كبيرة هي كلفة انعدام سلامة الغذاء في لبنان، على الإنسان والمؤسسات والدولة. على الفاتورة الصحية أو الطبية أو البيئية أو الزراعية أو السياحية أو الاقتصادية، وعائداتها سلبية على الاقتصاد.
ورغم المزاحمة بين الإدارات المعنية في تنفيذ "عروض" الرقابة على الغذاء، وإطلالاتهم الإعلامية المكثفة والمصطنعة هنا وهناك، لم تمنع تعرّض مواطنين للإصابة بالتسمم في الأكل والمشروب، وصولاً إلى خطر الموت. وهذا يعني أمرين، الأول، ألا وجود لرقابة فعلية وجدية على سلامة الغذاء، والثاني، ألا وجود لكادر يكفي لتأمين الرقابة، وثالثاً، ألا هيبة للجهات الرقابية الموجودة في الوزارات، ورابعاً، قد تكون لهذه الأسباب مجتمعة.
"دكاكين" الرقابات
إن الحلّ لأزمة "دكاكين" الرقابة على سلامة الغذاء ضروري، لمكافحة التلوث والمواد الفاسدة والمسرطنة، التي تفتك بالإنسان. فالاستمرار في الاعتماد على الفروع – إذا صحّت التسمية - للرقابة على ما نأكل ونشرب وما نتناوله في المطاعم والمستشفيات واستبعاد المرجع الأصلي، يضع أولاً الأمن الغذائي، سلامة الغذاء وصحة الانسان في خطر، ويطرح ثانياً السؤال عن أسباب إنشاء هيئة تخصصية على غرار دول العالم معنية بسلامة الغذاء من دون تفعيل دورها، وثالثاً، والأهم، لماذا أصبحت مخالفة القانون أمراً عادياً لدى الحكّام وأصحاب النفوذ؟
البدايات
في العام 2002، بدأ العمل، مع النائب الراحل باسل فليحان، على مشروع قانون يتيح توقيع لبنان الاتفاقيات الدولية التي تُعنى بالزراعة والصناعة والتجارة والاقتصاد والصحة وغيرها، والتي تنظّم العمل التجاري ضمن مواصفات محددة. وتبيّن أنه أمر يتطلّب، أسوة بباقي البلدان، وجود هيئة مختصة بسلامة الغذاء، تعرّف التجار والمزارعين وغيرهم على المعايير الدولية المفروضة والتي تخوّلهم طرح منتجاتهم في الأسواق اللبنانية وتصدير منتجاتهم وصناعاتهم إلى أسواق الخارج بعد مراقبة إنتاجهم والتحقّق من صحته لمنحهم الإثباتات لتصبح منتجاتهم قابلة للتصدير ولا تُرتجع.
من قانون 35 إلى 60
بعد دارسة وجهود مضنية، من حكومة الرئيس سعد الحريري في العام 2009، وصولاً إلى حكومته الثانية في 2016، أُقرّ قانون رقم 35 لإنشاء الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء في العام 2017. وهي هيئة تُعنى بمتابعة ومراقبة وتتبّع وتقييم الأخطار وتحديد السياسات وإنشاء المختبرات اللازمة المتعلقة بسلامة الغذاء وغيرها من المهام الأساسية وتفرض رقابتها المشددة على الأسواق والمزارع والمؤسسات الغذائية كافة، وهي من المفترض أن تكون الوحيدة التي تمتلك مسؤولية وصلاحيات الرقابة.
طُبقت جميع مراحل القانون، من خضوع المرشحين إلى المراحل المعتمدة من وزارة التنمية الإدارية إلى الخدمة المدنية إلى مرحلة الانتقاء لتعيين رئيس للهيئة.
في مرحلة الانتقاء تقدم نحو 164 شخصاً بحسب التوزيع الطائفي، وتم اختيار 6 أسماء من قبل مجلس الوزراء راعى التمثيل السياسي والطائفي في 21 أيار 2018. وتم الاتفاق الكامل بهذا اليوم على تعيين الدكتور ايلي عوض رئيساً للهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء وحمل القرار رقم 60.
مذّاك توالت الحكومات، ولم تكن سلامة الغذاء من ضمن اهتماماتها وأولوياتها، باستثناء حكومة الرئيس الحريري التي أوردت في بيانها الوزاري بند استكمال تعيين مجلس إدارة الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء كي لا تبقى من دون هيكلية متكاملة، أي رئيس بلا مرؤوسين، بمعنى آخر، حاكم من دون رعية ومن دون موازنة إلى حينه.
وعلى رغم بعض النيّات الحسنة لأن ترى هذه الهيئة الرقابية النور، إلاّ أن ذلك لم يحصل، إذ تم، توزيع صلاحيات هذه الهيئة على الهيئات الرقابية الموجودة في الإدارات أو حماية المستهلك، في حين، أنّ القانون يفرض أن تكون كل هذه الجهات تحت سلطة هيئة سلامة الغذاء، أي السلطة الرقابية العليا، والتي هي بمثابة ضابطة عدلية.
ذهنية زبائنية
من مساوئ إقرار المراسيم التطبيقية لهيئة سلامة الغذاء وانعكاساتها السلبية على الوزارات، أنها تحصر كل الصلاحيات المشتّتة على الجهات الموجودة في الوزارات داخل هيئة سلامة الغذاء وحدها، وتمنع احتكارها من قبل المديرين العامين للوزارات الذين يكدسون فوق مهامهم مهامَّ وصلاحيات أخرى لأهداف شخصية أو فئوية.
فعلى سبيل المثال، مباشرة هيئة سلامة الغذاء عملِها يسحب من الجهات التي تتولى هذه المهام في وزارة الزراعة أو الاقتصاد أو الصحة أو البيئة أو غيرها من الإدارات الصلاحيات التي تمكّنها من تنفيذ هذه الرقابة على الناس أو المؤسسات، ويخفف عملها في الرقابة للتركيز على نقاط مهمة من تطوير وإرشاد..... وهذا ما يجب أن يحصل، كي تتفرّغ هذه الوزارات إلى الاهتمام أكثر بالمشاكل والتحديات المطروحة أمامها، في ظل الأزمة الاقتصادية الاستثنائية التي يعاني منها البلد ولتطوير القطاعات المختلفة.
لكن، مع مرور الوقت من دون تفعيلها، يطرح سؤال حول ما إذا كان هناك من محاولات لإلغاء هيئة سلامة الغذاء. وهل هناك من هو متضرّر من أنها سلطة رقابية عليا فوق كل الرقابات الأخرى؟ علماً أن هذه الهيئة ترتبط برئاسة الحكومة مباشرة، وبحسب معنيين، بعيدة نسبياً عن التدخلات والبازارات السياسية. وهناك من بات يعتبر أن السماح بوجود مثل هذه الهيئة عنصر ضرر لسلطته ولمسيرته المهنية وطموحاته وأحلامه، بعدما تحوّلت الهيئات الرقابية في الوزارات إلى خدمة غب الطلب في أحيان كثيرة. من هنا، على ما يبدو، أسباب تأجيل تعيين مجلس الإدارة الذي يقترح المراسيم التطبيقية على مجلس الوزراء، ولكن إلى متى؟
كلام مسؤول
مرجع معني بالملف يرى أنّ "المسؤولية تقع على رئاسة الحكومة أولاً، وعلى الوزارات الثماني التي تخضع لهيئة سلامة الغذاء ثانياً، وهي: الزراعة، الصناعة، البيئة، الصحة، السياحة، الداخلية، جمارك (المالية)، والدفاع، وثالثاً، على الأطراف السياديين والتغييريين في البرلمان لعدم تطرقهم لهذا الملف الحسّاس إمّا عن عدم معرفة وإما عن قصد. علماً أنّ الملف أُثير في جلسة اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الاقتصاد والصناعة والتجارة والتخطيط التي عُقدت في 7 أيلول الحالي. فالأطراف الـ8 متفقون على رفض وتأجيل أن تبصر الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء النور، للاستمرار في سياسة الخدمات والزبائنية المنتهجة منذ سنوات على الصعد كافة، وتحوّل أعمال الرقابة التي تكفل صحة الناس إلى رقابة وهمية لتمرير مصالح خاصة".
ويسأل المرجع المعني، "في أيّ خانة مثلاً يمكن إدراج طلب أحد المديرين العامين، تعديل القانون رقم 659 من لجنة الاقتصاد والتخطيط والصناعة التي يترأسها النائب فريد البستاني؟ والطلب يتضمن إدراج ونقل الصلاحيات الممنوحة لهيئة سلامة الغذاء إليه. وهل الظهور بمظهر الحريص على سلامة الغذاء ومعيشة المواطنين هدفه استمالة النواب لإقرار هذه التعديلات ومنحه صلاحيات استثنائية خارج الهرمية القانونية والقضائية عبر منح الضابطة العدلية صلاحيات استثنائية بالختم بالشمع الأحمر دون الرجوع إلى النيابة العامة"؟
وهنا، يقول المرجع المعني: "لا بد من الرجوع إلى انتظام عمل المؤسسات والاحتكام إلى المرجع القضائي الذي هو السلطة التي يحق لها إعطاء الأمر بالختم بالشمع الأحمر فيما هناك اليوم اقتراح لأحد النواب منح الضابط العدلي إمكانية الإقفال المؤقت إلى حين أخذ إشارة النيابة العامة للختم بالشمع الأحمر، فلماذا هذا التغاضي عن الاقتراحات التي لا تمنح الموظف الحماية والمسؤولية من قبل النيابة العامة وتمنع أي سوء تقدير لدى بعض الأشخاص الذين لا يتمتعون بالأهلية لتقدير الضرر وهي صلاحية قضائية بامتياز؟ وما قصة ما يُروى في الكواليس عن تراخٍ مقصود في مسألة تعديلات القانون في ما يتعلق بالوكالات الحصرية"؟
اجتماع لجنة الاقتصاد
تم خلال اجتماع اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الاقتصاد والصناعة والتجارة والتخطيط الأخيرة اقتراح مسار مفاده، بأن الصلاحيات الواردة حالياً في تعديلات قانون مديرية حماية المستهلك هي صلاحيات استثنائية مؤقتة، الى حين تعيين أعضاء مجلس إدارة الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء وصدور المراسيم التطبيقية، وحيث إنه تلقائياً، يجمّد ويوقف العمل بمفاعيل هذه المواد الواردة في تعديل قانون حماية المستهلك وتحديداً المواد رقم 10، 44، 45، 65،62، 66، 70، 74، 76، 77، 79، 113، 114. وذلك من دون الحاجة لأي إجراءات أو مراجعات من أي نوع كانت، فتعود الصلاحية الواردة في المواد المذكورة أعلاه وأي مادة تنتقص من قدرة الهيئة على الرقابة وتتضارب مع قانون مديرية حماية المستهلك المقترح، حكماً ومن دون حاجة الى أي مراجعة أو نص آخر، إلى صلاحيات الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء كما وردت في القانون 35/2017.
وهذا يعني استثناء السلع الغذائية من رقابة مديرية حماية المستهلك عند استكمال تعيين مجلس إدارة هيئة سلامة الغذاء وصدور المراسيم التطبيقية، وبدء عملها. هذا، إضافة إلى اقتراح، نقل المراقبين الصحيين من وزارة الاقتصاد والإدارات الأخرى التي تعنى ببعض من الرقابة إلى الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء، تلافياً للتوظيف الإضافي، ولحماية المنتج من تعدّد ما يسمى بشروط الرقابة، معتمدين مبدأ وحدة المعايير في الرقابة على الغذاء، وحدة المسؤولية، سياسة سلامة غذاء واحدة نتيجة حوار بين كافة المعنيين، وحدة الإجراءات والمعاملات في الإدارات لتسهيل عمل المنتجين، المقدرة على منح شهادة أو إفادة أو أي مستند يطلب من الجهات الدولية تمكّن المصنع من تصدير منتجاتهم بعد التحقق من استيفاء المنتجات للمعايير والمواصفات الوطنية أو الدولية حماية للإنسان أينما استهلك من منتجات لبنان، ووحدة تمثيل لبنان لدى الجهات الدولية.
رأي نواب
يرى عدد من نواب اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الاقتصاد والصناعة والتجارة والتخطيط أن لا مانع ولا اعتراض على تشكيل هيئة سلامة الغذاء، لكن لا يمكن تعريض أمن المواطنين الغذائي للخطر طالما لم تنشأ هذه الهيئة. من هنا، فلتُستكمل عملية إنشائها بما تتطلبه من تعديل في القوانين والصلاحيات، والجميع معها.
النائب رازي الحاج، عضو لجنة الاقتصاد، والذي كان حاضراً في الاجتماع الأخير، اعتبر أن هناك نظامين في العالم بموضوع الجهات الرقابية، إما توحيدها في هيئة واحدة، أو جعلها في نظام مدمج ومتكامل.
ويضيف: "قانون سلامة الغذاء في لبنان دخل إلى اللجان النيابية في العام 2000 واتهي منه في العام 2015 طرأ عليه الكثير من التعديلات وكان ضحية التجاذبات وبالتالي هو قانون هجين. لم يلغ صلاحيات الوزارات التي لديها صلاحيات رقابية على سلامة الغذاء، لا وزارة الصحة أو الزراعة، أو الاقتصاد، أو الصحة أو غيرها. أنشئت الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء بموجب هذا القانون كهيئة تعمل على تنسيق الجهود وتحسين الرقابة وتضع خططاً ومعايير وسياسات عامة، كما تقوم بتقييم المخاطر وادارة الطوارئ والازمات ذات الصلة".
وأوضح أنه "في الجلسات الأخيرة المتعلقة بتعديل قانون حماية المستهلك لم تُضف صلاحيات لأي وزارة بل تم تعزيز إمكانية تطبيق القانون وتشديد الإجراءات الرادعة. إذ إن المشكلة أن لا قدرة ردعية لحماية المستهلك، بل يقتصر عملها على تسطير محاضر ضبط، التي تذهب إلى القضاء وتأخذ وقتاً طويلاً لتنفيذها".
ورأى أن الواقع الحالي اليوم هو أولاً، أن قانون سلامة الغذاء لم يتضمن بنداً يلغي الصلاحيات الممنوحة لجهات أخرى كمديرية حماية المستهلك، خلافاً لأي نص آخر... ثانياً، توقيت طرح الموضوع حالياً غير موفق. وفي ما يتعلق بالمادة المطلوب إدخالها على تعديلات قانون حماية المستهلك والتي تقرّ بصلاحيات هيئة سلامة الغذاء، اعتبر الحاج أن إدخالها اليوم متعذّر بغياب مجلس ادارة للهيئة وجهاز تنفيذي لها، فعلى افتراض تم اطلاق هيئة سلامة الغذاء، من أين سيتم المجيء بموظفين تابعين لها؟ وكيف يمكن نقل موظفي حماية المستهلك فيما هؤلاء لديهم مسؤوليات أخرى غير الغذاء، كما أن أعدادهم قليلة؟
من هنا، يشدد الحاج على أنهم "كنواب ليسوا ضد إطلاق عمل الهيئة اللبنانية لسلامة الغذاء، لكن المهم، إلى حين استكمال المراسيم التطبيقية وبخاصة تعيين مجلس إدارة لها، لا يمكن أن يبقى السوق من دون رقابة".