تعود مسألة الصلاحيات الى الواجهة مع كل انتخابات رئاسية، خصوصاً أن الطائف انتزع جزءاً كبيراً من صلاحيات الرئيس ووضعها في عهدة مجلس الوزراء، وهذا الامر ما زالت تعتبره فئة من اللبنانيين ظلماً بحقها وتسعى الى تغييره.
وتقاسم السلطة المبني على الصيغة الطائفية ارتد سلباً على الدستور وذلك لأنه جعل من المحال على رئيس السلطة التشريعية، مثلاً، بما هو رأس سياسي لطائفة، أن يمتنع من التدخل لمصلحة طائفته في عمل السلطة التنفيذية رغم النص في الدستور على فصل السلطات. كما أن هذه الصيغة تؤدي إلى وقوف رأسي السلطة التنفيذية، لأنهما رأسان سياسيان لطائفتين، أحدهما في وجه الآخر، وتدخلهما في تجاذب متكرر تراوح نتائجه ما بين تأخير الحلول أو تجميدها وبين مقايضة بين قرار يرجح كفة بقرار يرجح كفة أخرى.
عدة مواد دستورية خضعت للتعديل كان لها الاثر المباشر على صلاحيات رئاسة الجمهورية، بموجب المادة 17 كانت السلطة الاجرائية "تناط برئيس الجمهورية، وهو يتولاها بمعاونة الوزراء، وفقاً لاحكام الدستور". وفي الطائف عدلت هذه المادة، وأصبحت "السلطة الاجرائية منوطة بمجلس الوزراء، وهو يتولاها وفقاً لاحكام هذا الدستور".
– بموجب المادة 18 كان "لرئيس الجمهورية ومجلس النواب حق اقتراح القوانين". في الطائف سُحب هذا الحق من رئيس الجمهورية، وأصبح "لمجلس النواب ومجلس الوزراء حق اقتراح القوانين، ولا يُنشر قانون ما لم يقرّه مجلس النواب".
– بموجب المادة 33 كان لرئيس الجمهورية قبل الطائف أن "يدعو مجلس النواب الى عقود استثنائية". وبعد التعديلات أصبح "لرئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة، أن يدعو الى العقود الاستثنائية".
– المادة 49 من الدستور المتعلقة بانتخاب رئيس الجمهورية تفيد أن ولاية الرئيس مدتها "ست سنوات، ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته، ولا يجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية ما لم يكن حائزاً الشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح". وفي التعديلات أضيفت الى هذه المادة أيضاً فقرة تؤكد أنه "لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الاشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم، أو تاريخ إحالتهم على التقاعد".
– بموجب المادة 52 من دستور ما قبل الطائف كان رئيس الجمهورية "يتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها، ويطلع المجلس عليها حينما تمكنه من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة". بعد الطائف بقي رئيس الجمهورية يتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولية وإبرامها، لكن "بالاتفاق مع رئيس الحكومة، ولا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء. وتطلع الحكومة مجلس النواب عليها حينما تمكنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة".
– بعدما كان "رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء ويسمّي منهم رئيساً ويقيلهم ويولي الموظفين مناصب الدولة، ما خلا التي يحدد القانون شكل التعيين لها على وجه آخر" قبل الطائف، جاء تعديل المادة 53 ليسحب منه هذه الصلاحية، ويسمح له "بتسمية رئيس الحكومة المكلف، بالتشاور مع رئيس مجلس النواب، استنادا الى استشارات نيابية ملزمة، يطلعه رسمياً على نتائجها".
كذلك عليه أن "يصدر، بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء، مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم"، (وبعد موافقة ثلثي أعضاء الحكومة بموجب المادة 69)، كما يمكنه أن "يدعو مجلس الوزراء استثنائياً، كلما رأى ذلك ضرورياً، بالاتفاق مع رئيس الحكومة".
وتركت له هذه المادة أن يصدر "منفرداً" مرسوم تسمية رئيس مجلس الوزراء، والمراسيم بقبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، وإحالة مشاريع القوانين التي تُرفع إليه من مجلس الوزراء على مجلس النواب، واعتماد السفراء وقبول اعتمادهم، وترؤس الحفلات الرسمية، ومنح الاوسمة والعفو الخاص بمرسوم، وتوجيه رسائل الى مجلس النواب عندما تقتضي الضرورة، وعرض أي أمر من الامور الطارئة على مجلس الوزراء من خارج جدول الاعمال.
– قبل الطائف كان يجب أن يشترك مع رئيس الجمهورية في التوقيع على مقرراته، الوزير أو الوزراء المختصّون، ما خلا تولية الوزراء وإقالتهم قانوناً. وبعد الطائف عُدلت المادة 54 لتوجب أن يشترك مع رئيس الجمهورية في التوقيع على مقرراته "رئيس الحكومة والوزير والوزراء المختصّون، ما خلا مرسوم تسمية رئيس الحكومة، ومرسوم قبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة"، وأضافت إليها وجوب "اشتراك رئيس الحكومة في التوقيع على مرسوم إصدار القوانين".
– بموجب المادة 55 من الدستور كان يحق لرئيس الجمهورية أن "يتخذ قراراً، معللاً بموافقة مجلس الوزراء، بحلّ مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة". وجاءت تعديلات الطائف لتربطها بالحالات المنصوص عليها في المادتين 65 و77 من الدستور، و"يعود لرئيس الجمهورية عندها الطلب الى مجلس الوزراء، حل مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة. فإذا قرر مجلس الوزراء بناءً على ذلك حل المجلس، يصدر رئيس الجمهورية مرسوم الحل". وهذا يعني أن رئيس الجمهورية يبقى رهن موافقة مجلس الوزراء على طلب حل مجلس النواب.
– المادة 56 المتعلقة بنشر القوانين أعطته، بعد تعديلات الطائف "حق الطلب الى مجلس الوزراء إعادة النظر في أي قرار من القرارات التي يتخذها المجلس، خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ إيداعه رئاسة الجمهورية. وإذا أصر مجلس الوزراء على القرار المتخذ، أو انقضت المهلة دون إصدار المرسوم أو إعادته، يعتبر القرار أو المرسوم نافذاً حكماً ووجب نشره".
– المادة 57 نصّت بعد الطائف على "حق رئيس الجمهورية طلب إعادة النظر في القانون مرة واحدة ضمن المهلة المحددة لإصداره"، مضيفة شرط "بعد إطلاع مجلس الوزراء (...) وفي حال انقضاء المهلة دون إصدار القانون أو إعادته يُعتبر نافذاً حكماً ووجب نشره".
– المادة 58 أضافت التعديلات إليها وجوب إدراج كل مشروع قانون تقرر الحكومة كونه مستعجلاً "في جدول أعمال جلسة عامة لمجلس النواب، وتلاوته فيها، ومضيّ أربعين يوماً دون أن يُبتّ به"، يمكن عندها رئيس الجمهورية أن يصدر مرسوماً قاضياً بتنفيذه بعد موافقة مجلس الوزراء.
– ولكون السلطة الإجرائية نيطت بمجلس الوزراء، فقد تحوّلت صلاحية دعوة مجلس النواب الى عقد استثنائي للبت نهائياً في شأن مشروع الموازنة، من رئيس الجمهورية منفرداً بموجب المادة 86 من الدستور، باتجاه اتفاقه مع رئيس الحكومة على توجيه هذه الدعوة، بموجب النص الجديد للمادة، ونيط كل ما كان للرئيس بمجلس الوزراء.
يقول الاستاذ الجامعي الدكتور محمد عبد الله إن هناك من يرى أن صلاحيات رئيس الجمهورية لم تتبدل جذرياً بعد التعديلات الدستورية؛ وبالتالي فإن هذه الصلاحيات تمكنه من القيام بدور فاعل في ضبط عمل المؤسسات وقيادة النظام؛ وهناك فريق من اللبنانيين، أغلبيته مسيحية، يطالب بالمشاركة الفعلية في الحكم لأنه يرى أن اتفاق الطائف سلب معظم الصلاحيات الأساسية التي كان يتمتع بها رئيس الجمهورية وبالتالي أصبح دوره شكلياً.
لكن في الواقع، إن الرئيس لا يتمتع بالصلاحيات التي كانت له قبل التعديل الدستوري، ولم يجرد منها كاملة. فالتعديل وزّع الصلاحيات بين رئيسي الجمهورية والحكومة بشكل متوازن نسبياً. فالأول يتمتع بصلاحيات يمارس معظمها بالمشاركة مع رئيس الحكومة.
يضيف: إن أهم صلاحية لرئيس الجمهورية بعد التعديل الدستوري هي الموقع الجديد الذي بات يحتله، أي إنه أصبح رئيساً للدولة لا للسلطة الإجرائية، وهو رمز وحدة الوطن، والساهر على احترام الدستور، والمحافظ على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه. وهو بحكم موقعه هذا يجب أن يكون مرجعية وطنية دستورية. ولكي يؤدّي هذا الدور يجب أن يتمتع بالقدرة التي تمكنه من ضبط عمل المؤسسات.
يتابع: بما أن النظام اللبناني هو نظام برلماني أناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء مجتمعاً، وقلص صلاحيات رئيس الجمهورية التي يمارس معظمها بالاتفاق مع رئيس الحكومة؛ لذا ستكون ممارسة رئيس الجمهورية لصلاحياته صعبة إن لم يكن متفاهماً مع رئيس الحكومة. ومن بين مظاهر التدخل المؤثر الذي يقوم به رئيس الجمهورية على سبيل المثال لا الحصر دوره في تسمية رئيس مجلس الوزراء وتوقيعه على مرسوم تأليف الحكومة، الذي لا يتم إلا بعد توافقه على التشكيلة الحكومية مع رئيس مجلس الوزراء.
ويرى أن الصلاحيات التي لا يزال رئيس الجمهورية يتمتع بها لا تمنحه سلطة تخوّله تنفيذ برنامج انتخب على أساسه، ولا تلزم الحكومة التي تتولى السلطة الإجرائية بتنفيذ هذا البرنامج. فتشكيل الحكومة يأتي نتيجة استشارات ملزمة لا وفق رغبة رئيس الجمهورية وإرادته. وهكذا لا يستطيع الرئيس تنفيذ مشروعه إلا إن تبنّى مجلس الوزراء هذا البرنامج.
وأورد بعض الثغرات الدستورية التي رافقت التعديلات الدستورية والتي تعوق عمل المؤسسات و"تكبّل" يدي رئيس الجمهورية في تعاطيه مع بعض الأزمات التي قد تعانيها المؤسسات الدستورية؛ ومنها:
– أن المادة 53 تنص على حق رئيس الجمهورية في تعيين الوزراء بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء: إن هذه المادة تتضمّن فقرتين متناقضتين. الأولى تلزم رئيس الجمهورية بتكليف من تختاره الأكثرية النيابية لتشكيل الحكومة. وهذا يفترض إطلاق يده في تأليفها وهو المسؤول عن سياستها أمام البرلمان. والثانية تجعل رئيس الجمهورية شريكاً كاملاً في تأليف الحكومة مع الرئيس المكلف. إن هذه الصيغة هي مشروع خلاف خطير بين رئيسي الجمهورية والحكومة في حال عدم اتفاقهما على تشكيل الحكومة، لأن الدستور لم ينصّ على آلية معيّنة لحسم الخلاف بينهما الذي سيؤدي الى أزمة حكم.
– أن النص الدستوري يمنع رئيس الجمهورية من حق دعوة مجلس الوزراء الى الاجتماع استثنائياً كلما رأى ذلك ضرورياً، إلا بالاتفاق مع رئيس الحكومة. فما العمل إن لم يحصل الاتفاق بينهما؟... عندها يعجز رئيس الجمهورية عن دعوة المجلس للانعقاد في حال بروز الأزمات، رغم كونه الساهر على احترام الدستور، والمحافظ على استقلال البلاد والقائد الاعلى للقوات المسلحة. فالضرورة قد تقضي بدعوة مجلس الوزراء للانعقاد دون أن يكون رئيس الحكومة موافقا. وهذا النص بحاجة الى تعديل لحسم الخلاف المحتمل بين الرئيسين والذي يزيد الأزمة تعقيداً.
– لم يلحظ النص الدستوري (المادة 53) حلاً لموضوع عدم تمكن رئيس الحكومة المكلف من تشكيل الحكومة خلال فترة زمنية معقولة. إن عدم تشكيل حكومة خلال مهلة زمنية معيّنة يؤدي الى تفاقم الأزمات.
كذلك لم يلحظ النص مخرجاً للخلاف بين رئيسي الجمهورية والحكومة على إقالة الوزراء إذا أصرّ كل منهما على موقفه.
– أن المادة 54 من الدستور تنص على مشاركة رئيس الحكومة والوزراء المختصين في التوقيع على مقررات رئيس الجمهورية. فما العمل إذا امتنع هؤلاء عن التوقيع؟
– يحق لرئيس الجمهورية توجيه رسائل الى مجلس النواب عندما تقتضي الضرورة، يبدي فيها رأيه في الامور العامة وتوجيه النصح بوصفه رأس الدولة. والسؤال هو ماذا يفعل إذا لم يُستجب لنصائحه؟
– الالتباس في النص الدستوري الذي جعل رئيس الجمهورية قائداً أعلى للقوات المسلحة، وأخضع، في الوقت نفسه، هذه القوات لسلطة مجلس الوزراء.
ويعتبر أن طبيعة وتركيبة البنية السياسية للنظام اللبناني القائمة على توازنات دقيقة بين الطوائف والزعماء، والقائمة على المحاصصة وتقاسم السلطات، تفرض أن يكون القرار السياسي قراراً جماعياً لا يعالج المشكلات جذرياً، لأنه يصدر نتيجة مساومات بين مختلف المكونات ذات المصالح والرؤى المتضاربة، الامر الذي يؤدي الى تعطيل قواعد النظام البرلماني، ويقيّد قدرة رئيس الجمهورية على تنفيذ رؤيته لحل صراع داخلي ما.
ويشير الى ظاهرة امتلاك الأقلية "الثلث الضامن" أو "الثلث المعطل" في تشكيلة الحكومة، وهذا الموضوع أثير في عام 2006 بعد استقالة الوزراء الشيعة من حكومة الرئيس السنيورة، عندما طالبت المعارضة المؤيدة للرئيس لحود بأن تتمثل بنسبة الثلث زائداً واحداً لتتمكن من تعطيل قرارات الأكثرية. وفي حال الأخذ بهذا الاتجاه، فسيؤدي ذلك إما الى شلل المؤسسات أو يسقط كل آليات المحاسبة بين أكثرية تحكم وأقلية تعترض. وهذا من شأنه أن يعطل انتظام عمل المؤسسات الدستورية ويقلص دور رئيس الجمهورية في ضبط أعمالها.