لم يختبئ اللبنانيون في بيوتهم في 11 تشرين، كما فعلوا في الثالث منه. فهموا "قواعد الاشتباك" جيداً. لا حرب. هل لأنّ "حزب الله" يدرك هشاشة الوضع الاقتصادي والمالي؟ هل لأنّ بيئة "الحزب" والطائفة الشيعية عموماً هي أيضاً مصابة بتداعيات الانهيار الاجتماعي؟ هل لأنّه يدرك أنّ عملية طوفان الأقصى، ولو أنها ألحقت الهزيمة العسكرية والاستخباراتية بالجيش الإسرائيلي، فهي لا تعني انهيار هذا الجيش وقدرته على التفوّق عسكرياً وإلحاق الأذى ببنية الممانعة؟
الأكيد أن "حزب الله" يدرك كل هذا، وربما أكثر، لكن الأهم، تبقى مرجعية قرار القيادة لديه. هو حزب الولي الفقيه، وهذا يعني أنه يأتمر بأوامره، ولا جديد في ذلك، مع عدم نكران هامش الحرية المعطى لقيادة "حزب الله" على مستوى الداخل اللبناني. ديمومة تماهي الممانعة مع المشيئة الإيرانية تتظهّر جيداً بمقاربات آية الله علي خامنئي لتوسيع نطاق الحرب من عدمه. فـ"المرشد"، المرجع الأعلى والأهم في إيران حدّد بوصلة القرار، في 10 تشرين الأول الفائت، أي بعد 3 أيام فقط من عملية طوفان الأقصى، من خلال نفيه علاقة طهران بالعملية التي أطلقتها حركة "حماس" ضد إسرائيل.
هل يعني أنّ قرار المرشد "مُنزل" ولا عودة عنه؟ الجواب دائماً موجود بكتب ودفاتر وفتاوى السيد خامنئي، وملك إرادته، لا ملك إرادة أي طرف آخر، أو مكان آخر، والدخول في الحرب يجب أن يتماشى مع الهدف السامي لإيران، مهما يكن، أو تحتّمها معطيات وظروف مرغمة. فهل كان أمام الإيرانيين ملاذات أو خيارات لتبرير عدم دخولهم الحرب و"إزالة إسرائيل من الوجود"؟
نصرالله وإرادة خامنئي
خير ترجمة للإرادة الإيرانية، وقدرتها واستراتيجيتها، عبّر عنها سلوك "حزب الله" منذ بداية الحرب على غزة، إلى خطابي السيد حسن نصرالله، الأول والثاني، اللذين جاءا كترجمة فعلية وامتداداً لموقف المرشد آية الله علي خامنئي.
خطاب نصرالله الأول، لم يرتق إلى مستوى الخطاب الحربي بكل ما للكلمة من مقاييس. وضع معادلة "انتصار حماس مقابل سحق حماس" التي أطلقها بنيامين نتنياهو من دون تحديد الاستراتيجيات والآليات، منتقلاً من مبدأ "وحدة الساحات" إلى "الحرية لكل ساحة"، نائياً بإيران عن الحرب وعن عملية 7 تشرين، فـ"إيران لا تمارس أي نوع من الوصاية على حركات المقاومة في المنطقة"، هي "تتبنّى وتدعم وتساند"، و"قيادات حركات المقاومة تملك القرار".
وتحدث عن إيجابيات "الجبهة اللبنانية التي خففت جزءاً كبيراً من القوات الإسرائيلية التي كانت ستُسخّر للهجوم على غزة. فثلث قوات إسرائيل البرية موجود عند الحدود اللبنانية ونصف القوات البحرية وربع القوات الجوية وما يقارب نصف الدفاع الصاروخي والقريب من الثلث من القوات اللوجستية موجّه باتجاه جبهة لبنان".
حسناً فعل السيد نصرالله، لكنّ الأكيد أنّ المعادلة بقيت ضمن ما يعرّفه الخبراء العسكريون بـ"التصعيد المقيّد". فلا استهدف عمق إسرائيل ولا نعرف حتى الساعة حجم الإنجازات التي رتّبها تحريك الجبهة الجنوبية من وقت لآخر، وضمن ستاتيكو عسكري سُمّي "قواعد اشتباك".
وربط نصرالله "تطوّر الأمور في الجبهة الشمالية بمسار وتطور الأحداث في غزة والسلوك الإسرائيلي تجاه المدنيين". وهنا يُطرح السؤال: كم من المجازر يجب أن تُرتكب بعد - والبعض يصف ما يجري بالإبادة الجماعية - كي يكون للسيد نصرالله حق التدخل في الحرب ضد إسرائيل؟ وسؤال آخر يُطرح: هل من تسبّب بقتل ومقتل الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ والشباب في سوريا وتورّط بحربها الأهلية يحق له الحديث عن الإنسانية؟
الخطاب الثاني لنصرالله يوم أمس، لم يأت بالكثير. انتقلنا إلى معادلة جديدة هي "الساحات المسانِدة". أما القاسم المشترك فأميركا وسوريا. في الخطاب الأول حيّد السيّد سوريا عن كلامه، وفي خطابه الثاني توجّه إلى الأسد لدعم المواجهة كجزء من "الساحات" وهي المبتورة أصلاً، بما يعني عملية "رفع عتب". علماً بأن نصرالله بعينه يعلم أن سوريا، وبلسان كبار قيادييها ومسؤوليها أبلغوا طهران بشكل مباشر أنها لن تدخل الحرب وتحوّل ساحتها خدمة لحماس وعملية طوفان الأقصى لعدة أسباب. وأيضاً وأيضاً، وكما أسرّ بعض العالمين بكواليس السياسة السورية "انتظروا مستقبلاً كي تروا سوريا تتنازل عن شبعا للجانب اللبناني"، وهو كلام فيه الكثير من التحليل والتأويل.
أميركا في خطاب السيّد كانت لها الحصة الأكبر بهجومه المركّز وتهديداته لها، فسُئل العارفون عن سرّ هذه العدائية، وهل لها علاقة بالملف النووي الإيراني، وهو أمر لم ينفه العارفون ولم يؤكدوه.
أما الإضافة هذه المرة فكانت المساحة الهجومية التي خصّصها للدول العربية وللقمة التي عُقدت في الرياض التي كانت تعمل على حلّ حقيقي لوقف إطلاق النار وإطلاق التسوية السياسية وفق قاعدة حل الدولتين.
خلاصة خطابي السيّد أن "حزب الله" لن يتحرك لأسباب فلسطينية، فإذا تحرّك فسيكون لأسباب إيرانية، لهذا أبقى نوافذ يهدّد منها إذا أراد الولي الفقيه الانخراط بالحرب. فترك كل الخيارات مفتوحة وبدأ يهيئ الرأي العام لأي خيارات أخرى ذاهباً بتحدي الأميركيين إلى أبعد الحدود.
"سبع دقائق ونصف" تزيل إيران!
هذه السخونة لا بد من أن تطرح السؤال الأبرز: لماذا يتجنّب الإيرانيون ومن ورائهم "حزب الله" الحرب، وهم القادرون على "إزالة اسرائيل عن الخريطة بسبع دقائق ونصف"؟
بداية، لا بدّ من التذكير بأنّ كلام آية الله علي خامنئي تزامن مع تحريك الولايات المتحدة الأميركية أساطيلها في المنطقة، وانطلاق حاملتَي الطائرات "جيرالد فورد" و"دوايت أيزنهاور"، إلى البحر المتوسط، تزامناً مع تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" كشف أن التحضير لعملية طوفان الأقصى تم بتنسيق مسبق مع الإيرانيين و"حزب الله" وعُقدت اجتماعات عدة في بيروت لهذه الغاية.
رغم ذلك، استمرت المراوغة الإيرانية وكانت خير تعبير عن ذلك بلسان وزير الخارجية عبداللهيان، الذي تحدث تارة عن توسيع نطاق الحرب، وتارة أخرى عن أن بلاده لا تريد توسيع الصراع.
لكن يرى بعض المحللين أنه إذا دخلت إيران الحرب، فهناك جملة وقائع لا مفرّ منها:
أولاً، عدم التكافؤ بين الجيشين الأميركي والإيراني على مستويات عسكرية وتكنولوجية وتدريبية، خصوصاً أن أي حرب بين الطرفين لن تكون برية، ولن يكون لإيران فيها الأفضلية والقدرة على التفوق.
ثانياً، القدرة العسكرية تبررها أرقام ميزانيات الدفاع، الاختلال موجود بين البلدين، فبينما وصلت ميزانية الدفاع في أميركا إلى مستوى قياسي يبلغ 858 مليار دولار وهي تطلب ميزانية دفاعية لعام 2024 تصل إلى 884 مليار دولار، يتحدث تقرير لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري)، في تقريره السنوي الأخير، أن الإنفاق العسكري الإيراني المعلن عام 2021 تجاوز 24 ملياراً و 600 مليون دولار، بينما معظم التقارير تفيد بأن ميزانية الدفاع الإيرانية كانت بحدود 6 مليارات دولار.
ثالثاً، تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى من حيث الإنفاق العسكري، بينما تحل إيران في المرتبة الـ14.
رابعاً، التخوف من سقوط مفاوضات فيينا بالضربة القاضية، التي لا تزال إيران تأمل أن تتحرّك بمعيّة عُمان قبل انقضاء ولاية جو بايدن.
خامساً، تتخوّف إيران من ضربات نوعية لطائرات الشبح "إف-35" و"إف-18" وغيرها من الأسلحة الموجودة على متن "جيرالد فورد" و"دوايت أيزنهاور"، ما يؤدي إلى تضرّر منظومتها العسكرية، وتراجع دورها ونفوذها كقوة إقليمية في الشرق الأوسط، وانهيار التوازن لمصلحة دول الخليج وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية. وبدل إزالة إسرائيل، تتم إزالة إيران بسبع دقائق ونصف.
سادساً، الخوف من انهيار أذرع إيران العسكرية في المنطقة والمشروع الإيراني الممتد من طهران وصولاً إلى العواصم الأربع. وتحوّل طهران من قوة إقليمية إلى قوة مسحوقة عندما يحين موعد الجلوس إلى طاولة المفاوضات.
سابعاً، التخوف من تنفيذ إسرائيل تهديداتها وإلقاء أطنان من القنابل في العمق اللبناني بهدف ضرب "حزب الله"، الفصيل الأقوى لإيران والمتقدم على كل جبهات المنطقة، والذي يهدد المصالح الأميركية الموجودة فيها.
ثامناً، التخوف من إنتاج تسويات تشمل لبنان، ويكون الثمن ليس أقله تسليم سلاح "حزب الله" في لبنان، من باب القرار 1701 لا من باب أي استراتيجية دفاعية أو توافق داخلي.
من هنا، يكمن الخوف من أنه إذا صح كلام السيد حسن نصرالله عن أن "إسرائيل لم تستطع تقديم إنجاز عسكري واحد بعد شهر من المعركة في غزة"، وهي تريد أن تجرّ الولايات المتحدة الأميركية إلى الحرب عبر الجبهة الشمالية وجرّ "حزب الله" إلى الانخراط في الحرب، فنكون أمام سيناريوهات مفتوحة على كل الاحتمالات. وعندها لن ينفع التذكير لا بأحمد قصير ولا بمقر الحاكم في صور ولا بتفجير المارينز وغيرهم.
قرار المشاركة في الحرب تبدو نسبه ضئيلة قياساً بالأهداف الإيرانية في المنطقة، لكن لا يعني أنّ إمكانية الدخول معدومة، وإذا أراد أحد في المنطقة أن يستعيد نموذج أزمة كوبا، فقد يكون مخطئاً لأن موازين القوى غير متكافئة. لذلك، قد يكون الاختباء وراء القرار 1701 ملاذاً آمناً ومربحاً للجميع، حتى لـ"حزب الله"، والسماح للجيش اللبناني بتبوّء الجبهات الأمامية، ووقف "حزب الله" لعملية تناسل المنظمات المقاوِمة لإسرائيل في الجنوب.
وفي نتائج ما بعد عملية 7 تشرين حتى الآن، النتيجة الوحيدة التي ظهرت أنّ جبهة غزة هي الوحيدة التي انخرطت بالحرب، وباقي الجبهات مجرد مناورات ومناوشات، وملخص كلام السيّد مجرد مفردات تبرّر سياسة المرحلة وتحمل في طياتها بناء استراتيجية المستقبل.
أمّا في ما خص القضية الفلسطينية، فقد يكون مفيداً التذكير بأن الدول العربية، من مصر والأردن وسوريا، حاولت ضرب الكيان الإسرائيلي ففشلت، وذهب الجميع باتجاه السلام، حتى أبو عمار، قبِل بدولة فلسطينية بجوار إسرائيل وليس على أنقاضها. فما هي خيارات إيران بعد 7 تشرين الأول؟ وهل تسعى إيران لسلام مع إسرائيل على طريقة الحرس الثوري، وقد بدأت البداية من غزة؟ إذا صح ذلك، فالمشوار طويل، فلننتظر.