اتخذ الاتفاق السعودي-الإيراني، بُعداً حقيقياً متصلاً بملفات المنطقة، بما للبلدين من حضور وتأثير في أغلبية الدول، ومن هذه البلدان لبنان، بحيث من المتوقع أن يكون تأثيره كبيراً، ولو كان مؤجّلاً نظراً لحضور البلدين في السياسة الداخلية.
وفي واقع الحال إن الخصومة الإقليمية بين السعودية وإيران رسمت معالم معظم الصراعات التي دارت رحاها في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2011. فقد خلّفت حرباً في اليمن في عام 2015، وتسبّبت أيضاً بحالة مزمنة من انعدام الاستقرار في العراق، وأشعلت أزمة مديدة في لبنان ما زالت مستمرة حتى وقتنا الحاضر.
وعلى الرغم من تأكيد الاتفاق السعي نحو وقف التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، وتعزيز السلم والأمن الإقليميين والدوليين، هناك إجماع على أن هذا الاتفاق يساعد على كسر حالة الجمود السياسية في لبنان، إذ تُفضي مثل هذه الاتفاقات والتفاهمات الإقليمية غالباً إلى فكفكة العقد التي تعطّل العملية السياسية، وإلى توفير الحوافز المالية اللازمة والمُسهّلة لذلك. فهذا ما حدث عام 2009 عَقِب التقارب السعودي السوري، قبل أن تندلع الأحداث في سوريا ويتعطل الاتفاق وتدخل المنطقة حقبة الصراعات.
حتى الساعة يتخذ جميع الأطراف في لبنان وضعية المراقبة، والانتظار، ولم يبادر أي طرف بأي خطوة الى الوراء بانتظار التطورات المقبلة.
وكما الجميع، يترقب المسيحيون بتنوّعهم آثار هذا الاتفاق، فهم أيضاً بنوا تحالفات إقليمية ضمن هذا المربّع، فأضحى جزء منهم حليفاً رئيسياً لإيران، وجزء آخر يُعدّ من الحلفاء الاستراتيجيين للسعودية.
وفي ظل الانهيار الاقتصادي الكبير، وغياب الحلول، بدأت تجتاح البيئة المسيحية نزعة تقسيمية تغذيها خطابات متبادلة حول موقع كل طائفة ومكتسباتها، كما اشتعلت الخلافات داخل المحاور نفسها، فعلى مستوى فريق "حزب الله" حليف إيران، وجد الأخير نفسه في مأزق مع حليفه المسيحي "التيار الوطني الحر"، الذي بدأت علاقته تتراجع مع "حزب الله" نتيجة ملفي الرئاسة والحكومة، مثله على المحور الحليف للسعودي حيث لا اتفاق بين القوات اللبنانية من جهة والكتائب والمستقلين من جهة أخرى على عدد كبير من الملفات، ما يجعل القضيّة بالغة التعقيد في هذه البيئة بالذات، هذا كله على وقع فشل جميع المبادرات التي قامت بكركي وغيرها من الشخصيات لمحاولة إصلاح الأمور، وتجنيبهم الوقوع ضحية أي اتفاق.
وفي هذا الإطار يرى الوزير السابق كريم بقرادوني أن الاتفاق الإيراني-السعودي ستكون له نتائج إيجابية على لبنان عموماً، وخصوصاً أنه أتى بين أكبر دولتين مؤثرتين على مستوى الدول العربية.
وبرأي بقرادوني إن المسيحيين هم جزء من لبنان وجزء من هذه المنطقة وأيّ اتفاق سيؤثر عليهم في بلدانهم ومن ضمنها لبنان، مشيراً الى أن كل وفاق خارجي ينعكس بالحدّ الأدنى على وفاق داخلي لبناني، وكل خلاف بين دول الإقليم يتأثر به اللبنانيون والمسيحيون.
ويلفت في حديث لـ"النهار"، الى أن المسيحيين دائماً يدفعون ثمن الخلافات في الإقليم، وما يجري راهناً خير دليل، وكل اتفاق سيكون من دون شك لمصلحتهم أقله على المستوى الأمني والاقتصادي وهذا ما يُعدّ الأهم على حياة الناس في الوقت الراهن.
ويذكر بقرادوني أن التاريخ اللبناني يشهد أن لبنان مرّ بفترات ذهبية في مراحل الاتفاقات الإقليمية والدولية، ودفع أثماناً غالية في الحرب وفي السلم في فترات النزاعات وهذه أصبحت من المعادلات الثابتة.
ويشدد على أن "الدور المسيحي في لبنان يصنعه المسيحيون بأنفسهم، وليس الدول الداعمة، وهم لديهم القدرة على التكيّف مع التغيّرات وقراءتها"، لافتاً الى أنه "كما الصين جمعت أكبر قوتين سنية وشيعية في العالم، يستطيع المسيحيون في لبنان أن يمارسوا هذا الدور في لبنان".
يعترف بقرادوني بأن "الدور المسيحي في لبنان كبر في المرحلة الأخيرة، نتيجة الخلافات بين القوتين الإسلاميتين، وخصوصاً عندما كان هناك توازن بينهما وكلتاهما بحاجة الى حليف قويّ ليثبت موقعه، ولكن في حالات الاتفاق عليهم توحيد مواقفهم لإعادة التوازن وأن يكونوا بمثانة الضامنين للتقارب للحفاظ على دورهم".
نظرة بقرادوني المتفائلة للدور المسيحي في ظلّ الاتفاق لا يجاريه فيها، الأستاذ الجامعي وعضو قرنة شهوان سابقاً توفيق الهندي، مع اعترافه بأن الاتفاق له تأثير إيجابي على بعض الملفات الاساسية اللبنانية كانتخاب رئاسة الجمهورية وتشكيل الحكومة وربما استحصال لبنان على دعم مالي يخفّف من حدة أزمته الاقتصادية.
لكنه في المقابل يقول لـ"النهار": لا شيء سيتغيّر على مستوى السياسة العامة، فسيبقى لبنان تحت وصاية "حزب الله" وبالتالي تحت احتلال إيراني مقنّع، وتحت رحمة طبقة سياسية مافياوية محميّة من "حزب الله".
ويرى الهندي أن "الأخطر في هذا الاتفاق أن "حزب الله" وجماعته يمكن أن ينقلوا جهاديتهم باتجاه إسرائيل وبالتالي هناك خطورة من اندلاع حروب يدفع ثمنها كل اللبنانيين لا المسيحيون فقط".
ويشدّد الهندي على أن المسيحيين يحافظون على تأثيرهم في دولة قوية وذات سيادة، لكن في ظل الاتفاق سيكون القرار عند الرعاة الإقليميين، الذين لن يعملوا على بناء دولة وبالتالي لن تكون هناك أي نتائج إيجابية طويلة المدى لهذا الاتفاق لا على المسيحيين ولا على اللبنانيين عموماً".