كارلا سماحة
أزمة الأملاك البحرية وإشغالها والاستثمار فيها بدأت منذ مئة عام، ولكن الأزمة الحقيقية تجلّت مع تحوّل "الإشغال الموقت" إلى "إقامة دائمة" من دون حسيب أو رقيب، بإجازة من الحكومة أو حتى من غيرها، مقابل رسوم "زهيدة" تعود إلى الدولة.
فمنذ عهد الرئيس إلياس الهراوي، صدر مرسوم عدّل أسس تحديد البدلات السنوية المترتبة على الترخيص بالإشغال الموقت للأملاك العمومية البحرية، ونصّ على اعتماد الأسس الواردة فيه لتحديد البدلات السنوية المترتبة على الترخيص بالإشغال الموقت للأملاك العمومية البحرية، إلى أن صدر مرسوم جديد في عام 2018، وعدّل أسس تحديد الرسوم السنوية المترتبة على الترخيص بالإشغال الموقت، مع العلم أن الترخيص بإشغال الأملاك العمومية هو ترخيص يُمنح لسنة واحدة قابلة للتجديد، ويمكن إلغاؤه في أيّ وقت ومن دون أيّ تعويض.
عام 2017، تناولت المادة 11 من قانون تعديل واستحداث بعض الضرائب والرسوم التعديات الواقعة على الأملاك العامة البحرية المشغولة قبل الأول من كانون الثاني 1994 خلافاً للقانون، وحددت قيمة الغرامات السنوية الواجب تسديدها. ومنذ ذلك الحين لا تزال المهل تتمدّد بقوانين وصولاً إلى تعليق قانون المهل الصادر في جلسة مجلس النواب في 29 آذار 2022.
تشريعات كثيرة أقرّت منذ عام 1925، ولكن النتيجة واحدة: آلاف الأمتار مُحتكرة برسوم زهيدة. واليوم، بعد إقرار مجلس الوزراء تعديل جدول رسوم وغرامات الإشغال الموقت للمتر الواحد على الأملاك البحرية العمومية، ارتفعت "الصيحات" الرافضة والمندّدة بهذا القرار، الذي اعتبره البعض خرقاً للقانون، والبعض الآخر حوّله إلى "طائفي"، فيما شجّع آخرون رفع هذه الرسوم لدعم خزينة الدولة.
"خطوة أولى ضمن خطة متكاملة"
بحسب وزير الأشغال العامة والنقل الوزير د. علي حمية، يحصّل مرسوم الأملاك البحرية من 30 إلى 40 مليون دولار لصالح خزينة الدولة، وهو خطوة أولى ضمن خطة متكاملة، كما أنّه الخيار الأجدى لتحصيل ضرائب على الاستثمارات وأملاك الدولة اللبنانية قبل فرض ضرائب على جيوب الناس.
فالدولة "مهترئة"، والاستثمار الأمثل يكمن في فرض رسوم على الأملاك العامة قبل فرض ضرائب على الناس وعلى غذائهم وتعليمهم وصحتهم وغير ذلك، وبالتالي يُصار إلى جلب إيرادات من ملك الدولة لتغذية كلّ هذه القطاعات، مع السعي لأن يكون هناك مساحة عامّة للناس للسباحة.
وأوضح حمية لـ"النهار" بأنّ وزارة الأشغال والنقل مسؤولة عن كامل الشاطئ اللبناني من رأس الناقورة حتى العريضة، فلم يعد جائزاً أن تكون كلّ هذه المساحات العامة بـ500 ألف دولار في السنة فقط، بينما تُجمع الدراسات على أن الاستثمار على الشاطئ اللبناني يستطيع أن يُدخل إلى الخزينة بالحدّ الأدنى ما بين خمسمئة إلى تسعمئة مليون دولار سنوياً، في إشارة إلى أن مرفأ بيروت كان يجني 300 ألف دولار شهرياً مع تشغيل 3 رافعات من أصل 16 رافعة، منذ تولّي حمية الوزارة، فيما اليوم يجني 10 ملايين دولار شهرياً مع تشغيل 14 رافعة، والمثل نفسه ينطبق على مطار بيروت الذي يجني أكثر من 200 مليون دولار في السنة.
وسأل حمية: "ألم يعد فرض الرسوم على الأملاك البحرية مطلباً اليوم بينما كانت المشاريع الانتخابية تتحدّث عنه منذ سنوات؟ كيف ندخل الأموال إلى خزينة الدولة؟ هل بفرض الدولار الجمركي والضرائب فقط؟".
"البلد يحتاج إلى إعادة بنائه بنوايا صافية بين الدولة والناس والعكس صحيح"، يتابع حمية، "ولا يمكن انتظار صندوق النقد الدولي في ظلّ تآكل رواتب القطاع العام، وما فعلته راضي ضميري به، وليشهد التاريخ".
"دولرة" رسوم الأملاك البحرية ولا "دولرة" للرواتب
ثمة وجهة نظر مختلفة للقطاع السياحي. فصحيح أن مرسوم الأملاك العامة البحرية الذي أقرّ في عام 2018 أي قبل الأزمة، والذي أوجب دفع 52 مليار ليرة (ما يعادل 34 مليون دولار)، لم يعد يتماشى مع واقع اليوم، إلا أن "دولرة" هذا الرسم لا تجوز.
فبالنسبة إلى الأمين العام لاتحاد المؤسّسات السياحيّة جان بيروتي، لا يمكن دولرة رسوم الأملاك البحرية في ظلّ عدم دولرة الرواتب وتمكين "الزبون" من الدفع، ولا يمكن فرض رسوم على القطاع السياحي الذي لن يتحمّل هذا الضغط وسيتّجه إلى الإغلاق.
وطلب عبر "النهار" النظر بمردود هذا القطاع وإمكانياته ومراعاته لكونه يعمل لمدّة 4 أشهر في السنة على عكس شركات البترول مثلاً التي تعمل لـ12 شهراً، فيتمّ استيفاء رسوم الصيانة من قبل وزارة الأشغال والنقل على هذا الأساس.
وأضاف بيروتي أنه يتمّ العمل على تقديم دراسة تحمل نظرة اقتصادية لإعادة النظر بالمرسوم، "فصحيح أن الرسوم السابقة غير مناسبة على الإطلاق، ولكن عليها أن تكون ضمن إمكانيات الاستثمار والمواطن، بالأخص أنّ الليرة لا تزال غير ثابتة أمام الدولار ومسارها مجهول".
المشكلة بـ"القوى السياسية"
مشكلة أخرى تضاف إلى تعديل رسوم الأملاك البحرية هي أن شاغلي هذه الأملاك المرخّصين أو المحتلين "تابعين للقوى السياسية"، والحكومة "تسايرهم لأنهم مرتبطون بها، بدليل أنه منذ التسعينيات حتى اليوم لا تسوية لهم".
هذا ما أكده الخبير الإحصائي في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لـ"النهار"، الذي اعتبر أن الأسعار الجديدة للرسوم، على الرغم من رفعها، لا تزال منخفضة مقارنة بما يجب أن تكون عليه (تبلغ الإيرادات السنوية لإشغال الأملاك البحرية 27 مليار ليرة أي 18 مليون دولار على سعر الصرف الذي كان معتمداً لسنوات طويلة، وهو 1500 ليرة للدولار الواحد).
ولفت إلى أن أصحاب المؤسسات البحرية يجنون مليارات الدولارات لكونهم يفرضون رسوم دخول بالدولار، ويبيعون كلّ شيء وفقاً لأسعار باهظة، ويستفيدون من الشعب والدولة في آنٍ معاً.
وأعطى شمس الدين مثالاً بسيطاً يختصر فيه كل الموضوع، فقال: "يحق لمالك شقة أن يفرض على المستأجر السعر الذي يريده ولا يهمّه إن رضيَ أم لا. وهذا ما يجب أن تقوم به الدولة تحديداً، عبر فرض الرسوم التي تريدها على أصحاب المؤسسات البحرية؛ وإذا وجدوا أنفسهم غير رابحين وغير منتجين، فليغلقوا وليتركوا الشواطئ للناس".