عندما لمست "القوات اللبنانية" أنّ الأفق مسدود ارتأت الانتقال إلى مرحلة أكثر جدية إذا جاز التعبير، إلى "الخط الواقعي"، الذي يختلف بعض الشيء ربّما بكيفية مقاربته عن المختارة.
ذهبت "القوات" بالتوافق مع عدّة قوى سياسية إلى مرشح جديد، لا يشكّل كل تطلعاتها لكن، خدمة للتوافق الأوسع، ولامتلاكه مواصفات توافقية إصلاحية إنقاذية، وتمثيلٍ يعكس معظم ألوان المجلس النيابي، المسيحي والدرزي والسنّي والمدني والتعددي والثوري. فكانت خطوة كشفت نوايا فريق الممانعة بالجرم المشهود، ورسالة جازمة لـ"حزب الله"، "لن نسمح بفرض مرشحك علينا".
في أدبيات "القوات"، الرئيس العتيد يجب أن يعكس ميزان القوى النيابي الجديد، والمزاج المسيحي الرافض لمرشح "حزب الله"، والمزاج الشعبي اللبناني العام المنتفض من أجل التغيير، والمناخ الإقليمي المستجد، بما يعني، "رفض معادلة الفرض"، والذهاب نحو تبنّي مرشح يعكس كل هذه المعطيات.
فرنسا تبدّل الخيارات؟
كاشفت معراب ضيفها أمس بما تعتقده في زيارته الاستطلاعية، لكن الملفت إبداء الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان قناعة بوجود مأزق على المستوى الرئاسي. وفي التقريش السياسي، يعني، أنّ استمرار هذا المأزق يعني انعكاساً على الوضع اللبناني برمّته أولاً، وعلى الهيكلية المؤسساتية والتنظيمية للدولة ثانياً، بدءاً بالسلطة التنفيذية مروراً بمجلس النواب إلى غياب كل سبل تنفيذ الإصلاحات المشروطة دولياً على لبنان ثالثاً.
يُستشف من قناعة الفرنسي اعتراف بأن أحداً من الأطراف لا يملك القوة العددية في البرلمان لحسم المعركة لمصلحته، وهذا يعني أيضاً أن المبادرة الفرنسية التي تقوم على فرنجية رئيساً للجمهورية والتي قد تُستكمل بنواف سلام رئيساً للحكومة، قد وصلت إلى طريق مقفلة. وأيقن الفرنسي أن مشهد الأمس تغيّر وباتت توازنات 14 حزيران تمنعه من إحياء مبادرته وايصال مرشحه، اذا كان هناك من نيّة لجس نبض بشأن إمكانية ايصال سليمان فرنجية.
رأي "القوات"
توجّه الموفد الرئاسي إلى الدكتور سمير جعجع سائلاً عن رأي "القوات" في كيفية الخروج من المأزق الرئاسي؟ فكان الجواب، أن هذا الانسداد يتم الخروج منه من خلال مرشح توافقي، غير خاضع لمحور الممانعة، لسببين، أنّ هذا المحور يتحمّل مسؤولية كل الانهيار الذي حصل، والسبب الثاني، لا يمكن إجراء إصلاحات بهيمنته على الدولة، لذا يجب الذهاب إلى رئيس غير خاضع، متحرّر من أي التزامات تجاه أيّ فريق، يلتزم بأجندة دستورية". وشدد على أنّ وصول مرشح الممانعة يعني تمديد للأزمة ست سنوات أخرى.
ويسأل لودريان جعجع، هل أنت تقول بمرشح توافقي؟ يجيب جعجع: "هذا ما فعلناه. مرشحنا المفضل كان ميشال معوض، فانتقلنا إلى مرشح توافقي هو جهاد أزعور. لا يجسّد كل تطلعاتنا، إنما تقاطعنا حول اسمه في إطار البراغماتية وإنتاج الحلول".
وفي قراءة لكلام جعجع، وصول المعارضة إلى قناعة باستحالة إيصال مرشحها بفعل التوازن السلبي في البرلمان، حتّم ذهابها إلى أوسع توافق على مرشّح توافقي وتوسيع مروحة التحالفات السياسية من أجل تأمين أوسع تأييد نيابي له، بما يؤمّن انتخابه وإنهاء الشغور الرئاسي.
أراد الفرنسي أن يعرف ما اذا كان ممكناً تحقيق وصول هذا المرشح التوافقي؟ الجواب كان حاسماً، "لا يمكن إلا الوصول إلى نتيجة، وإلاّ نكون سلّمنا بمرشح الفريق الآخر، ونحن لن نفعل. نحن بخلاف مع هذا النهج وهذه الممارسة. وإذا حاولوا فرض خيار الاستمرار بسياسة الأمر الواقع لايصال مرشحهم، فإننا لن نرضخ ولن نساوم، لن نستسلم ولن نتراجع، والخيار الوحيد هو الذهاب إلى المساحة التي تشكل مدخلاً لإعادة بناء المؤسسات من خلال بناء توافقي".
قاسم والمعادلة الجديدة
لا حوافز جديدة يمكن أن تستدعي من "القوات" تبديل موقفها من الحوار، ولو أتى من الفرنسيين كبادرة للالتقاء في المساحات المشتركة، لأنّ الحوار يستهدف تخلّي المعارضة عن مرشح لها مقابل تأييد سليمان فرنجية، وهو أمر مرفوض كلياً. تقرأ "القوات" في باطن تصريحات "الحزب"، ولا تنخدع بظواهر قد تبدو إيجابية، إنما باطنها على غير حقيقتها. وهذا ما يدل عليه تصريح الشيخ نعيم قاسم الأخير، يوم وصول الموفد الرئاسي الفرنسي. وبشكل مبطّن وواضح وصريح أيضاً انتقل قاسم من معادلة "مرشحنا أو الشغور" إلى معادلة "الحوار أو الشغور"، ووضع في تصريحه الحوار كشرطٍ ملزِم للانتخابات الرئاسية. فإمّا انتخاب مرشحنا الذي يشكل ضمانة لنا، وإما حوار على سلّة وبعدها نتفق على المرشح الذي يشكل التقاطع بيننا، من دون ان يحدّد مضمون هذه السلّة.
تردّ "القوات" على قاسم: "لسنا في هذا الوارد، ونقول، كما حصل التقاطع على جهاز أزعور من دون ان تلتقي أغلبية القوى مع بعضها، يمكن الوصول إلى مجموعة تقاطعات يتفق عليها الفريقان، المعارضة و"حزب الله" من دون الحوار المباشر".
"حتى النفس الأخير"...
تصرّ "القوات" على الاستمرار بالمواجهة الديمقراطية إلى أبعد الحدود بعد 14 حزيران، وحتى النفس الأخير، وهي لن تكلّ ولن يخيفها اهتزاز أو تفكك التقاطعات، فالمصلحة السياسية تحدّد بوصلة وعقارب ساعة كل فريق، فلو لم يكن هناك مصلحة لجبران باسيل بعدم إيصال فرنجية لما تقاطع مع المعارضة، كذلك كل فريق له مصلحة سياسية معينة. لذلك، في سياق مشروع الغلبة الذي يمثله "حزب الله" ويعبّر عنه من خلال محاولة فرض مرشحه على اللبنانيين، فإن كل القوى المتقاطعة متضررة من هذا المشروع، ومن المستبعد أن تبتعد أقلّه في المدى وبحسب المعطيات المتوافرة حالياً، "أمّا اذا وجد غداً من أراد أن يقطع أوصال هذا التقاطع لمصلحة "الحزب"، فلكلّ حادث حديث".
وعما يتردّد عن إمكانية دعوة الفرنسيين إلى حوار حول التركيبة والنظام بعد انسداد أفق الحلول، ترى "القوات" أنّ "هذا النقاش غير واضح، نحن نتعاطى مع كل ملف في حينه. نحن اليوم أمام إلزامية حل أزمة الرئاسة، اذا لم تُحل وتم الذهاب إلى حوار له علاقة بأسس النظام، فلكل حادث حديث. طرحُنا واضح، هذه التركيبة لم تعد صالحة، يجب الوصول الى تركيبة لبنانية تحقق الفصل بين النزاعات السياسية الموجودة على مستوى السلطة من فوق، وحياة المواطنين على كل المستويات المالية والسياسية والمعيشية والاجتماعية وغيرها".
لا تبدي "القوات" خوفاً من السلاح وتأثيره على مسار أي تركيبة مستقبلاً، فهي تراهن على قوة رفض أغلبية اللبنانيين، وبمدماك عابر للطوائف والمذاهب حتى، مشروع الغلبة والهيمنة الذي يمثله "حزب الله"، فلا المسيحي، ولا الدرزي ولا السُنّي قابل للخضوع لهكذا مشروع، ولا حتى المجتمع المدني وحركات الثورة وغيرها، فأي استفتاء يُظهر أن غالبية اللبنانيين يريدون العيش بكرامة وطمأنينة وحرية.
وفي الختام، نصيحة قواتية لفريق الممانعة، "عدم الرهان على الوقت، فنحن أيضاً قادرون على حَبْك خيوط اللعبة السياسية حتى النفس الأخير، ولن نستسلم، وسنعمل مع قوى المعارضة على استمرار بناء التماسك بيننا وعدم التراجع".