في لحظات انهيار الدولة وسكرات موت مؤسّساتها يخرج على اليابسة مقاولون مقامرون وتجار عقارات من فصيلة "الحيتان البرية" حيث تلتهم جرافاتهم مساحات من الشاطئ من العريضة الى الناقورة، ويقضمون كل ما تصل إليه أيديهم وأسنانهم المدمّرة للبيئة وتكسير لوحات صخرية وتشويه معالم طبيعة رسمها الله. هذه عيّنة من التعديات على شاطئ الناقورة بتواطؤ من نافذين وجهات بلدية لا ترحم. وما يحصل في هذه البلدة لا يختلف عن تشويه شاطئ الدامور ونهر الكلب والبترون وغيره، في مشهد يوحي كأن السلطات المعنيّة تخلت عن مسؤولياتها الوطنية والأخلاقية. ما يحدث في لبنان من تشويه للشاطئ والاستيلاء على مشاعا0ت الدولة وأملاكها العامة لا يتصوّره عقل ولا منطق ولا دين في جمهورية الجنون التي لا مثيل لها في أربع رياح الأرض.
ومن آخر مسلسل الاعتداءات البحرية في منطقة اسكندرون العقارية في الناقورة، تقدّم صاحب العقار رقم 93 بطلب إعادة ردم في ملكه وحصل على إذن من وزارة الأشغال في كتاب موقّع من الوزير علي حمية في 20 أيلول 2022. وجاء في نصه أن "المياه البحرية قد غمرته بسبب العوامل الطبيعية مع مرور السنين". واشترطت الوزارة عدم التعدي على الأملاك العامة البحرية أو الخاصة المجاورة والتعهد بالمحافظة على جمال الشاطئ وعدم الإساءة الى البيئة وعدم تجاوز حقوق العقار على أن تجرى الأشغال والأعمال كافة تحت مراقبة مفرزة شواطئ لبنان الجنوبي والأجهزة المختصة. وفي اتصال لـ"النهار" مع حمية قال إنه "تم إيقاف الرخصة في الناقورة بناءً على بعض التجاوزات. ويعمل المالك على عقاره الخاص". وكلف المديرية العامة للنقل البري والبحري وضع تقرير فنّي عن واقع الحال على أرض العقار "ليُبنى على الشيء مقتضاه". وكان حمية بتاريخ 21 الجاري قد سطر كتاباً طلب فيه "اتخاذ الإجراءات الفورية اللازمة لمتابعة تدابير وقف الأعمال الجارية لاسترداد وإعادة ردم العقار 93 من منطقة اسكندرون العقارية لمخالفتها مضمون الترخيص المعطى... وبالتالي اعتبار الترخيص في حكم الملغى".
وجلب صاحب العقار كمّيات كبيرة وأطناناً من الصخور والحصى ووضع بلوكات جاء بها من الجبال والأودية ليطمر بها الصخور البحرية الطبيعية في جريمة موصوفة "وعلى عينك يا تاجر ويا بلدية" التي لم تكلّف نفسها عناء السؤال عن هذه الجريمة إن لم تكن متواطئة أو مشاركة فيها. ولم تمانع البلدية في كتاب صادر عنها في 1 أيلول 2022 السماح لصاحب العقار نور الخوري بـ"استرجاع كامل حدود عقاره".
وكان "الجنوبيون الخضر" قد اعترضوا على المشروع وشككوا في مضمون ما ورد في كتاب البلدية. ولم يقتنع ناشطون بيئيون بأن العقار قد غمرته مياه البحر "وكأنه مُسح قبل ميلاد السيد المسيح". ويعمل صاحبه اليوم على استرجاعه – هذا من حقه – لكنه لم يكتف بالمساحة المحدّدة له بل جرى التهام مساحة من الشاطئ العام والتمدّد نحو البحر إضافة إلى أن سكة القطار نحو الأراضي الفلسطينية لم تعد موجودة بفعل شريط من التعدّيات.
ويقول خبير بيئي إن أي استثمار يضرّ بالمواصفات البيئية على طول الشاطئ والساحل لا يمكن تنفيذه قبل دراسة الأثر البيئي حتى لو كان المشروع حصل على موافقة من وزارة الأشغال والبلدية والمحافظ. وإذا وُجدت آثار تاريخية يجب الوقوف عند رأي مديرية الآثار في وزارة الثقافة وكل تجاوز لذلك يكون استباحة للموارد الطبيعية حتى لو كان لأهداف تجارية وسياحية رخيصة بدليل ما حصل على جسر نهر الكلب الى الدامور والناقورة امتداداً الى جونية والبترون. وفي مشهد يدل على القفز فوق كل قوانين البيئة لم يكلف أصحاب المشروع في الناقورة أنفسهم التوجّه الى وزارة البيئة للحصول على تقرير عن الأثر البيئي لهذا المشروع الذي يشوّه الشاطئ ويطمر صخوره حتى لو كان صاحب المشروع يعمل ضمن حدود عقاره. ويقول الوزير ناصر ياسين لـ"النهار" إنه لم تجر مراجعة الدوائر المعنية في وزارته. وثمة مرسوم ينظم مثل هذه الأعمال على البحر وما حصل هو تجاوز لأصول الأثر البيئي.
وفي المناسبة، ما يحصل في الناقورة على البحر توسّع أيضاً الى أودية ومساحات أخرى، من دون أن يسأل نواب صور الأربعة عمّا يحصل في دائرتهم الانتخابية ومعرفة ما يحصل في الناقورة، حيث يتم الاستيلاء على الشاطىء العام وعلى أراضٍ من جراء هيمنة أفراد ومتموّلين، مع غضّ نظر لأكثر الأجهزة الأمنية والقضائية. ويتناسى هؤلاء أنه على شاطئ الناقورة وتراب الجنوب سقط مئات الشهداء وارتوت تربته بدماء مقاومين من يساريين و"حزب الله" و"أمل"، لم يكونوا يملكون سوى قمصانهم، ولم يُستشهدوا لتسجل تلك المساحات وتُصادر بأسماء منتفعين وسارقين ومقاولين بالمقاومة وجشعين لا يشبعون. ولا يشبه هؤلاء عناصر الدفاع المدني في كشافتي الرسالة والمهدي الذين يطفئون الحرائق بأيديهم وهم يحمون الجنوب. ويسجَّل هنا لناشطين ومتطوعين من كل الطوائف والأحزاب أنهم أكثر حرصاً من وزراء ونواب ومحافظين وقضاة وضباط ورؤساء بلديات من فئة المزوّرين المنتفعين الذين يرتكبون كل هذه الجرائم.
من الظلم تعميم هذا الحكم على الجميع، لأن وليد جنبلاط على سبيل المثال لا يقبل بكل هذه الاعتداءات. ولو نزع أحدهم غصناً من شجرة في محميّة أرز الشوف لأقدم على بتر أصابع يده.
ما يحصل في الناقورة والدامور والبترون وكل لبنان هو جريمة بكل المعايير لا تغتفر.
[email protected]