نعى الموفد الخاص للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان، جان إيف لودريان، المبادرة الفرنسية التي كان سلفه في الملف اللبناني، باتريك دوريل، أطلقها، وارتكزت يومها على انتخاب رئيس جمهورية من حصّة فريق الممانعة، أي سليمان فرنجية، مقابل رئيس حكومة مقرّب من المعارضة، أي نواف سلام.
وفيما استُبعد اسم سلام باكراً من الجولات الرئاسية نظراً إلى الأولويات الرئاسية، ولعدم توفّر غطاء سعودي-عربي كان مطلوباً، بقي اسم فرنجية في جعبة الفرنسيين، الذين كثّفوا اتصالاتهم ومبادرتهم، حتى سقوط آخر عنصر من المبادرة يوم الثلاثاء بإعلان لودريان الحاجة إلى اسم ثالث خارج ثنائية فرنجية-أزعور (مرشح تقاطع المعارضة مع "التيار الوطني الحر").
هذا التطوّر على المستوى الدوليّ والإقليميّ ترافق مع تطوّر على المستوى الداخليّ، تمثّل بعرقلة الحوار الذي كان يدفع إليه رئيس مجلس النواب نبيه بري، والذي ترى فيه المعارضة استدراجاً إلى مزيد من التنازلات، والذي تحوّل إلى حوار "تعالوا نقنعكم بفرنجية".
لا تعتبر المعارضة ما تحقق حتى اليوم نصراً استراتيجياً بل جولة في معركة سياسيّة طويلة، لها - من دون شكّ - تبعاتها؛ وهي اعتمدت سياسة النفس الطويل والصبر، وواجهت بحسم، وبإصرار على موقفها.
وتعود المعارضة بمقاربتها إلى عشرة أشهر مضت لتظهّر الواقع الذي وصلنا إليه. فقد بدأت الأمور باستخدام الممانعة واستغلالها وتعويلها على مبادرة خارجيّة لتغيير المعادلات الداخلية، أي المبادرة الفرنسية التي كانت تدعم سليمان فرنجية، لكن الأمور تبدّلت بعد ذلك نتيجة الموقف الحاسم للمعارضة برفض المساومة على موقف مبدئيّ له علاقة بالإنقاذ الذي لا يتحقق عن طريق الممانعة، فهو له شروطه على مستوى الرئاسات؛ وبالتالي انتقلنا من موقف خارجيّ داعم للممانعة إلى موقف خارجيّ مع لودريان، يتحدث عن خيار ثالث تتبنّاه الدول الخمس المعنيّة بالشأن اللبناني. وهذا بحدّ ذاته انتصار، بمعنى أن هذا الخارج له تأثير بشكل أو بآخر على الداخل. فعندما يُصبح الخارج ضد خيار الممانعة ومع خيار ثالث فهذا يعني أن المعارضة حقّقت انتصاراً، ونجحت في تغيير موقف الخارج، خصوصاً أنّ أيّ رئيس جمهورية حتى لو وصل بانقلاب الفريق الآخر فلن يستطيع أن يفعل شيئاً، وسيستمر الموقف كما هو عليه، لأنّ لبنان، من أجل أن يخرج ممّا هو عليه، بحاجة إلى توافق داخليّ ودعم خارجيّ. وبالتالي، بعدما أصبح الخارج واضحاً بأنه لن يسير إلّا بخيار ثالث، وَجُبت ملاقاته بتوافق معيّن؛ وبهذا نكون قد ثبّتنا معادلة الخيار الثالث، وهو ما قامت به المعارضة من خلال تبنّي جهاد أزعور كخيار ثالث.
برأي المعارضة أن إصرار الممانعة المستمرّ على مرشّحها يمكن أن ينقل الخارج إلى تحميلها مسؤولية تعطيل الدستور والفراغ وتداعيات استمرار هذا الفراغ.
وعن قضية الحوار ومحاولة الفريق الآخر تحميلها مسؤولية فشله، تسأل المعارضة عن أيّ حوار يتحدثون، وهو حوار بجدول أعمال غير واضح المعالم، ومن يرأسه طرفٌ أساسي في مواجهتها، وماهيته "تعالوا نقنعكم بفرنجية"؟!
تبدو المعارضة راضية عمّا تحقق حتى اللحظة، خصوصاً لناحية الجهود التي بذلتها في التعاضد لإنشاء جبهة صامدة ومتينة، فضلاً عن كونها راضية عن خياراتها التشاورية والحوارية، التي أدّت إلى تقاطع مع "التيار الوطني الحر"، إضافة إلى عملها مع الدول الصديقة التي بدأت تثمر مواقف مقبولة بالحدّ الأدنى. لكنّها تُبدي بعض الحسرة تجاه النواب السنة، أو مَن يسمّون أنفسهم بالرماديين، الذين بِحيرتهم يفتحون للممانعة أبواباً للانقضاض على المعارضة، لأن أولئك يجيدون استعمالهم لصالحهم.
وتعّول المعارضة على خطوات إلى الأمام يتّخذها الفريق الآخر تحاكي الواقع الحالي، وتُخرجه من عنجهيّته، للاتفاق على مرشح ثالث لا يعادي المقاومة، لكنه يفتح معها حواراً عميقاً حول سلاحها، لنبدأ ببناء الدولة من جديد، لأنّ الناس أصبحت في مكان آخر، وهي سترجم الجميع إن استمرّ هذا الانحدار.
المعارضة نجحت بثباتها في التغلّب على مشروع سلاح في هذه المنطقة، وأضحى واقعاً أن سلاح الموقف هو سلاح أساسيّ، والخضوع ليس قدراً، فيما المواجهة بالتكاتف والتعاضد ممكنة.