أحيت أمم للتوثيق والأبحاث بالتعاون مع دار الجديد ومؤسسة لقمان سليم ويوستيكوم، اليوم العالميّ للعدالة الدوليّة في قاعة ستايشن في سن الفيل. تخلّل هذا اليوم مجموعة من النشاطات التي طرحت مسألة العدالة في لبنان بكل إشكاليّاتها.
تجهيز فوتوغرافي:
واكب الإفتتاح تجهيز فني يجمع ما بين الصور الفوتوغرافية وشهادات مصوّرة توثّق جرائم ارتكبت بحق الأفراد او الجماعات. مجموعة من المصورين اللبنانيين المحترفين شاركوا بأعمالهم في التجهيز الفوتوغرافي، منهم مروان طحطح التي حملت مجموعة صوره عنوان التشظي وهي تلتقط تفاصيل من مشاهد مختلفة تتشكل عبرها صورة المدينة ما بعد انفجار 4 آب. من الزجاج المتشقق إلى المتناثر منه والذي يلمع كالفضة في شوارع المدينة ليلاً، إلى ما تبقى من أثر الحيوات التي أزهقت على جدرانها، في كل تفاصيل الجماد التي تطوّعها كاميرا طحطح بمهارة، يتشكل بورتريه للمدينة حيثما المكان في تشظيه، لا يفعل سوى أن يعكس وحدة المدينة في دمارها.
من جهتها عدسة نوار(إيلي) بركات تمتاز بخصوصيتها وحميميّتها، إذ أنها تغوص في إيقاع حياة الأفراد ما بعد انفجار 4 آب، فلعلّ أكثر ما يسعى إليه نوار بركات ويختبره هو كيفية تجسيد الوقت من خلال الصورة الفوتوغرافية، وأكثر ما يعبرّ عن ذلك المسار مجموعة صور لسيدة متقدمة في السن تدعى "أم ديب" يصورها بركات مباشرة بعد تفجير بيروت ثم يعود إليها بعد مرور سنة ليجدها جالسة على نفس الكتبة بذات الوضعية كما يروي .
مجموعة حسين بيضون تختلف عمّا سبق في حيوية ما تلتقطه، إذ أنها تغوص في نبض الشارع، عبر تظاهراتو أحداث مختلفة سواء لأهالي ضحايا المرفأ أو أهالي المفقودين، وغيرهم من ضحايا الجرائم الجماعية التي افترقت بحق الأفراد والجماعات. يبرع حسين بيضون في تأويل اللحظة وإعادة تشكليها فوتوغرافيا، فيلتقط تفاصيل فريدة في تعبيريتها في خضمّ التظاهرات الحاشدة والمظالم التي لم تلق لا عدلا ولا خلاصا حتى الآن.
صور المصورة الفوتوغرافية ألسي حداد والتي تحمل عنوان "محاصرٌ خارج السجن" تتخذ منحى مغايرا، إذ أنها تصور صراع الأفراد لإستكمال حياتهم من بعد قضاء عقوبة السجن، وهي في مجموعتها تطرح أسئلة مختلفة حول نسبيّة العدالة أيضاً. ففي بلد تمضي فيه كل الجرائم الكبرى بلا حساب، يزج آخرون في السجن لتهم تصنيفها كجرم يطرح إشكاليّة بحد ذاتها. هي حالات مختلفة تتوقف عندها ألسي، تستوقف الناظر للحساسية السينمائية التي تتّسم بها أعمالها، فتلتقط مشاهد من الحياة اليومية للأفراد الذين تتبعهم بعدستها تسرد عبرها الحكايات الصامتة لهؤلاء.
أما المصوّرة شيرين يزبك فتتّجه في طرحها نحو الأهراءات في مرفأ بيروت، من خلال تشكيل فوتوغرافي خاص هو أشبه بالكولاج يصوّر مرفأ بيروت ما قبل انفجار 4 آب وما بعده ويطرح إشكالية أهراءات القمح في مرفأ بيروت، والنزاع القائم حولها في خضمّ معارك الذاكرة الكثيرة ونستذكر في هذا الإطار توصيف لقمان سليم للذاكرة معرّفا عنها بأنها ساحة معركة. ففيما هنالك من يدافع عن أهمية الحفاظ على الأهراءات بصفتها شاهد على الذاكرة الجماعية لهذه المدينة وما حلّ بها بخلاف أنها بالطبع مسرح للجريمة المرتكبة بحق مدينة باكملها والتي وحتى اللحظة الآنية لم يتم التحقيق فيها على نحو جدّي. لا بد أن هنالك أيضا من تحثه مصلحته على تدمير الأهراءات بفعل مقصود أو نابع من اللا مبالاة. ذلك مع العلم أن الحريق الغامض المندلع في الأهراءات مستمرّ منذ حوالي الأسبوع من غير أن نشهد أي تدخل من قبل المسؤولين أو المختصين لإيقافه. رافق هذا التجهيز الصامت، صوت الشهادات المصوّرة التي تمّ عرضها وهي توثق جرائم ارتكبت بحق الأفراد والجماعات في لبنان، نذكر منها الإغتيالات السياسية وجرائم أخرى ارتكبت إبان الحرب الأهلية، والجريمة الجماعيّة التي ارتكبت بحق مدينة كاملة و هي تفجير مرفأ بيروت في 4 آب.
ندوة العدالة للبنان :
تبع ذلك ندوة تطرقت إلى مسألة العدالة في لبنان بكل ما تطرحه من إشكاليّات وعثرات شارك فيها كلّ من: نزار صاغية مدير المفكرة القانونية، الناشط والمدوّن روني شطح، موسى خوري وهو محامي السيدة مونيكا بورغمان في قضية اغتيال لقمان سليم، رينا صفير وهي أستاذة حقوق الإنسان في جامعة الحكمة وسابقا مسؤولة مكتب التواصل الخارجي في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، سفير المانيا في لبنان أندرياس كيندل، آية مجذوب باحثة في المرصد الدولي لحقوق الإنسان. وقد أدارت الندوة نجاة رشدي، المنسقة المقيمة للأمم المتحدة في لبنان. افتتحت الندوة بداية بكلمة للمخرجة مونيكا بورغمان، مديرة ومؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث وزوجها الراحل لقمان سليم.
بداية شكرت مونيكا الحاضرين والمشاركين والداعمين لهذا النشاط مشيرة إلى أنّها وعائلة لقمان لا يطالبان بالعدالة منفردين في هذا اليوم، بل إلى جانب أهالي ضحايا مرفأ بيروت، أهالي ضحايا الإغتيالات السياسية، أهالي المفقودين، الناجين من الحرب الأهلية اللبنانية، المعتقلين السابقين في السجون السورية وكلّ من يحارب منذ أمد طويل لأجل المحاسبة وإنهاء ثقافة الإفلات من العقاب.
كما لفتت إلى المصادفة الرمزية التي يطرحها تاريخ 17 تموز إذ يوافق أنه اليوم العالمي للعدالة الدوليّة وعيد ميلاد لقمان سليم في آن معا: "لقمان كان ليبلغ الستين من العمر في مثل هذا اليوم وأمامه العديد بعد من السنوات كي يحياها، لكان أمضاها في كتابة المقالات أو الكتب، في التحليل السياسي، في إخراج الافلام أو في الإستمتاع بالحياة بكل بساطة، غير أن لقمان قُتل غيلة.... ثمانية عشر شهرا مضت حتى الآن، ولم يتم اتهام او اعتقال او محاكمة أي كان".
وأضافت: "أن العدالة هي حقٌ إنسانيّ أساسي تعترف به الامم المتحدة، والعدالة بطيبعة الحال تتخذ أشكالا مختلفة ولذلك كان الإجتماع في هذا اليوم لمقاربتها من المنظور اللبناني. كما أكدت أنّ إحياء اليوم العالميّ للعدالة الدوليّة لن يكون حدثا منفردا بل مناسبة سيتم الإجتماع حولها في 17 من تموز من كل سنة إلى حين يكون للعدل مكان ومكانة في لبنان.
تلتها كلمة للروائية رشا الأمير(سليم)، شقيقة لقمان ومديرة دار الجديد ومن ضمن ما توجّهت به للحضور: "نحن هنا معًا كي لا ننسى وكي نقرعَ بقوّةٍ أبوابَ عدالةٍ صَمّاء، عدالةٍ مُيَئِّسةٍ تَضِيْعُ الأعمارُ في دهاليزها، عدالةٍ يَهزأ منها الأقوياء مُرتَكبو الشناعاتِ والاغتيالاتِ والمجازر....". ثمّا أضافت: "تَنادينا لنكون معًا فلا تمرّ علينا هذه الساعة كسائرِ أيّامنا المُظلمة.. هذا اليومُ يومُ العدالة الجنائيّة الدُّوليّة ويومُ ميلاد لقمان". وعبّرت آنا فلايشر مديرة مؤسسة هاينريش بول الداعمة لهذا النشاط عن تضامنها مع عائلة لقمان تحديدًا في هذا اليوم ومع كلّ من يناضل من أجل تحقيق العدالة في لبنان و سائر الدول .
الندوة تخلّلها نقاش تعددت فيها وجهات النظر حول مسألة العدالة الشائكة في لبنان . أسئلة عديدة طرحت نفسها، قد يكون أبرزها محاولة تحديد ما يمكن اعتباره مسبّبات عجز النظام القضائي اللبناني عن منح العدالة لمستحقيها. هل يمكن إرجاع ذلك وبشكل أساسي إلى الفساد المتفشي في كل مفاصل الدولة ومن ضمنها النظام القضائي، أم إلى النظام الطائفي وكل ما قد ينطوي تحت تبعات الحرب الأهلية أم في نهاية المطاف المسألة قد يكون مردها إلى السياسي بالدرجة الأولى وتتّصل مباشرة بهيمنة حزب الله وحلفائه على لبنان أمنيا وسياسيا كما جادل روني شطح. أما الشق الآخر من المسألة فيتعلق بالحلول الممكنة او المطروحة وقد يكون أولها دور المجتمع الدولي، والمحاكم الدوليّة في البتّ في جرائم تتكرر بلا حساب أو عقاب كالإغتيالات السياسية أو تلك التي تستهدف شعبا بأكمله كما انفجار مرفأ بيروت .
كذلك تطرق النقاش إلى دور النوّاب في البرلمان اللبناني بخاصّة ما بات يعرف منهم بالتغييريين وقدرتهم الفعلية على إحداث تغيير ملموس عبر الضغط لسن قوانين تحمي أو تسهل إجراء تحقيقات نزيهة وشفافة. من بين كل المقاربات المطروحة، قد يكون أحد التساؤلات التي شغلت الحاضرين ودفعتهم إلى مناقشته على نحو تفصيلي يتعلّق بدور اللبنانيين ومسؤوليتهم عمّا آلت إليه الأمور. آراء مختلفة عبر عنها الجمهور وتوقفت بمعظمها عند انتفاضة 17 تشرين وعند مئات الآلاف من اللبنانيين الذين تصدوا وجابهوا وطالبوا بكل وضوح بالتغيير، غير أن الصوت الحر مهما بلغ تعداده يبقى عاجزا عن التصدي للترهيب والقمع والسلاح.
خُتمت الندوة بملاحظات من مديرة مؤسسة لقمان سليم الباحثة هناء جابر التي وضمن تعقيبها على عدد من المحاور التي طرحت أثناء الندوة، رأت أن القضاءُ اللبنانيُّ بطبيعة الحال في مأزق فعلي تُجاه جريمة العصرِ أيْ تفجيرِ المرفأ وتُجاه الاغتِيالات السياسيّة وليسَ اغتيالُ لقمان سليم أوَّلَها ولا آخرَها وأن الدولةُ اللبنانيّة بمؤسستَيْها القضائيّة والأمنيّة، ناهيك عن التهاوي الاقتِصادي المُتسارِع يوماً عن يوم، قد وصلت إلى حالةٍ من الوهَن والاستِباحة تَجعلُ الاستِغاثة بالعدالةِ الدوليّة أمراً محكوماً بمفارقاتٍ مُستعصِيَةِ العناصر والآليّات. وأنه لا بدّ من يَقْظةً ضروريةٍ ومُلِحّةٍ.. لدى سائرِ مؤسّسات المُجتمع وأفرادِه، للضغطِ باتجاه تَنفيذِ وسنِّ قوانينَ تُعيدُ للبنانيّين بعضاً من كرامتِهم.