تحت عنوان "استقلال السلطة القضائية"، ألقى القاضي في محكمة العدل الدولية وسفير لبنان سابقاً الدكتور نواف سلام محاضرة في نقابة المحامين في بيروت، تميّزت بشموليتها لكل جوانب الواقع القضائي في لبنان وتصورات سلام الإصلاحية حياله . وينشر موقع "النهار" في الاتي النص الكامل للمحاضرة :
لا شك ان اول ما يحتاج اليه لبنان اليوم هو التصدي الجاد للجذور العميقة للأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها. وهذا يتطلب إصلاحات جذرية ورؤية واضحة لبناء اقتصاد حديث ومنتج يؤمن فرص عمل جديدة ونموٍّ مستدام.
غير أن الشرط الأساسي لتحقيق ذلك هو قيام دولة قادرة، دولة قانون ومؤسسات، ترتكز على قيم المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية وتوفر شروط المساءلة والمحاسبة الديمقراطية. وهذا ما يقودنا بدوره الى ضرورة الإصلاح السياسي. ولعلّ حجر الزاوية في ذلك هو إقامة "السلطة القضائية المستقلة"، لان من دون تحقيق هذا الإصلاح البنيوي لا سيادة حقيقية للقانون، ولا انتظام لعمل المؤسسات، ولا ضمان للحقوق او الحريات العامة والخاصة. وهذا شرط اساسي لاستعادة الثقة في الدولة والنهوض باقتصاد البلاد.
وفي مسألة "السلطة القضائية المستقلة"، التي هي موضوعنا اليوم، ابدأ بالقول انها بالتأكيد مشروعة التساؤلات المرتبطة بكل ملابسات التحقيق في جريمة مرفأ بيروت وتعرجّاته، ولا سيما في أسباب توقف هذا التحقيق، وما دور السياسية في كل ذلك، وهل القضاء اليوم قادر في بنيته وانظمته الراهنة على تحقيق استقلاله المطلوب عنها كـ "سلطة قضائية" قائمة بذاتها؟
وكذلك مشروعة هي التساؤلات التي اثيرت وتثار حول دور القضاء في كل ما تم تداوله في السنوات الماضية من أمور خطيرة تلفّها شبهات فساد وهدر وصفقات وفضائح ... وهل ان تدخل اهل السياسة هو ما يحول دون قيام ملاحقات وتحقيقات قضائية جدية بشأنها، كما هو لا يسمح عند قيامها بوصولها الى خواتيمها المرجوّة، وتالياً إنزال العقاب الذي يفرضه القانون في حال ثبوت هكذا ارتكابات بما يتعدّى الشبهات؟ ... كل ذلك، وناهيكم عن البلبلة حول تعاميم المصرف المركزي بشأن حقوق المودعين بودائعهم في المصارف ومواقف القضاء منها وما يُثار عن تدخل اهل السلطة السياسية فيها.
ومشروع ايضاً وايضاً هو التساؤل عمّا يعيق، في الواقع والقانون، إتمام التشكيلات القضائية – العالقة منذ زمن – لينتظم عمل القضاء ... وهل صحيح ان اعتبارات الولاء السياسي والتوزيع الطائفي والمذهبي هي العوائق الرئيسية التي تقف بوجهها؟ اوليس في القضية ما يكفي للتساؤل ايضاً عن مدى تبعية القضاء للسلطة التنفيذية، وأسباب عدم استكمال تكوّنه كـ "سلطة" قضائية مستقلة قادرة على إدارة شؤونها بنفسها؟
والجدير بالذكر هنا ان تدهور الثقة بعمل العديد من مؤسسات الدولة، لا بل تعاظم الشكوك بمشروعية بعضها، ناهيكم بحجم النقد الذي راح يصيب أداء العديد من المسؤولين السياسيين في السنوات الأخيرة هي عوامل تساهم بدورها في تفسير الاهتمام المتزايد بمسألة استقلالية القضاء والدعوات الى ضرورة تعزيز مكانته كـ "سلطة" دستورية، وذلك فضلاً عن المطالبات المزمنة بضرورة تحسين أوضاع القضاة وتطوير أساليب عملهم وتحديثها، وزيادة إمكانيات القضاء على وجه عام.
مبدأ استقلالية القضاء هو في أساس مفهوم "دولة القانون"، لا بل انه حجر الزاوية لقيامها، كما انه ملازم لفكرة "فصل السلطات" التي تقوم بدورها على رفض تبعية سلطة لأخرى او على تدخلها في شؤون غيرها.
ولكن مبدأ استقلالية القضاء لا يقتصر على مفهوم "فصل السلطات" بمعناه الدستوري الصرف، بل انه يتعدّاه، اذ انه يفترض ايضاً تحصين القضاء تجاه سائر العوامل التي قد تؤثر على حسن سير العدالة مثل الولاءات السياسية، او الانتماءات الطائفية والمذهبية، او سلطة المال.
اما بالنسبة لنظرية "فصل السلطات"، فهي قد ارتبطت باسم مونتسكيو وكتابه الشهير "فلسفة الشرائع" الصادر عام 1748، وهي النظرية التي طوّرها من بعد العديد من الفقهاء والفلاسفة والتي تجسدت في المادة 16 من "اعلان حقوق الانسان والمواطن" الفرنسي لعام 1789. فإلى جانب مقولته المعروفة بانه "لا يحد السلطة الا السلطة"، فان مونتسكيو اعتبر ان فصل السلطات هو "أساس الحرية" وان "لا حرية بعد إذا ما كانت سلطة القضاء منفصلة عن السلطة التشريعية والسلطة الإجرائية".
وتجدر الإشارة الى ان أصول هذه الفكرة انما تعود ايضاً الى التجربة الإنكليزية في عهد اوليفر كرومويل والى كتابات جون لوك، لا سيما مؤلفه "الحكومة المدنية"، الذي حذّر فيه من ان تركُّز السلطة في جهة واحدة يؤدي الى التعسف والاستبداد، مما يقود الى اهدار حقوق الافراد وتهديد حريّاتهم. وبدورها كان لكتابات لوك الأثر الكبير في إلهام واضعي دستور الولايات المتحدة الأميركية الذي اعتمد عام 1787 وهو القائم على مبدأ التوازن.
(Checks and Balances)
اما صاحب الربط بين مفهوم "دولة القانون" ومسألة الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والاجرائية والقضائية، فهو الفيلسوف الألماني ايمانويل كانط.
وهنالك اخيراً من يعيد اساس مبدأ "فصل السلطات" الى الاغريق القدامى، نظراً الى قيام كل من افلاطون وارسطو، ولو كل واحد على طريقته، بالتمييز بين الوظائف المتعددة داخل الدولة الواحدة وإيلائها الى هيئات محدّدة ومختلفة.
اما منطقتنا من العالم، فقد دخل اليها مفهوم "فصل السلطات" من خلال تأثر روّاد "النهضة العربية"، في القرن التاسع عشر، بأفكار عصر الانوار، وباهتمام العديد من هؤلاء الروّاد، ولا سيما رفاعة الطهطاوي وخيرالدين التونسي، ببنى وطرق عمل المؤسسات والنظم السياسية الحديثة في اوروبا. ومن ثم وجد هذا المفهوم، اسوة بـمفهوم "استقلال القضاء" طريقه الى العديد من دساتير المنطقة، ومنها طبعاً دستورنا.
وبمقتضى مبدأ فصل السلطات، فإنّ عدم صلاحية السلطتين التشريعية والتنفيذية الفصل في الدعاوى وعدم جواز امتناع السلطة التنفيذية عن تنفيذ الأحكام القضائية، أو قيام السلطة الاشتراعية بإصدار قوانين تفسيرية (Lois interpretatives) بغية تقرير الحلول للنزاعات العالقة أمام المحاكم من جهة، انما يقابله من جهة أخرى عدم جواز امتناع المحاكم عن تطبيق القانون أو اصدار أحكامها في صيغة "الأنظمة" (Réglements) أو "القرارات الإدارية" (Actes d’administration) .
ويجب ألاّ يعني تأكيدنا على حدود دور السلطة القضائية من ضمن نظرية فصل السلطات، أن ليس لعمل القضاء من أبعاد "عامة" في غاية الاهمية. ففي توافر شروط حياد المحاكم المدنية تجسيدٌ لمبدأ المساواة بين المواطنين، وفي وجود أصول للمحاكمات الجزائية حماية للحرّيات، كما أنّ في الرقابة القضائية على قرارات الإدارة ضماناً لعدم تجاوز المسؤولين فيها حدّ السلطة.
أمّا النتائج السياسية لاستقلال القضاء فتتمثّل في ما لسيادة القانون، من تأثير مباشر على الاستقرار الاجتماعي والنشاط الاقتصادي في البلاد، وعلى صدقية الدولة في الداخل كما في الخارج.
ونشير هنا الى أن دستورنا المعدل عام 1990 تنفيذاً لأحكام "وثيقة الوفاق الوطني"، المعروفة بـ "اتفاق الطائف"، بات ينص في الفقرة "هـ" من مقدمته على ان "النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها". ولكننا نرى ايضاً أنّ الدستور، وإنْ نصّ في مادّته العشرين على أن "السلطة القضائية تتولاها المحاكم على اختلاف درجاتها واختصاصها"، فإن ذلك قد أتى من ضمن الفصل الأول حول "الأحكام العامّة" للباب المتعلّق بالسلطات. فلا فصل في الدستور يحدّد قواعد عمل "السلطة القضائية" أو ينظّم كيانها، على غرار ما يخصّ به الدستور كلاً من السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل إنّ هذه المادّة الوحيدة المتعلّقة بالقضاء في الدستور، إنما نصّت على ترك كل هذه الأمور الى القوانين العادية.
وهذا يعني أن الدستور اللبناني لم يجعل من السلطة القضائية "سلطة" قائمة ومحصّنة بضمانات دستورية مثل السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل أنّ السلطة التشريعية احتفظت لنفسها بحريّة كاملة في تحديد شروط تولية القضاة وتنظيم وإدارة شؤونهم، عندما تركت ذلك للقانون العادي بدل النصّ على قواعدها الأساسية في متن الدستور كما هو الحال في العديد من الديمقراطيات المعاصرة.
صحيح أنّ الدستور ينصّ أيضاً، وفي المادة نفسها، على أن " القضاة مستقلّون في إجراء وظيفتهم" ولكنْ صحيح أيضاً أنّ الفرق مهمّ بين استقلالية القاضي أثناء قيامه بـ " وظيفته" واستقلالية القضاء كـ "سلطة". فاستقلالية القاضي في مجال إصدار أحكامه تعني أنّ أي مسؤول، مهما علا مركزه، لا يمكن أن يُملي عليه قراره. فالقاضي يبقى في هذا المجال مستقلاً بينه وبين نفسه، ممّا يمنحه حرية الاحتكام إلى علمه وإلى ضميره، ولكن في غياب استقلال القضاء كـ "سلطة"، ليس هناك ما يحمي القاضي من أهل السياسة لو أرادوا مثلاً معاقبته على ممارسته استقلاله – "الذاتي" طبعاً – وذلك من طريق ما يعود للسلطة التنفيذية من صلاحية في التعيينات والتشكيلات والترقيات القضائية كما في تشكيل مجلس القضاء الأعلى.
لذلك، قد يكون ضروريا العمل على إضافة أحكام الى الدستور تتعلق بهيكلية السلطة القضائية وتنظيمها وصلاحياتها. وفي هذا الإطار سوف نجد في المواد 101 إلى 113 من الدستور الإيطالي مصدرًا جيدًا للاستلهام منها.
ولعلّ في غياب القضاء كـ "سلطة" فعلية، وفي الارجحية الواضحة للسلطة التنفيذية في علاقتها مع القضاء بكل فروعه، ما يفسر درجة "التسييس" العالية التي عانى ولا يزال يعاني منها القضاء، والتي اثّرت دون شك على سمعته وساهمت في التشكيك باستقلاليته، نتيجة استخدامه في أكثر من مناسبة في الصراعات الداخلية لتصفية الحسابات السياسية او كوسيلة للتشهير بالخصوم من قبل أطراف في السلطة.
فمن العهد الاستقلالي الأول الذي تمت فيه محاكمة أنطون سعادة وإصدار الحكم عليه بالإعدام وتنفيذه، وكل ذلك في اقل من 48 ساعة مما يكفي لإثارة الريبة في استتباع السياسة للقضاء بغض النظر عن رأينا في طروحات سعادة او ممارسات حزبه، الى ملاحقة عدد من السياسيين المعارضين بتهم شتى في بعض العهود، وإصدار الاحكام بالسجن على صحفيين (مثلما حصل مع جورج نقاش على أثر نشره مقالته الشهيرة "ضدّان لا يصنعان امّة"
Deux négations ne font pas une nation
واكثر من مرة، مع غسان تويني) او ملاحقة الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي ممن ضاق صدر اهل السلطة بانتقاداتهم لها كما يحصل اليوم، مرورا بالتطابق المثير للشبهات في التبدّل، بحسب تغيّر الأحوال السياسية، في الأحكام المتعلقة بالجهة صاحبة الصلاحية لمقاضاة المسؤولين، مثل قرارات محكمة التمييز العائدة لتفسير المادة 70 من الدستور الصادرة في نهاية القرن الماضي ومطلع الحالي ... ناهيكم بعدد الملفات التي يبدو انها تحظى بالحماية السياسية، فلا تُفتح او لا تحقيق جدّي فيها، مثلما تدور الشبهات حيال العديد من قضايا الهدر والفساد التي أثيرت في السنوات الماضية. وفي كل ذلك تساؤلات وشكوك مشروعة في محاولات السلطة السياسية في مختلف العهود استخدام القضاء للنيل من اخصامها، او حماية أنصارها، من خلال تسخير بعض القضاة المعينين منها في مراكز حساسة لتنفيذ اغراضها.
والواقع انه كلما اثير موضوع تسييس القضاء، او المحاصصات بين السياسيين التي يكون هو موضوعها، او حتى كلما كان الحديث عن الحاجة الى اصلاح أوضاع القضاء وتنقيتها، وُجد من اعتبر هذا افتراءً وتجنياً على القضاء. ولعل أفضل جواب على ذلك هو ما قاله العديد من اهل القضاء أنفسهم، لا سيما ممن تبوأوا اعلى المراكز فيه كرئاسة مجلس القضاء الأعلى او رئاسة مجلس شورى الدولة.
وعلى سبيل المثال فان أحدهم شكا حديثاً ممّا اسماه "التدخل الوحشي" للسياسيين في القضاء "إضافة الى تدخل الطوائف" (شكري صادر). وكان رئيس أوّل
لمحكمة التمييز قد سبق وصرّح بان" استقلال القضاء في لبنان وهمٌ، لان القضاء هو مجرد أداة بيد السياسيين يتدخلون فيه" (نصري لحود). وبينما صرخ رئيس أوّل آخر بـ "ارفعوا ايديكم عن القضاء" (أنطوان خير) – وهل صعب ان نفهم ايدي من قصد؟ - فقد عبّر ثالث عن طموحه بان يصبح القضاء "فاعلاً طليق اليدين" (جان فهد) – افلا يعني ذلك ان هنالك من يكبّل يدّي القضاء، ومن يكون يا ترى؟
وزيادة على ذلك، قد يكون من المفيد ايضاً التذكير هنا بأقوال السياسيين أنفسهم عن تدخلهم في شؤون القضاء، وهي عديدة. لكننا نكتفي باقتباسٍ واحد، لان في تاريخه (منذ أكثر من خمسين سنة) ما يدل على مدى تأصل هذه الظاهرة في بلادنا، ولان صاحبه تبوأ اعلى منصب في الجمهورية من بعد. يقول الرئيس سليمان فرنجيه في كتابه المفتوح إلى الرئيس شارل حلو، بتاريخ 24/11/1968:
" في بلدٍ صغير كلبنان، حيث جرت العادة أن تقوم الحياة السياسية على خدمة الأفراد أكثر من تعلّقها بالمؤسسات، كان الاعتقاد السائد أنه من الصعب إبقاء السلطة القضائية في معزل تام عن التدخّل السياسي بمختلف وجوهه. وأود أن أعترف، وفي الإعتراف بالخطأ فضيلة، بأني كرجل سياسة حاولت في مناسبة ماضية، كنت أنت شخصياً (أي الرئيس حلو) شاهداً عليها، أن يكون لي تدخّل في مساعدة قاض عُيّنَ لمنصب أعلى، وقفَت في وجهه إعتبارات عدّة منها كفايته وحقّه في الترقية ".
تجاه هذا الإقرار، لا يسعني، ورغم تقادمها، سوى التذكير بالقاعدة التي كان يعمل بها الرومان:
Confessio est regina robation
أي ما معناه: الإقرار سيّد الأدلة.
وملازم لما يصيب القضاء من تسييس، هو موضوع الطائفية التي تشكل مرتكزا اساسياً للنفوذ السياسي فيه، كما انها بدورها تساهم في إيذاء صورته، والتشكيك بمدى استقلاليته.
ان تخصيص وظائف معيّنة في الجسم القضائي لطوائف معيّنة، كما هو الحال اليوم، امر مخالف للمادة 95 من الدستور التي تقول بعدم "تخصيص أي وظيفة لأي طائفة". وهو طبعاً امر مخالف أيضاً لحق اللبنانيين في تولّي الوظائف العامة "دون ميزة لأحد على الأخر إلا من حيث الاستحقاق والجدارة"، كما جاء في المادة 12 من الدستور.
فهل هنالك أفظع من مخالفة الاحكام الدستورية مرتين بمعرض تعيين من هم في قمة السلطة التي وظيفتها هي تطبيق القانون؟ وهل من ضرورة للتذكير ان المادة السابعة من الدستور تنص على ان "كل اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية، ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم"؟
وأخطر ما في الامر ان تخصيص وظائف معيّنة لطوائف معيّنة في الجسم القضائي يجعل زعماء الطوائف قيّمين على هذه المناصب، أي انهم وبعد تقاسم مغانم المواقع القضائية فيما بينهم وتطويبها باسم طوائفهم – او تحاصصها بحسب التعبير السائد – يتصرفون وكأن اقتراح أسماء القضاة لتولّي هذه المراكز بات حقاً مشروعاً وحصرياً لهم، كل ضمن طائفته طبعاً، وتاليا ينصّبون أنفسهم مرجعية سياسية طائفية لهؤلاء.
وهذا يقود بدوره الى ان القضاة الذين لا يتمتعون بالحظوة عند هذا او ذاك من المراجع السياسية او الدينية في طوائفهم تكون متدنية إمكانية تبوئهم المناصب العليا في القضاء، مهما كانت مناقبيّتُهم رفيعة، او علمُهم وفيراً، او انتاجيتهم عالية، او سنين خبرتهم مديدة.
والواقع انه رغم النص الصريح في الدستور المعدل بموجب اتفاق الطائف على عدم جواز "تخصيص أي وظيفة لأي طائفة"، كما ذكرنا، فان الاستثناء شبه الوحيد على تطييف المراكز القضائية العليا كان عند تعيين الرئيس عاطف النقيب رئيساً اول لمحكمة التمييز. وخلاف ذلك، بقي هذا المركز يعود حصراً الى القضاة الموارنة، وكذلك حال رئاسة مجلس شورى الدولة، بينما بات يعود منصبيّ النائب العام لدى محكمة التمييز ورئيس هيئة التفتيش الى السنة حصراً، ورئاسة ديوان المحاسبة ومركز النائب العام المالي الى الشيعة حصراً. وليس بحال أفضل وضع المدعين العامين والرؤساء الأوائل لمحاكم الاستئناف الذين يتم ايضاً توزيعهم على أساس طائفي ومذهبي.
والسؤال البديهي هو ألا تهدّد طائفية المناصب القضائية الثقة لدى المتقاضين في استقلالية وحيادية القضاة الذين يتولونها؟ وهل يُنتَقص من العدالة بشيء إذا اتى مثلاً مرة رئيس ارثوذكسي لمجلس القضاء الأعلى، او كان رئيس هيئة التفتيش درزياً او كاثوليكيا؟ وهل يُنتَقص من العدالة بشيء ان يأتي مثلاً مرة رئيسٌ شيعي لمجلس شورى الدولة اوسنيٌ لديوان المحاسبة ويكون النائب العام لدى محكمة التمييز مارونياً؟
والجواب طبعا ان ذلك لا ينتقص من العدالة بشيء، بل على العكس تماماً، فانه ينزّه صورتها مما يعزز الثقة بها ويزيد من الطمأنينة الى استقلالية وحيادية القيمين عليها من القضاة من خلال إبعاد اية شبهات عنهم حول إمكانية التأثر بالاعتبارات الطائفية والمذهبية.
صحيح ان الاستقلال الذاتي للقاضي هو أساس حياديّته المطلوبة في ممارسته لوظيفته، وهي تشمل طبعاً ترفُّعِه عن أي انتماء فئوي، كالمنطقة والطائفة، عند أدائه مهامه. ولكن اين الضمانة الى ذلك والاعتبارات الطائفية والمناطقية، كما قضايا الولاء والمحسوبية، كلها عناصر مؤثرة في تعيين القضاة وترقيتهم وتشكيلاتهم، لا سيما عند تعيينهم في اعلى المناصب القضائية؟
ويقول البعض ان الأساس في الاستقلالية المرجوّة يبقى عند القضاة أنفسهم، وكأن الامر يقوم فقط على صفاتهم الشخصية واخلاقياتهم، مثل التحلي بالشجاعة والنزاهة والاستقامة. ولا شك ان هذه صفات حميدة وضروري وجودها لدى القضاة. والحق يقال ان معظم قضاة لبنان لا ينقصهم أيّا منها، والشهادة لهم بها وبعلمهم واجبة علينا اليوم ومن على هذا المنبر بالذات. لكن مسألة "استقلالية السلطة القضائية" التي نطالب بقيامها تتعدى ذلك الى تأمين شروط تحصين الاستقلال الذاتي للقضاة وحمايتهم من التأثيرات الخارجية مثل الاعتبارات الطائفية والتدخلات السياسية، بحيث تنتفي إمكانية معاقبتهم او اغرائهم، عن طريق الترقيات والمناقلات مثلاً، في حال لم تأتي ممارستهم لاستقلاليتهم الوظيفية في اصدار الاحكام مطابقة لرغبات اهل السلطة من جهة او لتشجيعهم على الاستجابة لهذه الرغبات من جهة أخرى.
وبموازاة التشكيك بجدوى قيام "السلطة القضائية المستقلة" عن طريق القول ان الأساس في الاستقلالية هو عند القضاة أنفسهم وان حصانتهم من استقلالهم الذاتي، كما سبق وذكرنا، هنالك الخوف، والاصح في حالتنا القول بالتخويف، مما اصطُلِح على تسميته بـ "حكم القضاة" (Gouvernement des Juges). وهي العبارة التي استخدمت لأول مرة في عنوانٍ لكتاب أصدره ادوار لامبير عام 1921. وفي الأصل كان المقصود بها انتقاد الصلاحية التي اكتسبتها المحاكم العليا في بعض الدول، كما في الولايات المتحدة الأميركية، للنظر في دستورية القوانين، على اعتبار ان ذلك يشكل تعدياً على السلطة التشريعية. ومن يومها بات يتوسّع مصطلح "حكم القضاة" ليشمل التحذير من إمكانية تعدّي القضاة على صلاحيات السلطة التنفيذية، لو تمتعوا بالاستقلال الكامل كـ "سلطة".
والواقع ان الخطر لا يكمن اليوم في لبنان فيما تُسقطه بعضُ فئات الرأي العام من رغبات على القضاء تتجاوز وظيفته – وإنْ تكن رغبات مشروعة – ذلك إنّ واقع العمل بمبدأ فصل السلطات لا يسمح للقضاء بإنشاء القواعد القانونية للقيام مثلا بتغطية قصور التشريعات الحالية في التعامل مع حالات الفساد، أو للحدّ من الصلاحيات الاستنسابية للإدارة في منح التلزيمات. وعملاً بالمبدأ نفسه، لا يجوز كذلك أن يحلّ القضاء محلّ أجهزة الرقابة الإدارية من تفتيش مركزي ومجلس تأديبي عامّ. والحقيقة ان الخطر الأكبر في لبنان يكمن في استمرار اختلال التوازن القائم اليوم بين القضاء وكلّ من السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتأثير ذلك على عمل القضاء والثقة به. فلماذا الخوف اذن، لا بل التخويف، من ان يقود تعزيز "استقلالية القضاء" في لبنان الى قيام "حكم القضاة" المزعوم لا سيّما ان القانون يمنع صراحة المحاكم من اصدار أحكامها في صيغة "الأنظمة" أو "القرارات الإدارية"، كما انه يفرض على المحاكم تطبيق القوانين الصادرة عن السلطة التشريعية، كما بيّنا. وعلى أي حال، فإن استقلال القضاء لا يمكن ان يعني انفصال السلطة القضائية عن سائر السلطات، او ان يشكل تهديدا لها، او ان يقود الى هيمنة عليها، لان انتظام عمل السلطات، فمثلما هو يتطلب استقلالها وتوازنها من جهة، فإنه يتطلّب ايضاً تعاونها ومراقبة بعضها البعض من جهة ثانية.
ويبقى أن الخطر ان وجد، وهو موجود، فهو ليس في احتمال جنوح القضاء في لبنان، لو تعزز استقلاله، الى قيام "حكم القضاة"، بل ان هذا الخطر يكمن في استمرار القضاء على وضعه الحالي، لا بل في استمرار وضع العراقيل امام قيام "السلطة القضائية المستقلة"، التي بات وجودها يشكل اليوم ركنا أساسيا لاستعادة الثقة بالدولة والنهوض بالبلاد.
مطلب اصلاح القضاء هو مطلب قديم، لا بل انه ملازم للحياة السياسية في لبنان منذ مطلع الاستقلال. وقد ورد في العديد من برامج القوى والجبهات السياسية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، ومن اوائلها برنامج "الجبهة الاشتراكية الوطنية" التي تأسست عام 1951 وقادت ما عُرف بـ "الثورة البيضاء" التي أدّت الى استقالة الرئيس بشارة الخوري. وكان كميل شمعون وكمال جنبلاط من أبرز وجوهها.
وقد تصدرت عناوين الإصلاح القضائي في هذه الفترة قضايا انشاء محكمة خاصة لمراقبة دستورية القوانين، وتشكيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ومحكمة الاثراء غير المشروع، والحد من صلاحيات المحكمة العسكرية.
وبعد هذه الفترة، أي خمسينات وستينات القرن الماضي، لم يغب مطلب اصلاح القضاء، ولو بصيغ مختلفة، عن معظم مشاريع الإصلاح التي تقدّمت بها القوى السياسية منذ اندلاع الحرب عام 1975 والى ان تم اعتماد اتفاق الطائف عام 1989.
وفي هذه الفترة لم يغب القضاة ايضاً عن قضية "الإصلاح في القضاء" فكان لهم عددٌ من التحركات المشهودة المطالبة بتحسين أوضاعهم والحاجة الى زيادة عددهم أبرزها أعوام 1968، و1980، و1982.
وقد تضمن اتفاق الطائف في قسم "الإصلاحات الأخرى" بنداً خاصاً، هو البند "باء"، عنوانه "المحاكم". وقد دعا فيه الى تشكيل "المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء" المنصوص عليه في الدستور، والى انشاء "مجلس دستوري لتفسير ومراقبة دستورية القوانين والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية"، الا ان صلاحية تفسير القوانين قد تم اسقاطها كما هو معلوم من التعديلات الدستورية لعام 1990 بينما المفترض فيها ترجمة احكام الطائف. ومما نص عليه ايضاً هذا البند في الفقرة "ج":
"تدعيماً لاستقلال القضاء، يُنتخب عدد معين من أعضاء مجلس القضاء الأعلى من قبل الجسم القضائي."
مباشرة بعد إقرار الطائف، ونتيجة تعاظم الحديث عن الفساد، وتناول اخباره على نطاق واسع في وسائل الاعلام، لا سيما من خلال الاتهامات المتبادلة بين اركان النظام أنفسهم في منتصف تسعينات القرن الماضي، حول فضائح وصفقات، من هنا وهناك، اخذ قسم كبير من الرأي العام ينظر الى السلطة القضائية كمرجع، ليس فقط للفصل بين ما يتم تداوله من مخالفات وارتكابات، بل لتنقية الحياة السياسية وتقويم عمل النظام وهشاشة مؤسساته. وهي طبعاً أمورٌ تتعدى وظيفة القضاء الاصلية، أياً كانت درجة استقلاليته او طبيعة امكانياته.
وقد ساهم في ذلك قصور أجهزة الرقابة الإدارية حينذاك عن القيام بمهمّاتها كاملة، إنْ نتيجة لنزع الحصانة عن أعضائها أو بسبب ضعف إمكاناتها، إضافة إلى الثغرات الموجودة في قوانيننا، كما التقاعس عن وضع الآليات الضرورية لتطبيق الموجود منها، مثل تشكيل الهيئات القضائية المنصوص عليها في القانونيْن المتَعَلّقيْن بالتصاريح عن الثروة المطلوبة من الموظّفين وكلّ القائمين بخدمة عامّة، وبالإثراء غير المشروع.
ولعلّ ما أظهره في الفترة ذاتها عددٌ من القضاة في الخارج، لاسيّما في فرنسا وإيطاليا (فيما عرف بعملية "الايدي النظيفة") إنْ من تصميم في التحقيق في ملفّات الفساد، أو من جرأة في معاقبة مرتكبيه من السياسيين، قد عزّز هذا التوجّه نحو القضاء في أوساط قسم كبير من الرأي العام اللبناني.
والواقع ان البلاد كانت تضج وقتها بأخبار إرتكابات عديدة تتعلق بمواد غذائية وادوية فاسدة، وقضايا احتكار وغش، واتجار بمواد سامة، ومضاربات على أسعار العملة، وتعديات على الأملاك العامة وفضائح بيئية، ناهيكم عن الشكاوى من التشكيلات والمناقلات القضائية التي إتُهِمت انه قد شابها الكثير من الاستنساب والمحسوبية، مما دفع بعدد غير قليل من القضاة الى الاستقالة حينذاك والتوجه الى العمل الحر تاركين فراغاً مهماً في الجسم القضائي، لا سيما انه كان يعاني اصلاً من نقص في أعضائه.
وعلى خلفيّة هذا الجو الذي راحت تتجه فيه الأنظار الى القضاء أكثر من أي يومٍ مضى، وفي مسعى لتطبيق ما نص عليه اتفاق الطائف لجهة "تدعيم" استقلالية القضاء، تم وضع عدد من المشاريع بهذا الخصوص، أبرزها اقتراح قانون السلطة القضائية الذي وضعه النائبان السابقان الرئيس حسين الحسيني وبطرس حرب وقدمه التكتل الذي كان يعرف بـ "اللقاء الوطني النيابي"، ومشروع النائب السابق عصام نعمان، ومشروع النقيب السابق مرسال سيوفي.
وقد تضافرت هذه المساعي مع عدد من المبادرات المهنية والعلمية، كعقد عدد من الندوات والمؤتمرات التي شارك فيها نخبة من القضاة وأهل القانون في البلاد والهادفة الى بلورة مفاهيم "استقلالية السلطة القضائية" وإقامة "دولة القانون" والبحث في شروط ووسائل تحقيقها، إضافة الى محاولة التصدي للتحديات التي تواجه اصلاح أوضاع الجسم القضائي وتطوير أساليب عمله. وقد نتج عن هذه الجهود أبحاث ودراسات معمقة كتلك التي نشرت في العدد الخاص من مجلة "آفاق" عام 1996 حول القضاء او كتلك التي صدرت بعدها بقليل في الكتابين المرجعيين الصادرين عن المركز اللبناني للدراسات.
لكن منذ اتفاق الطائف، وباستثناء التعديل الذي ادخل على تشكيل مجلس القضاء الأعلى بجعل اثنين من اعضائه العشرة منتخبين، وحصراً من بين رؤساء غرف محكمة التمييز ومن قبل أعضاء هذه المحكمة دون سواهم من قضاة المحاكم الابتدائية والاستئنافية، ومحاولة البعض عندها تصوير ذلك على انه التطبيق المطلوب لما نص عليه هذا الاتفاق بشأن "تدعيم" استقلال السلطة القضائية، فالحقيقة ان الإصلاح الجدّي المطلوب لتحقيق ذلك قد تأخر أكثر من خمسة وعشرين سنة، أي منذ ان وضعت اوّل مشاريع واقتراحات متكاملة بهذا الخصوص.
فلو تأخر الامر خمس سنوات عن هذا التاريخ، لكان يصح الظن انه نتيجة الإهمال،
كذلك، لو تأخر الامر عشر سنوات، لكان يصح عندها الارتياب بأن هنالك من لا يريد اقراره،
اما وقد تأخر الامر كما تأخر، ففي ذلك ما بات يتعدى الارتياب ليشكل قرينة على ان اهل السلطة لم يكونوا طوال هذه الأعوام في وارد تحقيق "استقلالية السلطة القضائية"، سوى قولاً وليس فعلاً.
ويبقى الأهم، والمقصود ايننا الآن من تحقيق "استقلالية السلطة القضائية"؟
اليوم، وبعد تيه طويل، وبعد تعديلات في اللجان النيابية وتعرجات كثيرة، آخرها ذهاباً وإيابا الى وزارة العدل، عاد الى المجلس النيابي "اقتراح قانون استقلال القضاء العدلي" لنقاشه واقراره. وبناء عل طلب "المفكرة القانونية" و"ائتلاف استقلال القضاء" كانت وزيرة العدل السابقة ماري كلود نجم قد راجعت "اللجنة الأوروبية للديمقراطية من خلال القانون" التابعة لـ "مجلس أوروبا" والمعروفة بـ Commission de Venise طالبة رأيها بهذا المشروع كما عدلته لجنة الإدارة والعدل. وبهذا الصدد، سنكتفي بملاحظات ثلاث:
اولاً: بالمقارنة مع الوضع الراهن، فان المشروع المذكور يشكل، بلا شك، نقلة نوعيةً باتجاه تعزيز "استقلالية القضاء" لا سيما لجهة نصّه على جعل عدد الأعضاء المنتخبين في مجلس القضاء الأعلى سبعة من أصل عشرة، بدل اثنين من قضاة محكمة التمييز الذين يتم انتخابهم حصراً من قبل رؤساء غرف هذه المحكمة، كما هو الحال اليوم.
ولكن لجنة البندقية، كما المفكرة القانونية، قد لفتت، الى ان الاليات المقترحة لهذا الانتخاب تؤدي الى تفاوت كبير في التمثيل لصالح قضاة الدرجات العليا مما يقتضي تعديلها إفساحا في المجال لتمثيل أكثر عدلا لقضاة الدرجات الأدنى التي يغلب فيها عنصر الشباب.
وأشارت، عن حق ايضاً، الى انه بينما حدّ الاقتراح الأصلي من خيار الحكومة في تعيين القضاة الحكميين (أي الرئيس الأول لمحكمة التمييز، والنائب العام لدى هذه المحكمة، ورئيس هيئة التفتيش) من ضمن لائحة من ثلاث أسماء لكل مركز يقدمها مجلس القضاء الأعلى الى الحكومة، عاد وتم توسيع نطاق هذا الخيار من خلال منح وزير العدل إمكانية إضافة أسماء جديدة إلى هذه اللوائح. فحفاظا على الغاية الأساسية من الاقتراح الأصلي، لا بد من الرجوع عن هذا التعديل، ولو كان يشترط موافقة مجلس القضاء الأعلى على الأسماء المضافة من قبل وزير العدل.
ثانياً: بشأن التشكيلات القضائية، لا بل بشأن كل ما يتعلق باختيار القضاة وتعيينهم وترقيتهم وتأديبهم، ولعلها المسألة الأساسية في موضوع استقلالية القضاء والعلاقة المطلوب تصحيحها مع السلطة التنفيذية، لا بد من الإصرار هنا على منح مجلس القضاء الأعلى القدرة على حسم الخلاف الذي قد ينشأ حولها مع وزير العدل، لا سيما لجهة اعتبار التشكيلات القضائية نافذة من دون حاجة لصدور أي مرسوم في حال تم تأخير صدوره.
وبهذا الخصوص تجدر الإشارة الى ان لجنة البندقية قد اوصت، عن حق، بالاكتفاء بغالبية مطلقة من أعضاء المجلس الفعليين، بدل الاغلبية المطلوبة راهناً لحسم مسألة التشكيلات، أي سبعة من أصل عشرة، وذلك بهدف تقليل احتمالات منع صدورها.
والامر لا يتوقف عند ما نشهده اليوم من تعطيل للتشكيلات، بل عديدة هي مشاريع التشكيلات القضائية، التي سبق ووافق عليها مجلس القضاء الأعلى، ولكنها لم تبصر النور بسبب تمنّع أحد المسؤولين المطلوب توقيعه على مرسومها عن التوقيع.
ثالثاً: ان الإبقاء على هيئة التفتيش القضائي تحت اشراف وزارة العدل، وكذلك الإبقاء على تعيين أعضائها من قبل السلطة التنفيذية، فضلاً عن إعادة منح وزير العدل، في موضوع رئيس هيئة التفتيش، صلاحية اقتراح أسماء إضافية على اللائحة التي يقدمها مجلس القضاء الأعلى الى الحكومة للاختيار منها، كما سبق وأشرنا، هي أمور تقوّض هدف تعزيز استقلالية القضاء. والمطلوب ببساطة تعديلها.
وكذلك مطلوب إعادة النظر بالإبقاء على صلاحية وزير العدل في إيقاف القاضي عن العمل بناءً لاقتراح مجلس هيئة التفتيش القضائي بمعرض ملاحقة تأديبية. وقد نبّهت لجنة البندقية في الفقرة 100 من تقريرها أن الاستخدام التعسفي لصلاحية كهذه قد تترتب عليه نتائج خطيرة اذ انه يسمح بإقصاء قاضٍ معين عن النظر في ملف محدد بقرار من الوزير.
ولعل التطور الأهم في موضوع العمل على استقلال القضاء، انه إضافة الى "اقتراح قانون استقلال القضاء العدلي"، فقد أصبح امام مجلس النواب اليوم اقتراح قانون آخر، والاصح اقتراحي قانون، متعلقان بـ "استقلال القضاء الإداري". الأول هو الاقتراح المقدم في آذار 2021 من النائب اسامه سعد بالتعاون مع "ائتلاف استقلال القضاء" والذي أعدته "المفكرة القانونية". اما الاقتراح الثاني فقدمه النائب جورج عدوان في تموز 2021، وقد اعدّه رئيس مجلس شورى الدولة، القاضي فادي الياس.
واستقلال القضاء الإداري عن السلطات السياسية لا يقل أهمية ابداً عن استقلال القضاء العدلي عنها، بل انه قد يفوقه أهمية لان الامر يتعلق هنا بشرعية القرارات الصادرة عن السلطة التنفيذية والإدارات العامة والبلديات، كما ان القضاء الإداري هو الجهة المختصة للنظر في مسؤولية الدولة عن الأضرار التي قد تسبّبها للأفراد.
وان كنّا لا نبحث اليوم في تفاصيل هذين المشروعين او نقوم بالمقارنة المطلوبة بينهما – ذلك ان الامر يستحق محاضرة خاصة – فيهمّنا التأكيد على وحدة المعايير المطلوب تطبيقها لتأمين استقلال كل من القضاء العدلي والقضاء الإداري، لاسيّما لجهة الاخذ بمبدأ انتخاب القضاة لأكثرية أعضاء الهيئة العليا المشرفة على عمل هذا الفرع او ذاك من القضاء وعلى وضع نفس الضوابط الضرورية لتعيين أعضائها الباقين، كما انه لا بد في الحالتين من حصر ما يتعلق بأمور اختيار القضاة وتعيينهم وترقيتهم وتأديبهم بهذه الهيئات.
وبمناسبة الشروع بمناقشة اقتراحي قانون استقلال القضاء الإداري في المجلس النيابي، وانطلاقاً من التكامل الواضح بين استقلال كل من القضاء العدلي والقضاء الإداري، قد يكون مناسباً ايضاً إحياء فكرة انشاء مجلس اعلى موحد للسلطة القضائية، يتولى الاشراف على شؤون القضاء في فروعه الثلاث، أي القضاء العدلي والإداري والمالي، ويسيّر اعمالها باستقلال تام عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، فيكون المرجعية العليا للسلطة القضائية، وتكون له الشخصية القانونية والاستقلال المالي والإداري.
ولا بد من الإشارة هنا أيضا الى ان أي اصلاح في وضع القضاء لا يمكن ان يكتمل دون إعادة النظر في دور المحاكم الخاصة والاستثنائية واختصاصها، مثل المحكمة العسكرية أو المجلس العدلي، او حتى في مبرر وجود بعضها مثل المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. اما بالنسبة للقضاء الدستوري، فيقتضي، من اجل تعزيز استقلاليته، اعادة النظر بطريقة اختيار اعضاءه، وعدم حصر ذلك بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، بل توسيع الامر ليشمل جهات مثل المجلس الأعلى للسلطة القضائية المقترح انشاءه ونقابتي المحامين مثلاً.
وفي الختام، لا بد من التشديد على ان قيام "السلطة القضائية المستقلة"،
- يعزز الاستقلال الذاتي للقاضي وحيادتيه المطلوبة في إصدار الاحكام، من خلال تحصينه في موقعه تجاه الضغوط او الاغراءات.
- يبعث الطمأنينة في نفوس المتقاضين انهم، بلجوئهم الى القضاء، سوف ينالوا احكاماً عادلة مبنية على قواعد القانون ووقائع القضية وليس احكاماً منحازة ناتجة عن تأثيرات او تدخلات مرجعيات سياسية او دينية او فعاليات مالية، او غيرها.
- يدعم الاستقرار الاجتماعي عبر ضمان الحقوق العامّة والخاصّة وصون الحرّيات جراء ما يؤمنه من حماية أكبر من التدخل السياسي في عمل القضاء.
- يساهم في تفعيل النشاط الاقتصادي من خلال استعادة مناخ الثقة المطلوب لجذب الاستثمارات، ووضع البلاد على طريق النمو، لا سيّما في زمن احتضار النموذج الاقتصادي والمالي الذي ساد بعد الحرب.
- يقيم التوازن المفقود مع السلطتين التشريعية والتنفيذية، فيستقيم عمل السلطات وتنتظم مؤسسات الدولة.
- يؤدي الى بسط سلطة القانون مما يساهم في إقامة "دولة القانون" المرجوّة ويعزز من صدقية الدولة في الداخل كما في الخارج.
وبعد كل هذا، يبقى السؤال:
ان لم يكن مطلوب اليوم، وقبل الغد، إقامة السلطة القضائية المستقلة في بلادنا، فمتى يكون ذلك؟