في غمرة انتظار الموفد الفرنسي جان - ايف لودريان والمساعي الخارجية لانهاء الشغور الرئاسي، تبرز لائحة أولويات مالية واصلاحية، سأل عنها لودريان ولم يلقَ سوى الانتقادات، تشكّل بأبعادها وانعكاساتها خريطة طريق "اقتصادية ونقدية إنقاذية" للمرحلة المقبلة.
وتبرز في هذا السياق، حركة ديبلوماسية ناشطة على خط بعض الملفات، تعكس اهتماماً دولياً بما أُنجز منها، وما هو في طور الاستكمال. فللدول مصالحها بالطبع، وهي ليست سياسية فقط، انما استثمارية واقتصادية بالدرجة الأولى.
من هنا، بدا الاهتمام الغربي - الأميركي بلحظة بدء استكشاف النفط والغاز في البلوك الرقم 9، مترافقاً مع سؤال ديبلوماسيين غربيين عاملين في لبنان عن "الصندوق السيادي" الذي خرج من لجنة المال والموازنة وأُدرج على جدول أعمال الجلسة التشريعية.
فكما كان ترسيم الحدود البحرية محط متابعة ومباركة ودعم اقليمي ودولي، كذلك هي الخطوات المترافقة مع بدء التنقيب والاستخراج. وفي هذا السياق، أتى اقتراح قانون الصندوق السيادي كخطوة مطلوبة واساسية محلياً ودولياً، اذ يشكّل نظاماً تشريعياً تحضيرياً بنيوياً بمعايير دولية تعتمدها مجموعة العمل الدولية للصناديق السيادية (IWG) والتي أنشئت بالتعاون مع صندوق النقد الدولي في تشرين الأول 2008 وقامت على مبادئ الفصل بيت مالك الصندوق أي الدولة وإدارته وعُرفت بمبادئ سنتياغو، والتي، أي الإدارة، يجب أن تكون شفافة حيادية ومستقلة عن أي تأثير سياسي.
وقد كانت هذه الخطوة مدار متابعة أيضاً من مراجع دولية في لبنان وواشنطن، وأتت الصيغة النهائية منه، كما خرجت من لجنة المال والموازنة، ناضجة واصلاحية ومتقدّمة ومستقّلة عن الهيمنة السياسية، وتضمن اكبر قدر من الشفافية، وتسمح بالحفاظ على ثروات لبنان للإستثمار والتنمية والإدخار للأجيال المقبلة. وجاء ذلك حصيلة عمل أشهر طويلة، واجتماعات مكثّفة، جرى في خلالها تطوير ودمج 4 اقتراحات قوانين، من "لبنان القوي" و"التنمية والتحرير" و"اللقاء الديموقراطي" و"الجمهورية القوية" والاستماع الى عدد من الخبراء المحليين والدوليين.
واللافت أنه بُعيد اقراره، خرجت أصوات مشككة وداعية لاعادته الى اللجان المشتركة، في محاولة التفافية دفعت المطلعين الى الخشية من أهدافها الرامية الى تقليص ما حملته الصيغة المقرّة من "انقلاب على الماضي" وشفافية.
وقد ردّ النائب ابراهيم كنعان عبر "النهار" بشكل حاسم في سياق "تصويب البوصلة" وأكد أن ما بات أمام الهيئة العامة "يشكّل قانوناً نموذجياً واصلاحياً باعتراف الجميع، معارضة وموالاة، إلا الذين يجهلون مضمونه ومساره أو لغاية في نفس يعقوب"، وهو ما أيده ولاقاه به نواب من كتل مختلفة، كانوا في صلب ورشة النقاش والإقرار كنواب "القوات اللبنانية" ومنهم النائب رازي الحاج.
أما مشروع موازنة 2023، الذي سيحال في الساعات المقبلة على المجلس النيابي، فقد وصل متأخراً قرابة تسعة أشهر عن موعده الدستوري، خالياً من الرؤية الاصلاحية المطلوبة، وغير مراعٍ لمتطلبات المرحلة. ما يعني أنه لن يجد من يدافع عنه في مجلس النواب، فيبدو كأنه مضيعة للوقت ولا فائدة منه ولا يتماشى مع الاصلاح المطلوب محلياً ودولياً. وهذا ما عبّر عنه رئيس لجنة المال والموازنة لـ "النهار" بالسؤال عن الفائدة منه وعن مشروع موازنة 2024، المفترض ان يحال في مثل هذه الأيام على مجلس النواب، ليناقش ويقرّ قبل بداية السنة الجديدة وليس في نهايتها، بحسب الدستور!
لا حسابات مالية مدققة!
الدولة اللبنانية بلا أرقام. هي الخلاصة "الفضيحة" التي تلقى متابعة لجنة المال والموازنة منذ الـ 2010 وجهات مالية دولية. فالغريب، أنه حتى بعد 4 سنوات من الانهيار المالي، لم تقم الدولة بحكومتها وادارتها ومصرفها المركزي المعنية حتى اليوم، باجراء مسح شامل مطلوب للموجودات والالتزامات وأولوها للمصارف والقطاع العام، وهي ما اعتبرها النائب كنعان "اول خطوة مفترضة وبديهية اذا انهار دكان او شركة صغيرة فكيف الحال إذا كان الأمر يتعلق بدولة وقطاع مصرفي، حتى نتمكن عندها من الإجابة عن سؤال "شو بدنا نعمل بأموال المودعين وندّعي أننا بصدد إستعادة الإنتظام المالي بقانون جدي لا بيع الناس سمكا بالبحر؟! هذا إذا كانت هناك نية أصلا بعمل أي شيء غير الإنتظار لتبديد ما تبقّى من التزامات على الدولة والمصارف".
ويأتي موقف كنعان بعد مواقف لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي ونائبه سعادة الشامي، رمت الكرة كالعادة في ملعب المجلس النيابي، متسائلة عن سبب عدم السير بقانون استعادة الانتظام المالي وإعادة هيكلة المصارف بعدما أحالت الحكومة وبحسب ميقاتي والشامي الحسابات المطلوبة في آذار الماضي، علماً أن التدقيق في الوقائع أظهر أن أي حسابات رسمية لم تصل من الحكومة الى مجلس النواب واللجنة المالية المختصة، لمعرفة موجودات المصارف والدولة لا بل، وكما صرّح كنعان، لم توقّع بعد الحكومة عقد التدقيق بحسابات المصارف مع الشركة الدولية كما وعدت وبالتالي لم تبدأ عملية التدقيق بعد! وحدها ورقة شخصية تتضمن ارقاماً عامة غير مدققة، أبرزها مستشار رئيس الحكومة سمير الضاهر، في احدى جلسات لجنة المال، أرفقها بتأكيده امام النواب، أنها شخصية وغير رسمية والجردة المطلوبة لم تحصل بعد.
"رمي المسؤوليات" هذا من قِبل الحكومة، يظهر أن الارادة السياسية بالسير بالخطوات الاصلاحية المطلوبة حتى النهاية غير متوافرة بعد، وتحتاج الى قرار جريء.
زيارة… وقرار حاسم
وكشف كنعان انه زار في وقت سابق رئيس حكومة تصريف الاعمال في منزله، وعرض معه الملفات الاصلاحية المطلوبة، ومشكلة عدم توافر المعطيات المطلوبة من الحكومة لإنجازها، لاسيما قانوني الإنتظام المالي واعادة هيكلة المصارف. وحتى لا تبقى الأمور تدور في حلقة مفرغة، دعا كنعان ميقاتي الى جمع القادة واصحاب القرار ورؤساء الكتل في اجتماع تُطرح فيه الملفات هذه، ويتخذ القرار المناسب في شأنها، فيتم تحديد الالتزامات والخسائر، بموافقة الجميع وتنطلق الخطوات المطلوبة لاستعادة عافية الدولة وتحديد كيفية استعادة أموال المودعين بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف. وقد وافق ميقاتي في حينه على الطرح ووعد بالمتابعة مع رئيس المجلس النيابي، "لكننا عدنا بعد فترة الى أسطوانة "ورقة المعلاق" والى التهرّب من المسؤولية"...
فهل سيعاد تصحيح البوصلة، أم سيستمر الهروب من المسؤولية في لحظة حساسة تتطلب تفكيراً مختلفاً وممارسة مختلفة على صعيد كل الملفات لاسيما الإصلاحية منها؟