المعذرة من الرئىس الاستاذ نبيه بري، ومن سائر دعاة استعجال انشاء "الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية"، اذا كانت طروحاتهم والمساعي لا تقنعنا، ولا نحن نظن انها تقنع احدا سوانا خارج حلقة "العجقة الدستورية" الطائفة على نفسها منذ "استشراع" دستور الجمهورية الجديدة! بل واكثر... المعذرة ان نحن تساءلنا، بروح ديموقراطية وبجدية ومسؤولية، اذا كان الدعاة انفسهم قد توصلوا فعلا الى اقناع انفسهم بصوابية الدعوة هذه وامكان السير بها الى ما هو احسن حالا وافضل مآلاً من دستورية "الترويكا"، مثلا، ناهيك بالبقية الباقية من مؤسسات "دولة المؤسسات" - وما ادراك اين صارت هذه المؤسسات وبأية حال تعود الينا اعيادها! كلام نقوله بما يشبه الوقاحة - ونعترف، لمَ لا؟! - لا لقلة ايماننا بضرورة الغاء ما يسمونه "الطائفية السياسية"، بل على العكس من منطلق يقين تاريخي راسخ ان هذا الامر الخطير يستحق معالجة تكون في مستواه... بدل التلهي بأشباه المعالجة، ومن جانب اناس وهيئات انجبتهم بالذات الطائفية التي يدّعون ارادة الغائها... فبأي منطق تراهم يتمنطقون؟... وهل يريدوننا ان نصدّق انهم، هكذا فجأة، يستنحرون النظام الذي افرزهم والذي بموجبه، وبوحي مصالحه يحكمون؟
ومع ذلك، وعلى رغم كل ذلك، نريد ان نتعامل مع الموضوع بمنتهى العقلانية والموضوعية، فنطرح امام السادة الغلاة بعض المسائل التي نشك ان لديهم عنها اجوبة تقنع الذين تنص "وثيقة الوفاق الوطني" على اختيار اعضاء الهيئة الميمونة من بينهم... عنينا "الشخصيات السياسية والفكرية والاجتماعية" القادرة على "اقتراح الطرق الكفيلة بالغاء الطائفية"... وذلك لانه من البديهي لدينا ان تكون للكلمات المختارة في نص الوثيقة كل معانيها وابعادها. مثلا؟ مثلا: ان تكون "الطرق الكفيلة" حقا كفيلة... اي ان تكون مجموعة تدابير عملية متكاملة، منطلقة من نظرة شاملة - ولا نقول عقيدة - الى الموضوع، مبنية على مفاهيم "فكرية" و"اجتماعية" (والكلمتان من الوثيقة) تجري ترجمتها في نصوص دستورية واشتراعية قابلة للتنفيذ على نحو يلزم الامة في كلّيتها، جيلا بعد جيل ونظاما عضويا بعد نظام. وهذا يعني استطرادا الا تكون "الطرق الكفيلة" مجموعة شعارات جوفاء نَصِفُها، رياءً، بالمبادىء وهي من نوع العموميات البدائية المجمّلة التي تحفل بها برامج الاحزاب والهيئات في محاولة مهذبة لاخفاء ما بينها من اختلافات في التكوين وخلافات في التصرّف!!! وحتى نسمّي الامور باسمائها، ولا وجل ولا خجل، نقول ونعني ان "الطرق الكفيلة" بالغاء الطائفية يجب ان يكون مصدرها ومن الممكن ان يضعها، ذوو العقول والنفوس التي لم تدنّسها حروب الطوائف واحزاب الطوائف وميليشيات الطوائف، والمجازر التي تسبب بها هؤلاء، او قام بها اولئك، والتي تقاسموا جميعا مغانمها والاسلاب... ثم مضوا، هم ومن حرضهم ومن حرّكهم، (ومن استزلمهم ولو بحجة حمايتهم) يتصنعون المصالحات راقصين على اشلاء الارض المحروقة، كأن شيئا بينهم لم يكن، ولا كان لأحد منهم دور لا في الهدم ولا في التهجير، ولا في اقامة اسواق النخاسات العقائدية، بديلة من العمران الذي نعم به لبنان والمدنية التي كان يبني، حجراً حجراً وكتاباً كتاباً ومؤسسة للطموح تلو المؤسسة! الى اين اذاً من هنا؟ الى اليأس من الغاء الطائفية السياسية، فاليأس من "الوفاق الوطني" الذي يمنعه النظام الطائفي، وقد دانه الدستور ولو بني عليه الى حين؟ لا، كلا... بل العكس. ففي لبنان قوى وشخصيات حوارية حقيقية هي التي تنطق اليوم بالحق الوطني وتلتزم وحدة الحياة المشتركة... ولكنها هي بالذات القوى الممنوعة من تمثيل الامة والشعب، بل من تمثيل الطوائف - نعم، الطوائف التي لا نظن عاقلا يقول ان الغاء "الطائفية السياسية" معناه الغاء تعدديتها ومنع تلاقي ثقافاتها المنبثقة كلها من ايمان بالله الواحد الاحد، ومن تقديسها للحقوق والحريات، التي منحها الله للانسان، فجاءت السياسات الطائفية وحروب الطائفيين تهدرها وتكفر بها، فتكفر هكذا بالله الذي تدّعي التحزّب له!!! اما بعد، ففي الزمن الذي يتزايد خطر التطرّف الديني على الدين بالذات، وينتشر الخوف بنسبة ما تتلبس السياسة - حكما ومعارضة - اشكال العنف والقمع... اية نماذج من حولنا يريدوننا ان نستلهم لنلغي الطائفية ولو بغيضة، والى اي اختبار يريدوننا ان ننتسب فنرتاح؟ في هذا الزمن الصعب، الحاجة ماسة الى تعزيز منابر الاعتدال والحوار، والى اختبار موائل التخاطب بالمحبة، بدل استعجال اللجان التي لا يمكن ان يُعطى لها الثورة على صانعيها وحروب صانعيها ومجالس صانعيها ومغانم سلطاتهم والاسلاب. في هذا الزمن الصعب، بل الرديء، مطلوب اولا ان يأخذ الناس الوقت الكافي للتوبة، بل للاقتناع بتوبة التائبين... وقتاً للغفران والنسيان، فالاطمئنان! ومطلوب، في السياق المباشر، الا يجيء "اقتراح الطرق الكفيلة الخ..." كأنه تتمة لمهرجان النفاق الدستوري في سبيل تكريس نظام ليس ثمة اجماع ولا توافق على نهجه ولا على اهدافه! وبتعبير اوضح واصرح مطلوب اولا وقبل اي شيء اخر ان يُعطى الشعب الحقيقي - الشعب الواحد الحقيقة، الموّحَّد المطامح والامال - مجال ممارسة حرياته في اختيار سلطات تتطلع الى المستقبل النيّر بدل ان تتجذر في مآسي الماضي وحاجات الذل وتبريراته! بعد ذلك، نؤلف كلنا معاً لجاناً... والارجح ان لا نحتاج الى هكذا لجان، فقد نلغي الطائفية السياسية استفتاء عفوياً، في تلاقٍ وحدوي صادق مطمئن... بل في تلاقٍ دستوري اقوى من كل "لجننة" وابقى من اي "استلجان"! فمهلكم ايها السادة الغلاة... ولا نستعجلنَّ تاريخاً لعله كان مكتوباً.