تبقى أبوّة "إعلان بعبدا" مستمرة نظراً لما حظي به من إجماع سياسي، ومن كل الأفرقاء، وإن تنكّر له البعض، لكنه حيّ يرزق ومفاعيله تتواءم والمرحلة الراهنة، حيث لا صوت يعلو على الدعوة للحوار، ولكن ما يجري راهناً هو "حوار طرشان".
بداية، لا بد من التذكير بما مرّ على البلد منذ بداية الحرب الأهلية منتصف سبعينيات القرن الماضي وما سُمي "حرب السنتين"، إلى سائر الحروب والاجتياح الإسرائيلي وحرب الجبل، إلى نزاعات بالجملة والمفرّق، وكانت تقابَل حينذاك بطاولات حوار ولقاءات من اللجنة الأمنية في "سباق الخيل"، إلى الاتفاق الثلاثي، وقبله زيارتا الموفدين الأميركي والفرنسي دين براون وكوف ديمورفيل، ولاحقاً لقاءات تحت تسميات وطنية وجبهات "إنقاذ" و"خلاص" و"جنيف" و"لوزان"، إلى أن جاءت اللجنة العربية الثلاثية من خلال الموفد الشهير الأخضر الإبراهيمي، وإلى أن جاء أيضاً اتفاق الطائف فكان الدستور والسلم الأهلي، لتصل مجدّداً دعوات في إطار جديد يتمثّل بالكونفيديرالية والمؤتمر التأسيسي، ومن ثم المثالثة واللامركزية الإدارية الموسّعة. وبمعنى أوضح، إنها جميعها، باستثناء الطائف، وُلدت ميتة، وكأنها لم تكن، ما يطرح السؤال: لماذا لم يتم الإلتزام بـ"إعلان بعبدا"؟ وهل ما زال قادراً على النهوض باعتباره مدخلاً للخلاص وبناء الدولة القوية والقادرة؟ وهذا الإعلان جاء ثمرة جهود الرئيس الأسبق ميشال سليمان، ونخبة من الدستوريين والحقوقيين الذين أنجزوه، ووافقت عليه في عام 2012 كل القوى السياسية مجتمعة، ولكن بعد أحداث المنطقة، وتحديداً الحرب السورية، تنصّل "حزب الله" من هذا الاتفاق بعد موافقته عليه، ليقول رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" الحاج محمد رعد "بِلّوه واشربوا مَيّتو".
من هنا، ثمة تساؤلات حول إعلان بعبدا، وأين أصبح، وخصوصاً ماذا يقول من كان لهم البصمة والدور في الوصول إليه، بعدما كلّفهم الرئيس سليمان بوضع خطوط عريضة وإنجاز هذا الإعلان، حرصاً منه على الحفاظ على البلد ووحدته ومؤسساته، ولا سيما أن الإعلان المذكور حمل عناوين يحلم بها أي لبناني للخروج من دوّامة الحروب والانقسامات، وأن تكون هناك دولة لا دولتان، وتحديداً أن الإستراتيجية الدفاعية، هي الابن الشرعي لإعلان بعبدا.
في السياق، المحامي ميشال قليموس، الذي كان من أبرز الذين صاغوا وأسهموا بإنجاز هذه الوثيقة التاريخية، يقول لـ"النهار" إن الرئيس سليمان طلب منه ومن السفير ناجي أبو عاصي، ضرورة الوصول إلى اتفاق يضمن البلد عبر مسلّمات وثوابت وأسس بإمكانها أن تؤدي إلى استقرار سياسي وأمني واقتصادي، وذلك يتناغم مع اتفاق الطائف، وعدم المسّ به، والذي جاء نتيجة إجماع لبناني ودولي وإقليمي، ومن هنا، فإن إعلان بعبدا، كان ثمرة توافق كل المكوّنات والقوى السياسية اللبنانية، التي توافقت عليه وعلى كامل بنوده، مشيراً إلى أن الأستاذ الكبير غسّان تويني اعتبر حينذاك أن إعلان بعبدا، "إنجاز ديموقراطي عبقري على مستوى الأنظمة البرلمانية".
أما لماذا حصل الانقلاب على هذا الإعلان، بعدما وقّع وتوافق عليه الجميع؟ يضيف قليموس قائلاً: يومها اندلعت الحرب السورية، وكان هناك فريق لبناني يقاتل إلى جانب قوى النظام، وحصلت تحوّلات في المنطقة، ومتغيّرات كان لها الأثر السلبي في الانقلاب على إعلان بعبدا من قبل فريق أساسي ليقول "بلّوه واشربوا مَيّتو"، وهذا لا يجوز، لأن هذه الوثيقة كانت ثمرة جهود مضنية، ولصالح كل اللبنانيين، وهو تضمّن نظرية التحييد لا الحياد، باعتبار أن التحييد قرار لبناني سيادي عبر الالتزام بالقضايا العربية، وفي طليعتها القضية الفلسطينية، مضيئاً على مسائل ذات أهمية، بحيث أُرسِلت وثيقة الإعلان يومها إلى السفير نوّاف سلام في الأمم المتحدة، واعتمدها مجلس الأمن كوثيقة رسمية، والأمر عينه في الجامعة العربية، وأصبح هذا الإعلان في عام 2013 ضمن مجموعة الدعم الدولي، وثيقة من وثائق القانون الدولي، لأهمية الإعلان وما تضمّنه من بنود مفصلية.
ويتابع قليموس: أما في ظل التوافق الذي حصل أخيراً من خلال عودة العلاقات الديبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران، والتطبيع العربي مع سوريا، فلماذا لا نفعِّل إعلان بعبدا من جديد، باعتباره يحمي وحدتنا الداخلية، ولا سيما في ظل ما آلت إليه الأوضاع من تدهور مريب على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، وترهّل الدولة وتفكّك مؤسّساتها؟ أي تعويم الإعلان، ولا سيما أنه لا يمسّ أي طرف، وثوابته من صلب اتفاق الطائف، وتكرِّس التوافق على قاعدة مقدّمة الدستور، وتحييد لبنان، وهذا برسم كل الأطراف السياسية مجتمعة، وبالأمس القريب كان هناك موقف لرئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل، طالب من خلاله بتحييد لبنان، أي إنه بند أساسي من إعلان بعبدا الذي استغرق إنجازه 140 جلسة من فريق عمل استراتيجي، دون أي مقابل، وكان ذلك يجري في صمت وهدوء.