعود عليهم بالنفع، وتنظّم مشاريع مناطقية وإنمائية. ففي فترة كورونا، كانت المنظمة إلى جانب الأهالي في المناطق، وبعد انفجار المرفأ، كان الشباب موجودين للتبرّع بالدم وتنظيف الشوارع".
القوات: أعداد المنتسبين ترتفع
من جهته، يُشير رئيس مصلحة الطلاب والشباب في "القوات اللبنانية" عبدو عماد إلى أن "أعداد المنتسبين لم تتراجع بل - على العكس - ارتفعت. وبلغة الأرقام، زاد عدد المشاركين في أكاديمية الكودرة السنوية إلى 1000 شخص هذا العام، بعدما كان العدد 500 قبل فترة كورونا، فيما تضمّ المصلحة أكثر من 14 ألف شخص. وتؤكّد نتائج الانتخابات الطلابية في الجامعات الخاصّة التي صبّت لصالح "القوات" هذا الواقع".
وفي حديث لـ"النهار"، يُشدّد عماد على ضرورة التثقيف السياسي والحزبي لفئة الشباب. ولهذا السبب، فإن جهاز التنشئة في "القوات" ينظّم دورة الكودرة السنوية التي تستمرّ لأربعة أشهر، وتقوم على جلسات مكثّفة في مختلف المناطق اللبنانية، وهدفها الإعداد الفكريّ ورفع مستوى الثقافة السياسيّة، وتستمدّ أفكارها من مبادئ "القوات" وتاريخها، بالإضافة إلى حلقات سياسية أخرى، وذلك إلى جانب النشاط الاجتماعيّ والرياضيّ والإنمائي وغيره.
ونسأل عماد عن القضايا الشبابية والطلابية الواجب العمل عليها، والتي لم تتمكّن المنظّمات الشبابية من تحسين ظروفها؛ ونتحدّث عن الجامعة اللبنانية كمثال، فيقول إن "الجامعة اللبنانية - للأسف - تُدار بعقليّة طائفيّة سياسيّة، والطلاب يغيبون عن آليات اتّخاذ القرار فيها. فالانتخابات الطلابية الأخيرة يعود تاريخها إلى عام 2008، وهذا يُضعف من نشاط القطاعات الحزبيّة الشبابيّة، ولكنّنا نحاول بالحدّ الأدنى تأمين احتياجات الطلاب في الفروع التي نتواجد فيها، ونؤكّد أن المطلوب إجراء الانتخابات الطلابية فيها".
"أمل": التثقيف السياسي عماد عملنا
في السياق نفسه، يُشير مسؤول مكتب الشباب والرياضة المركزيّ في حركة "أمل" علي ياسين إلى الواقع نفسه، ليقول إن "حضور الحركيين موجود وبفاعلية، والانتخابات الطالبية الأخيرة تُثبت صحّة حديثنا؛ والتثقيف السياسي جزء لا يتجزّأ من عملنا، لأن هدفنا صناعة رأي عام مناصر لأفكارنا، وبناء مجتمع حركيّ. ويبدأ هذا المشروع من فئة الشباب والطلاب".
وفي حديث لـ"النهار"، يشدّد أيضاً على أهمية التثقيف السياسيّ، ويعتبر أن على الشباب واجب التمتّع بوعي سياسيّ تقنيّ عالٍ، ثمّ الانخراط في العمل السياسيّ وعمليات بناء الدولة، كالمشاركة في الانتخابات النيابية والبلدية اقتراعاً وترشيحاً. وفي هذا السياق، فإن القضيّة السياسيّة أساس". ويستشهد بقولٍ للإمام موسى الصدر: "حامل السلاح دون قضية سيُصبح في يوم من الأيام قاطع طريق".
يوافق ياسين أبو الحسن لجهة تبدّل ديناميكيات العمل، ويلفت إلى أنّ "الأجيال اختلفت، ممّا حتّم علينا تبديل آليات العمل والبرامج. وعلى سبيل المثال، فإنّ مكتب الشباب والرياضة بات ينظّم دورات في الثانويات والجامعات حول الـRobotics والـCoding، وذلك بهدف مواكبة تطوّر الشباب واهتماماتهم، لأن الأساليب التقليدية استُنزفت، ومن واجب التنظيمات الشبابية ملء الفراغ التربويّ والاجتماعيّ لدى الشباب، وهذا لا يلغي وجود العمل الحزبي والسياسي".
نصرالله يُشارك في دورات "حزب الله"
إلى ذلك، فإن "حزب الله" يُعدّ أيضاً من أبرز الأحزاب التي تعمل على التثقيف السياسي وحتى الإيديولوجي للقطاع الشبابي، لا سيما ضمن صفوف التعبئة التربوية. قيادة الحزب المعنيّة رفضت المشاركة في المقال وإعطاء رأيها، لكنّها - وفق مصادر التعبئة التربوية - فإن الحزب يُخصّص جهداً كبيراً لتثقيف شبابه ومدّهم بأفكار ومعتقدات الحزب وحتى إيديولوجيته. ويُشارك أمينه العام السيد حسن نصرالله مباشرةً في هذه العملية من خلال دورات تثقيفيّة يُحاضر فيها، وهذه الدورات كثيرة، ويحضرها قادة رفيعو المستوى في الحزب.
دور التنظيمات الشبابية الحزبية محوري في إعداد الشباب من جهة، وفي تطوير عمل الأحزاب نفسها، لأنّ هذه الفئة العمريّة قادرة بوساطة وعيها السياسي على تصويب المسار. وهذه المنظّمات أدّت أدواراً كبيرة في حقبة الوصاية السورية، وكانت عصب ثورة الأرز ومطلقة شرارتها، ومن الضروري اليوم مع التطوّرات الحاصلة الاستفادة من قدرات الشباب الذين باتوا يتمتّعون بمستوى ثقافيّ وفكريّ متطوّر وناقد.