لم يكن غريباً أن يظلل الاستنكار العارم داخلياً وخارجياً ودولياً للتأخير والتجميد والعرقلة للمسار القضائي في ملف جريمة انفجار مرفأ بيروت الذكرى الثالثة لـ4 آب التي تجاوزت كونها نوعد استذكار للفجيعة الوطنية والإنسانية الى محطة ينبغي التوقف عند استجماع المواقف فيها للتدقيق في خطورة ترددات الصدمة التي أثارها ولا تزال يثيرها الاستقواء والتسخير والترهيب والتواطؤ الذي يخضع له القضاء في هذا الملف. ذلك أن الأيام الثلاثة الأخيرة ضجت بسيل المواقف من داخل وخارج حيال خطورة التجميد والشلل اللذين أصابا التحقيق العدلي القضائي في ملف المجزرة التي أحدثها انفجار المرفأ قبل ثلاث سنوات. ومع ذلك، وفيما توج يوم الذكرى أمس بالأصوات المدوية لأهالي الشهداء منادية بغضب متفجر ومعتمل بالعدالة واستئناف التحقيقات ووقف التدخل السياسي "الإجرامي" لمنع تحقيق العدالة وكشف الحقيقة، يعود كل شيء الى حاله ولا قبس تفاؤل بأي تبديل في واقع الاستقواء الذي فرضه فريق سياسي معروف على المسار القضائي واستسلم له الآخرون بلا أي قدرة على كسره.
إذا توج أحياء الذكرى بتجمع للمواطنين وأهالي شهداء الانفجار وجرحاه وعدد من الشخصيات السياسية بمسيرة انطلقت عصر أمس من أمام فوج إطفاء بيروت باتجاه تمثال المغترب مقابل مرفأ بيروت. وتقدم المشاركون أهالي الضحايا الذين رفعوا صور أبنائهم ولافتات تدعو الى "تحقيق العدالة ومحاسبة المتورطين"، الى جانب عدد من الشخصيات السياسية والنواب، من بينهم النائب مروان حمادة ممثلاً كلاً من رئيس كتلة "اللقاء الديموقراطي" النائب تيمور جنبلاط والنائب السابق وليد جنبلاط والنائب غسان حاصباني والنواب: الياس حنكش، نديم الجميل، ميشال الدويهي، ميشال معوض ومارك ضو. ووصل الى المكان عشرات المواطنين، الى جانب توافد العديد من مناطق عدة سلكوا جسر فؤاد شهاب سيراً على الأقدام باتجاه نقطة الاحتفال، في حين قطعت القوى الأمنية طريق فؤاد شهاب المؤدية الى وسط بيروت أمام حركة السيارات، وأبقت على المسلك المؤدي نحو الدورة مفتوحاً وسالكاً.
ورفع المشاركون في المسيرة الرايات السوداء واتشحوا باللباس الاسود، تعبيراً عن الحزن الشديد الذي تمثله الذكرى.
وتقدمت المسيرة عدد من سيارات فوج إطفاء بيروت التي أطلقت زماميرها وسط تأثر بالغ من المشاركين، الذين رفعوا لافتات تتهم الدولة بارتكاب الجريمة وعرقلة التحقيق، ولافتات أخرى تحمل المسؤولية للاحتلال الإيراني، الى جانب عدد من اللافتات التي تدعو الى تحقيق دولي في جريمة المرفأ وتدعو الى رفع يد المتسلطين السياسيين عن القضاء. وما أن وصلت المسيرة الى نقطة المهرجان، حتى بدأت تلاوة الكلمات التي شددت على "ضرورة محاسبة المتورطين والمسؤولين عن انفجار مرفأ بيروت"، وحملت الدولة والسلطة السياسية "مسؤولية ما حصل من دمار، الى جانب إعاقة عملية التحقيق وإصدار القرار الظني. وشددت على "أنّهم حاوَلوا عرقلة التحقيق بكلّ الوسائل، ولدينا مشكلة مع دفن الملفّ الأمر الذي يُريدونه ويسعون لتحقيقه". ولفتت إلى أنّ "التحقيق توقّف بفعل السلطة السياسيّة وبعض القضاة الذين يواكبونهم، وعلى الذين يُلاحقون أهالي الضحايا أن يُلاحقوا مَن دمرّ المرفأ وقتل الناس". كما شدّدت على أنّه "بوجود قاضٍ يواجه وأهالي يواجهون، سنصل إلى الحقيقة وإن أخذ الأمر بعض الوقت".
ومن أبرز الكلمات لوليم نون شقيق الشهيد جو نون اذ توجه متوعداً الوزراء السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس وقائلاً: "ستُحاسبون إنها السنة الثالثة التي نعدكم فيها بالمحاسبة والبريء لا يخشى العدالة". وقال أيضاً "الإرهابي معروف وهو مَن قتل منذ الـ 2005 حتى اليوم وهو مَن أدخل النترات فحزب الله إرهابي ولكن ليس وحده بل أيضاً كلّ مَن تقاعس في الدولة عن القيام بعمله كما يجب ومَن أرسل وفيق صفا إلى قصر العدل أكيد إرهابي". وشدد على "أن مطلبنا محقّ وعلى كلّ الأحزاب أن ترفع الغطاء عن جميع المتورّطين لتأخذ العدالة مجراها".
وتخلل المسيرة إشكال تخلله توتر وتضارب بين المشاركين في المسيرة مع وصولها الى أمام مرفأ بيروت وتوجّه وليم نون إلى المُشاركين الذين يُردّدون شعاراتٍ سياسيّة، بالقول: "السياسة برّا هون 4 آب وبس"!
وتبين أن الإشكال الذي حصل كان بين عدد من المتظاهرين والنائب سيزار أبي خليل والنائب السابق إدي معلوف على إثر استنكار مشاركتهما ومحاولة طردهما من بين التجمع ورشقه بعبوات المياه وهما غادرا فعلاً المكان على الأثر.
أما المواقف الخارجية من الذكرى فكان أبرزها لفرنسا، التي أكدت أنّها "لا تنسى" ضحايا انفجار الرابع من آب، معربةً عن تضامنها مع عائلاتهم وأحبائهم. ووزعت السفارة الفرنسية في بيروت تغريدة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جاء فيها: "أيتها اللبنانيات، أيها اللبنانيون، إنني أفكّر بكنّ وَبكم. بعد الانفجار في بيروت من ثلاث سنوات، كنت إلى جانبكم. وسوف أتذكّر دوماً الحوار الذي دار بيننا. لبنان لم يكن وحيداً. وهو ليس وحيداً اليوم أيضاً. يمكنكم أن تعتمدوا على فرنسا، وعلى تضامننا". وبدورها، أملت الخارجية الفرنسية، في بيان، خلال الذكرى الثالثة لانفجار المرفأ، بأن "يمضي القضاء اللبناني في استكمال التحقيق بكل شفافية وبعيداً من التدخلات السياسية"، مشددةً على "استمرار فرنسا في الوقوف إلى جانب لبنان". كما وزعت السفارة الفرنسية تغريدة لمبعوث الرئيس الفرنسي الى لبنان جان إيف لو دريان جاء فيها: "تذهب أفكاري الى الضحايا الذين أودى بهم الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت منذ 3 سنوات تحديداً. يجب تحقيق العدالة دون أي تدخل سياسي. وكما هو الحال دائماً في أوقات الشدة، تظل فرنسا متضامنة مع اللبنانيين".
كذلك صدر عن وزارة لخارجية الأميركية في الذكرى الثالثة لانفجار مرفأ بيروت بيان قالت فيه: "يصادف اليوم الذكرى الثالثة للانفجار المدمر في بيروت لبنان، الذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص وجرح وتشريد آلاف آخرين". وأضافت: "تواصل الولايات المتحدة الوقوف إلى جانب شعب لبنان، يستحق الضحايا وأسرهم العدالة والمساءلة لأولئك المسؤولين عن الكارثة والأسباب الكامنة وراءها". وشددت على أن "عدم إحراز تقدم نحو المساءلة أمر غير مقبول ويؤكد الحاجة إلى إصلاح قضائي واحترام أكبر لسيادة القانون في لبنان".
في المواقف الداخلية البارزة أكد رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع أن "مناسبة الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت حزينة لنا، ولكن في الوقت عينه يجب أن نرتكز عليها للانطلاق بتصحيح الوضع القائم". وقال، "بما يتعلق بالعدالة بانفجار مرفأ بيروت ليست موضوعاً مستقلاً قائماً بحد ذاته بمفرده، والبعض يقع بخطأ اعتبار أننا قادرين على تحقيق العدالة بانفجار المرفأ والوضع القائم يبقى قائماً كما هو، وذلك مستحيل فهذا الأمر هو جزء من كل". ولفت الى أن "الكل هو الوضع القائم في لبنان منذ نحو 8 أو 9 أو 10 سنوات لحد الآن، وهو ما ولّد مجموعة مآس، أكثرها إيلاماً من الناحية البشرية هو تفجير المرفأ، لكن أيضاً لا يجب أن ننسى أنه الى جانب الانفجار، لم يعد هناك صورة لدولة لبنان في الخارج، وانهارت عملتنا الوطنية، وكل هذه الأمور مآس تدخل الى كل بيت. وصحيح أن هناك 220 شهيداً بانفجار المرفأ لكن هناك أيضاً 4 ملايين لبناني شهداء إضافة الى تدهور سعر صرف الليرة، إلى 70 مليار دولار اختفوا من الأموال العامة وأموال المودعين وأموال المصرف المركزي والمصارف ككل، واللائحة تطول".
وأضاف: "بالتالي لتصحيح الصورة العدالة في تفجير المرفأ هي جزء من "كلّ" وإذا لم يتصحح "الكل" لا إمكانية لتصحيح الجزء، وإذا لم يتصحح وضع الدولة في لبنان وبات هناك دولة فعلية، من المؤكد أننا لن نتمكن من الوصول إلى العدالة".
صور من المسيرة (نبيل اسماعيل)