في أول زيارة لقائد الجيش العماد جوزف عون إلى الولايات المتحدة الأميركية عقب تعيينه قائداً للجيش في العام 2017، رفض استقبال وفد "القوات اللبنانية" في أميركا حاملاً شعار "القوات". عون الآتي من رحم "العونية العسكرية"، والمعيّن من رئيسه ميشال عون، كان يرى في "القوات" صورة سلبية في العسكر والسياسة، فيما كانت "القوات" تستكمل بناء مداميك الانخراط في مشروع بناء الدولة الذي يتطلب سلاحاً جديداً وأداء مختلفاً عمّا فرضته الحرب اللبنانية على كل القوى السياسية.
اليوم، في الـ2023، هي "القوات" نفسها تخوض معركة قيادة الجيش بالدرجة الأولى، ومعركة رئاسة جوزف عون إلى بعبدا بالدرجة الثانية. يُسأل أحد المتابعين من "التيار الوطني الحرّ" في مجلس خاص عن سبب "غضب" النائب جبران باسيل على قائد الجيش ورفضه التمديد له، فيجيب: "أولاً، جوزف عون شارك في الانقلاب الذي نُفذ في 17 تشرين الأول 2019 على جبران باسيل، وثانياً، نكاية بالقوات".
بعيداً عن مقاربة "أهل التيار" لانتفاضة 17 تشرين، ينمّ الكلام عن "شخصانية" في التعاطي السياسي، التي عادة ما يتخطاها الزعماء الوطنيون من أجل المصلحة الوطنية العليا، أمثال كميل شمعون، وريمون إده، وبيار الجميل.
وقد لا يكون من المبالغة الحديث عن شخصانية باسيل لقبع جوزف عون. أفلم يكن باسيل نفسه مَن كان يجاهر بوجوب عدم إجراء تعيينات في غياب رئيس الجمهوريّة، فما الذي تبدّل اليوم ليوافق على إجراء تعيينات حين باتت المسألة تتعلّق بجوزف عون؟
أليس باسيل مَن يطرح نفسه حارساً لحقوق المسيحيين، والموارنة تحديدا، وانطلاقاً من حرصه على الحفاظ على صلاحيات رئيس الجمهوريّة كان يرفض التئام الحكومة في ظل الفراغ خصوصاً أنها حكومة تصريف أعمال، فما الذي تغيّر ليقبل اليوم ويسعى إلى أن تجتمع حكومة تصريف الأعمال وأن تعيّن أيضاً قائداً للجيش، وهو عُرف اعتاد أن يقوم به كل رئيس جمهورية؟
أمّا من جهة "القوات"، فخطابها المُعلن لقيادة معركة قيادة الجيش بشخص العماد جوزف عون مردّه لأسباب عدة، ابرزها أن قائد الجيش الذي اعترضت عليه "القوات" عند تعيينه في مجلس الوزراء آنذاك، شاءت الظروف ان تكون له تجربة، أثبت من خلالها حسن قدرته على إدارة المؤسسة العسكريّة. وتمكن عون من بناء كيان للمؤسسة العسكريّة ومنع التدخلات فيها خصوصاً لناحية التشكيلات، وأبعدها عن التجاذبات السياسية. كما انه في خضم هذا الظرف الصعب، حيث الجميع يبحث عن مسؤول "من تحت الأرض" في ظل شغور مراكز عديدة في الدولة، في مقدمها رئاسة الجمهوريّة التي يعطّلها "محور الممانعة"، لا يجوز التغيير في هذا المنصب، ولا سيّما أن الجميع يدرك أنه في أزمنة الحروب لا يتم تغيير الضباط.
"القوات" التي تبنّت كلام الرئيس نجيب ميقاتي، "في أزمنة الحروب لا يتم تغيير الضباط"، شكّل رسالة دعم مسيحية لإتمام التمديد بتغطية صافية من معراب، بعدما حصل ميقاتي على دعم بكركي العلني لهذه الخطوة.
أما ان تذهب "القوات" إلى حدّ المشاركة في جلسة "تشريع الضرورة" وكسر قرارها كرمى لعيون قائد الجيش، فمردّه إلى وجود اهداف غير معلنة من وراء هذا الإصرار.
في الأهداف غير المعلنة، ولو أن المعركة بين الفريقين المارونيين تُظهر وجود صراع على القرار السياسي داخل الطائفة المارونية، لكنّ يُستشف ما هو أعمق، فتسجيل النقاط على "التيار الباسيلي" قد يكون مربحاً على هامش المعركة الأصيلة.
أولاً، تبدو استراتيجية سمير جعجع من خلال التمديد لجوزف عون، استكمالا لمعركة رئاسة الجمهورية، وتحقيق الهدف السيادي، ألا وهو قطع الطريق على رئيس من 8 آذار للوصول إلى بعبدا. فالتمديد وضمان فرص وصول قائد الجيش، يُجنّب مستقبلاً فرصة وصول رئيس تابع لـ"حزب الله" إلى الرئاسة، تحت أيّ ظرف أو معطى سياسي أو عسكري يمكن أن تعكسه تداعيات حرب غزة على الداخل اللبناني.
ثانياً، وجود جوزف عون على رأس الجمهورية يقلّل من هيمنة "سياسة المحاور" على السياسات الخارجية اللبنانية، ومن الصراع حول المشاريع ذات البُعد الأمني، الإقليمي والدولي.
ثالثاً، يُبعد شبح أي تطورات عسكرية في الداخل، بعدما أثبت الجيش بقيادة جوزف عون أنه سدّ منيع لتفادي وقوع أيّ حرب أهلية.
رابعاً، وجود فرص كبيرة أن يبقي جوزف عون قيادة الجيش المقبلة بعيدة عن التجاذبات الداخلية وتقديم الخدمات السياسية والشخصية والحزبية.
خامساً، في التمديد تفادٍ لأي تداعيات محتملة لحرب غزة على انتظام المؤسسات في الداخل اللبناني وموازين القوى، وأن يكون مصير قيادة الجيش كمصير جهاز الأمن العام.
سادساً، ستؤكد "القوات" مرّة جديدة أنها "الأصيلة والحامية" لحقوق المسيحيين والموارنة تحديداً، بالتوازي مع الحفاظ على حقوق اللبنانيين جميعاً.
سابعاً، تؤكد معركة قيادة الجيش ان "القوات" تصرّ على أن يكون الجيش العنصر الوحيد الشرعي الموجود على الخريطة العسكرية الداخلية والخارجية، وترفض وتحاول عدم تسخيره لخدمات فئوية وشخصية وحزبية من أي نوع.
من هنا، بالنسبة الى "القوات" والمعارضة والى فئة كبيرة من اللبنانيين، تتخطى مسألة التمديد لقائد الجيش المعطى الأمني والطائفي والسياسي الآني، إلى معركة ذات بُعد استراتيجي في عمقها وفي مدى انعكاسها على موازين الداخل ومستقبل النظام وحياة الوطن والجمهورية.