النهار

مَن يقطع الطرق اليوم... الثورة أم الأحزاب؟
محمود فقيه
المصدر: النهار
تدرك الأحزاب المتمرّسة بالحكم والسلطة مزاج جمهورها جيّداً. هي ماهرة في إثارة غرائزه حين تدعو الحاجة ولكنّها تعرف أنّ مناصريها يبحثون عن متنفّسٍ يعبّرون به عن امتعاضهم ممّا هو مَعيش
مَن يقطع الطرق اليوم... الثورة أم الأحزاب؟
من أمام مصرف لبنان - تصوير: حسن عسل
A+   A-

يترقب المواطن اللبناني بحذر الوضع العام. أجواء من الصمت المريب تخيّم على الشوارع. السيارات قليلة على الطرق، على عكس العادة. الدولار لامس الستين ألف ليرة، وصفيحة الوقود تخطّت المليون ليرة. الأزمة اليوم مستفحلة أكثر ممّا سبق انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.

 

حديث الشارع يختلف عن حركته. تراجع القدرة الشرائيّة وانهيار العملة أبرز المواضيع التي تدور على ألسنة الناس. لكن ذلك كلّه لم يكن محفّزاً كي يعود المتظاهرون إلى الطرق. هناك أسباب متشعبة، أبرزها غلاء أجرة النقل، إذ إنّ عائلة مؤلفة من ثلاثة أشخاص بحاجة إلى مبلغ قدره ثلاثمئة ألف ليرة على الأقلّ بدل مواصلات إذا قرّرت الالتحاق بتحرّك مركزيّ في بيروت، هذا إن كانت تقطن في العاصمة أصلاً.

 

يتفهّم القيّمون في "مجموعات الثورة وأحزابها" أوجاع الناس، لذا يدعونهم إلى التحرّك ضمن مناطقهم وأمام المراكز الرسمية والبلدية، ولكن من دون أيّ دعوة لقطع الطرق. إذن من يقطع الطرق؟ أو ممّا لا شكّ فيه أنّ حالة الخمول الحالية تستوجب على مَن نشط في مراحل سابقة نقداً ذاتيّاً، خاصّة لكون الدّعوات للتجمّع اليوم لا تحظى بالقبول الشعبيّ المطلوب. هو مؤشر إلى أنّ المزاج العام تبدّل، وآليّات العمل يجب أن تكون مختلفة. ومن العوامل التي أثرت على حراك الشارع الدسائس المتنقلة على منصّات التواصل الاجتماعي عن انفلات أمنيّ وتظاهرات مخطّط لها وانفجار اجتماعيّ، فتلك أسباب تخيف من لديه نيّة التظاهر، ويخشى أن يخسر أطرافه أو عينيه أو حتى حياته.

 

تدرك الأحزاب المتمرّسة بالحكم والسلطة مزاج جمهورها جيّداً. هي ماهرة في إثارة غرائزه حين تدعو الحاجة، ولكنّها تعرف أنّ مناصريها يبحثون عن متنفّسٍ يعبّرون من خلاله عن امتعاضهم ممّا هو معيش.

 

وكمن يضع حبالاً حول حلبة المصارعة، تحدّد التنظيمات مساراً لحركة شارعها. برعت الأحزاب الحاكمة في أولى ليالي تشرين الثورة بالتظاهر وقطع الطرق قبل أن تنكفئ وتتنكّر بزيّ مجموعات "ثورية".

 

ما الفارق في أن يلامس الدولار الخمسين ألف ليرة أو أن يتخطّى الستين؟ لا شكّ في أنّ حجم الغضب يزداد! ولماذا يعبّر هذا الغضب عن نفسه في الشارع حين يتّخذ القاضي طارق بيطار قرارَ عودته للإمساك بملفّ التحقيقات في قضيّة تفجير المرفأ؟

 

تدفع الأحزاب ببيئتها الحاضنة إلى الشارع للتظاهر، وقد تدفعها إلى أماكن أبعد من المقرّ المركزيّ لها، حيث تمارس سلطة الحكم الذاتيّ. تراهم متظاهرين في الساحات متنكرين بزيّ اليسار أحياناً أو بحراك المناطق في مرّات أخرى.

 

وللإنصاف، إنّ الناس الذين يخرجون إلى الشوارع إن دفعت بهم أحزابهم أم لا، لا يسقط ذلك عنهم صفة الجوع والانتفاضة، إذ ما من أحد يستطيع الإنكار أنّ الفقر بات يقرع كلّ باب في لبنان.

 

ولكنّ حركة الاحتجاج إذا تفلّتت من أيدي الترسانات السلطوية، فيجب أن يكون هناك من يتلقّفها، لذا فإنّ على ناشطي الثورة أن يعرفوا أن الناس لن يلتحقوا بهم إن لم يكن لديهم شعار واضح وجذاب ومحدّد، يختلف عمّا مضى، ولا ينفي ما سبق من مواقف.

 

هذا من دون أن ننفي أنّ لحاكمي لبنان أدوات أخرى تختلف عن افتعال تحرّك تنكّريّ عفويّ في الشارع بغية الابتزاز السياسيّ. في أيار 2008، استخدمت قوى 8 آذار رئيس الاتّحاد العماليّ العام حينها غسّان غصن، الذي صدّر يومها دعوة إلى تحرّك نقابيّ وانقلب التحرّك العمّالي إلى اجتياح مسلّح للعاصمة.

 

لا يختلف بشارة الأسمر عن خلفه، بل يستند هذه المرّة إلى مجموعة من "النقابيين" المؤازرين له في أيّ تحرّك، وعلى رأسهم نقابات النقل وأصحاب الأفران.

 

وكما في النقابات، كذلك في أصحاب القضايا، كقضية المودعين حيث شكّلت بعض الأحزاب جمعيّات لهم، وأفردت لممثليها مساحة إعلاميّة على القنوات.

 

يتحفّظ ناشطون في ثورة تشرين عن الحديث عن عملية قطع الطرق. هم يدركون حجم هذا الملفّ في الماضي وكم شكّل ضغطاً وأدّى إلى سخط شعبيّ في بعض الأحيان، ومادة اتّهام بقتل الناس، استغلتها قنوات الثنائيّ الإعلامية افتراءً.

وأحياناً كان المنتفضون يفقدون السيطرة على الشوارع المقطوعة، ولا يعرفون من كان يقطعها، خاصّة أنّ التواصل لم يكن بالمستوى المطلوب بين الساحات، حيث إنّ المتحكّمين بين المناطق ما كانوا على تواصل وتخطيط في ما بينهم في الأغلب. لكن باتوا اليوم مدركين أكثر للأرض، ويعرفون من يندسّ بينهم ليفتعل المشكلات، وتراهم يتفرّقون عن الساحة حين تحضر هذه الجماعات إلى أماكن الاعتصام، ويبرّرون إخلاءهم الساحة بتحرّك "الأجهزة".

 

اليوم، لا إمكان لثوار 17 تشرين بقطع طرقات لبنان. قد يسيطرون على بعض النقاط ذات الطابع العاطفي، كجسر الرينغ، الصيفي، البرلمان، مصرف لبنان، ساحة النور، وربما مناطق أخرى في الجنوب والجبل وشرق بيروت، إلّا أنّهم ليسوا هم الذي يجرؤون على الحرق والتكسير وأذيّة البشر أو إهانتهم. الشارع اليوم متاح لمن يريد التحرّك والثورة تنظر وتنتظر.

 

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium