تحاول الأحزاب اللبنانية، لا سيما المسيحية منها، تطوير عملها السياسي، وتطوير أدائها بما يتناسب مع كلّ مرحلة. وهي حاولت بأغلبيتها تقديم خطاب مختلف تجاه القضية الفلسطينية، التي تأثرت بماضي العلاقات اللبنانية-الفلسطينية الملتبسة وحرب الـ1975، وما رافقها من تجاوزات ومجازر "متبادلة"، تركت آثاراً لا تُمحى في الذاكرة الجماعية، خصوصاً الذاكرة الجماعية لمسيحيي لبنان.
ليس من السهل تخطّي مرحلة مهمّة من تاريخ لبنان، بَنَت على أساسها بعض الأحزاب صورتها، بل لا تزال تستمدّ منها ذخيرة سياسية في مسيرتها الراهنة. كذلك تفعل الأحزاب الجديدة التي نشأت بعد المرحلة الفلسطينية في لبنان، إذ اعتمدت خطاباً مشابهاً لخطاب الأحزاب القديمة، يُقدّس القضية اللبنانية، ويعتبر الفلسطينيين خطراً على الهوية، بموازاة خطاب متقدّم وسائد عبر حلول دوليّة تؤدّي إلى السلام بين جميع الدول، بمن فيها إسرائيل.
يرتبط المسيحيون اللبنانيون عاطفياً ودينياً بفلسطين، وللبطريركية المارونية مطراناً في الأراضي المقدّسة، وهم من أول المطالبين بجعلها مدينة مفتوحة أمام أتباع الأديان، وللكنيسة صولات وجولات في هذا الشأن، وهي أطلقت العديد من المبادرات، وجميعها تأتي في إطار حلّ الدولتين.
أمّا بشأن صمت الكنيسة على ما يجري حالياً، فترفض مصادر كنسيّة الاتهامات، وتطالب الجميع بالعودة إلى خطابات البطريرك مار بشارة بطرس الراعي على مدى سنوات طويلة، حيث نادى من خلالها بالقضية، وحملها إلى أصقاع الأرض كافّة.
"أما قضية اليوم في غزة، فالكنيسة، تماشياً مع تعاليم الإنجيل وأسس الدين المسيحي المبنيّ على السلام والتسامح ترفض القتل. لكنّها طالبت بالحياد، وبتجنيب لبنان نيران الخلافات في المنطقة؛ فإنسانيّاً ودينياً نقف إلى جانب الشعب الفلسطيني من دون أيّ وجل، إنّما في الخلفيّات السياسية للصراع فهي مرتبطة بصراع أبعد من فلسطين وغزة".
بلمحة تاريخية، شهدت العلاقة اللبنانية-الفلسطينية تقلّبات عدّة، وما لبث الاحتضان اللبناني للاجئين الفلسطنيين أن تحوّل في سنواته الأولى إلى قلق لبناني أمنيّ من الوجود الفلسطيني. وفي عام 1959، استُحدثت دائرة لإدارة شؤون اللاجئين الفلسطينيين تابعة لوزارة الداخلية من أجل التنسيق مع الأونروا بشأن عملية تقديم المعونة والمساعدات للاجئين الفلسطينيين، بما في ذلك استصدار وثائق سفر وتسهيل طلبات جمع شمل الأسر المشتّتة.
تبدّل هذا الوضع مع صعود الحركة الفلسطينية في أواخر الستينيات، وعُقد اتّفاق عام 1969 في القاهرة بين منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان، فنظّم بشكل ما الوجود الفلسطيني المدني والعسكري في لبنان، وتعاظمت المظاهر العسكرية في الجنوب، وعُرفت منطقة العرقوب بـ"فتح لاند"، ثم جرّ لبنان إلى حرب أهلية، وإلى انقسام لبناني حادّ بين أكثرية إسلامية تدعم الفلسطينيين، وأكثرية مسيحية في مواجهتهم. لكنه منظمة التحرير انسحبت من لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982، وتمّ إغلاق مكاتبها. وفي عام 1987، ألغت الدولة اللبنانية اتفاق القاهرة أحاديّاً من دون أن تحدّد أيّ إطار آخر بديل ينظّم العلاقة بين الجهتين.
سعى لبنان في عام 2005 إلى تحسين مسار العلاقة اللبنانية-الفلسطينية على أراضيه وطي صفحة الخلافات السابقة، فشكّلت الحكومة اللبنانية لجنة الحوار اللبناني-الفلسطيني، كان من بين مهامها معالجة المسائل الحياتية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية للاجئين الفلسطينيين في لبنان، وإضفاء الطابع الرسمي على العلاقات بين لبنان وفلسطين. تجلّى ذلك بإرساء تمثيل رسمي دبلوماسي للسلطة الفلسطينية وإعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، بتاريخ 15 أيار 2006، إضافة إلى فتح باب الحوار مع الفصائل الفلسطينية المختلفة.
وكانت عدة اجتماعات عُقدت في باريس سنة 1986 بين رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع مع ممثلين لمنظمة التحرير الفلسطيني وحركة فتح، شكّلت خطوات أولى لصفحة جديدة من العلاقة مع الفلسطينيين.
في خطوة أولى باتجاه المصالحة، عُقد في مقر حزب الكتائب اللبنانية في نيسان 2008 لقاء مصالحة تميّز بمصارحة ومصالحة لبنانية-فلسطينية. وجاء اللقاء بمناسبة الذكرى الـ33 للحرب اللبنانية، وعلى خلفية (إعلان فلسطين) الذي طرحته ممثلية منظمة التحرير الفلسطيني في لبنان معتذرة من اللبنانيين عن الارتكابات الفلسطينية إبان الحرب، فيما قدّمت 44 شخصية مسيحية اعتذارها عن الأعمال التي وقعت بحقّ الفلسطينيين.
وأشار الرئيس أمين الجميل إلى أنه كان لا بدّ من أن يكتوي اللبنانيون والفلسطينيون بنار التجربة ليتعلّموا، مشيراً إلى الوشائج القوية التي كانت تجمع فلسطين ولبنان قبيل النكبة عام 1948، ولافتاً إلى أن اعتراف الفلسطينيين بالشرعية اللبنانية يجعل من قيام دولة فلسطين مطلباً لبنانياً.
من جهته، دان ممثل المنظمة في لبنان عباس زكي (إعلان فلسطين) أية ممارسات تسبّب ضرراً للّبنانيين، قائلاً: "إن الفلسطينيين ضيوف موقّتون تحت السيادة اللبنانية، ولا يشكّلون طرفاً مع فريق لبناني ضد آخر".
وفي عام 2012، زار وفد من قوى 14 آذار مدينة غزة بعد تعرّضها لعدوان إسرائيلي، كان في عداده عضو كتلة القوات اللبنانية النائب آنذاك أنطوان زهرا.
لكن هذه المصالحات لم يكن لها وقعها الكبير على الأرض، خصوصاً أن منظمة التحرير التي خاضت هذه الملاحظات لم تعد لوحدها اللاعب الأبرز على الأرض الفلسطينية، إذ برزت الحركات المقاومة كحماس والجهاد الإسلامي، التي اتّخذت اتجاهات سياسية مخالفة لهذه المصالحات، وبقيت بعيدة عن الانفتاح على هذه الأحزاب، بل أعادت فتح الملفات القديمة، فعاد الوضع متوتراً.
في هذا الإطار، يعتبر الوزير السابق كريم بقرادوني أن "الشرذمة، والحسابات السياسية الداخلية الضيّقة، كان لها الأثر الأبرز. فنتيجة هذه الخلافات انكفأ كلٌّ على ميله، وتُرك الرأي العام من دون مرجع سياسيّ يعتمد عليه، وبات الجميع يعتمدون على أهوائهم وموروثاتهم، ممّا سيبعدهم عن أيّ تأثر لاحق يمكن أن تنتجه هذه الحرب، بغضّ النظر عمّن سيربح أو يخسر فيها، بالرغم من أنّها ستُعيد رسم منطقة الشرق الأوسط".
ويُشير إلى أن "المبادرة في لحظات كهذه، خصوصاً إذا أتت من منطلق موحّد، تغيّر الرأي العام، وتأخذه إلى مكان تريده القيادة"، لافتاً إلى أن "السياسة هي أن تكون موجوداً وصاحب قرار".
ويذكّر بقرادوني بمرحلة الرئيس بشير الجميّل الذي اتّخذ قراراً بمواجهة الفلسطينيين، وكان موقفه آنذاك ضرباً من الجنون، في ظل الدعم الإسلامي، ودعم الدول العربية لهم، لكنّه كان واضحاً أن "لا حلّ في لبنان سوى بخروج الفلسطينيين من لبنان، واستطاع تشكيل رأي عام بدأ مع المسيحيين، وامتدّ لاحقاً إلى طوائف أخرى رأوا أن وجودهم يشكّل خطراً على لبنان".
ويضيف: "في عهد الجبهة اللبنانية، كانت الخلافات عميقة بين بيار الجميل وكميل شمعون، وعلى عدد كبير من المواضيع، لكن حرصاً مستمراً كان موجوداً فلم يظهرها، وبقيا بمظهر المتّفقين انسياباً مع الرأي العام، لعدم تعريض المشروع أو القصية لخطر الخسارة، وهذا الأداء نفتقده اليوم بين السياسيين."
ويشدّد على أنه "بمعزل عن التاريخ وصراعاته، ومَن هي حماس، فإن ما يجري اليوم سيقرّب من الوصول إلى حلّ الدولتين، وسيدرك الجميع أنّه لا مجال للحلّ سوى بدولتين، وهذا مطلب تاريخيّ للمسيحيين الرافضين لفكرة الأوطان البديلة، والذين لديهم ارتباط دينيّ وعاطفي وكنسيّ بالقدس".
ويختم بقرادوني حديثه بالتأكيد "أن ما جرى سيكون بداية حلّ بمكان ما، ولن تنتهي هذه الجولة كما انتهت الجولات الأخرى من دون نتائج واقعية على مستوى الحلّ. وهذا ما يجب أن يدفع المسيحي اللبناني قبل غيره إلى الانخراط في قضايا المنطقة للحفاظ على دور له في المرحلة اللاحقة، وألا يتحوّل إلى نسخة من مسيحيي العراق".
يوافق الوزير السابق شارل رزق على أن "الدور المسيحي يتراجع بشكل كبير في جميع القضاياً"، مذكّراً بأنّ لبنان كان له أدوارُ رئيسية في جميع أحداث المنطقة، تأثيراً وتأثراً".
وعمّا يحدث اليوم في فلسطين، وعن موقف الأحزاب المسيحية منه، يشير رزق إلى أن "التأثيرات التاريخيّة لها دورها، ولكن المبادرة والجرأة مفقودتان في التعاطي مع الأحداث".
ويقول: "المسيحي أهمل دوره في بلده، والقيادات المسيحية مسؤولة عن التراجع هذا، وما حلّ في لبنان وبالمسيحيين لا يمكن تبرئة الزعماء المسيحيين منه".
ويختم بالتأكيد: "إن غياب القيادة الحقيقية أدّت إلى غياب الدور، وبالتالي إن اللاموقف، وانتظار النتائج للتكيّف معها، هو أقصى ما يمكن فعله في الوقت الحالي".