"وثيقة الوفاق الوطني، عقدٌ ملزم لإرساء ركائز الكيان اللبناني التعددي، والبديل منه لن يكون ميثاقاً آخر، بل تفكيكاً لعقد العيش المشترك، وزوال الوطن الموحّد، واستبداله بكيانات لا تشبه لبنان الرسالة". الثابت أن تغريدة السفير السعودي لدى لبنان وليد بخاري تعكس موقف المملكة من اتفاق الطائف وأهميته الوطنية وتمسكها به في هذا الظرف الذي يمر به لبنان والمنطقة. لكن الأكيد ان التغريدة لم تأت وليدة اللحظة، إنما الظروف هي التي حتمت هذه التخريجة بحيث جاءت بعد ساعات من إعلان السفارة السويسرية إلغاء العشاء الذي كان مقررا فيها ليل 18 تشرين الأول الجاري، والذي كان مقررا أن يحضره عدد من الشخصيات السياسية من قوى المعارضة والمنظومة وأخرى فكرية وإجتماعية.
غير أن انكشاف الستارة عن الأهداف الحقيقية للعشاء الذي تبين أنه كان سيشكل تمهيدا لمؤتمر حواري يعقد في جنيف حول لبنان، دفع بعض المدعوين إلى الإعتذار وبالتالي تأجيل العشاء. وعليه جاءت تغريدة السفير بخاري التي سبقتها زيارة إلى قصر بعبدا وعين التينة لتأكيد المؤكد أن "الطائف عقد ملزم ولا بديل منه".
"تأجيل العشاء غير الرسمي إلى موعدٍ لاحقٍ"، كما ورد في بيان السفارة السويسرية لا يعني إلغاءه، حتى لو كان المقصود بذلك إيجاد تخريجة لتفادي الإحراج الرسمي. غير أن محاولات قلب الطاولة على الطائف والمتمسكين به مستمرة للذهاب نحو مؤتمر تأسيسي وإيجاد نظام جديد للبنان لا يشبه وجه لبنان الرسالة في محيطه العربي. لكن هل طُبق اتفاق الطائف بعد 33 عاما على ولادته؟ أم أن التطبيق "الناقص" لبنوده ساهم في تعزيز مفهوم الانقسام بدل الوحدة الوطنية؟ والسؤال ألأهم الذي يطرح في ذكرى ولادته في 22 تشرين الأول 1989 ماذا بقي منه أو ماذا طُبّق منه؟
في كل مرة تصل الأمور الى عنق الزجاجة في حياتنا السياسية، تكثر الآراء حيال ما نُفّذ وما لم يُنفّذ من وثيقة الوفاق الوطني، ويذهب بعض اقتراحات الحلول الى الدعوة بخفّة الى نَسف الطائف من أساسه والذهاب الى مؤتمر تأسيسي، غير مُدرك للنتائج المدمّرة لهكذا توَجّه، وغير مكترث للأثمان الباهظة التي دفعها اللبنانيون قبل التوصل الى إقراره وخصوصا الجانب الميثاقي المتمثل في المبادىء العامة لاتفاق الطائف، والتي أصبحت تشكّل مقدمة الدستور، وهي باختصار تتحدث عن نهائية لبنان ككيان، وعروبته، ونظامه الديموقراطي البرلماني، وأنّ الشعب مصدر السلطات عبر المؤسسات الدستورية، ونظامه الاقتصادي الحر، والإنماء المتوازن، والعدالة الاجتماعية، ووحدة الأرض اللبنانية، وميثاق العيش المشترك. وكلها مُسلّمات إجماعية لا مساس فيها.
نعمة ونقمة
الكاتب السياسي فايز قزي يعتبر أن الطائف نعمة نظرياً لكنه نقمة عملياً. ويوضح لـ"المركزية" أن "الطائف كان حاجة ماسة وضرورية للبنان وشرطاً لاستعادة الجمهورية بشكلها الديموقراطي بعد أن كانت مقسمة إلى ولايات تحكمها ميليشيات، فكان أن أعاد الدولة إلى صيغتها المركبة من مبادئ محددة وردت في مقدمة الدستور".
أما في الأشياء التفصيلية التنظيمية، يضيف قزي، "فقد أعطي صورة أخرى لمن تولى تنفيذها أي سوريا والأطراف الداخليين الموالين لها والذين كانوا يتحكمون بمفاصل الدولة ويؤدون دور الحارس والمنفذ لرغبات المجتمعين العربي والدولي، وقد عمدوا إلى تحريف مواده. ومن هنا كان كتاب الوزير ألبر منصور بعنوان "الإنقلاب على الطائف".
لا ينكر قزي حصول "خيانة" في روح نص الطائف والإبتعاد من غاياته، ويشرح: "الطائف خلق مجال وساطة ووسيلة للخروج من الميليشيات المتناحرة بإسم الدين، ورسم خريطة الطريق للخروج من الدولة المقسمة بين الطوائف. لكن ما يطرح اليوم لا يتعدى مسألة إكمال مسيرة القضاء عليه".
وبين الممكن تعديله واللا ممكن في هذه الظروف، يضيف: "يسعى الثنائي حسن نصرالله ونبيه بري إلى تنفيذ أجندة إيران بتعديل النظام من خلال اتفاق الطائف، وهذا يعيدنا إلى ما كتبه الشيخ نعيم قاسم: "نحن لن نطبق نظامنا الإسلامي على لبنان بالقوة بل سنستعمل الوسائل الديموقراطية". ومن أبرز النقاط الموضوعة للخروج من الديموقراطية الثلاثية إلى الديموقراطية المطلقة، انتخاب رئيس للجمهورية مثلا من الشعب واعتبار ذلك بمثابة استفتاء شعبي لانتخاب رئيس شعبي، وهذا جزء من المخطط الإيراني الذي يسعى جاهدا إلى ضم لبنان "إلى الأمة الإسلامية التي نَصَرَ الله طليعتها في إيران". غير أن تمسك السعودية بالطائف واحتضانها إباه يبقى الضامن الوحيد لعدم المساس بجوهره.
ويختم: "الطائف بالنسبة إلى المملكة السعودية بناء متكامل ولا يمكن المس بأي حجر منه لأن من شأن ذلك أن يهدم البناء، والمملكة لن تقبل أي تعديل في بنوده وخصوصا في هذا الظرف حيث ان الهيمنة الإيرانية لا تقتصر على لبنان وحسب، إنما تشمل دولا أخرى في الشرق الأوسط . حتى الدول الأوروبية وسواها غير متكافئة اليوم للبحث في تعديل الطائف بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا. أما الساعون إلى تعديله في الداخل بأمر من إيران، فسيستمرون في المحاولة وقد تبقى كذلك، لكن ليس إلى ما شاء الله. ومن هنا أهمية انتخاب رئيس سيد مستقل قادر على أن يضرب بيده على الطاولة".