ما أُبلِغ به القضاء اللبناني عن وصول قضاة اوروبيين من فرنسا والمانيا ولوكسمبورغ في كانون الثاني المقبل للتحقيق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومسؤولين في المصرف المركزي ومسؤولين آخرين في عدد من المصارف، وبمواعيد وصولهم، بينهم قضاة تحقيق ومدعين عامين لإجراء الإستجوابات مع أسماء الاشخاص الذين سيخضعون لها إستكمالا لتحقيقات مجراة عندهم ومن دون سابق إنذار، يطرح تساؤلا في شأن السيادة الوطنية المتمثلة بالقضاء اللبناني بشخص النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات.
في المبدأ دأب القضاء على تسلم طلبات مساعدة من دول أجنبية تسبق الحضور الى لبنان وفقا للأصول المرعية لتحمل موافقة السلطات اللبنانية المسبقة، على ان تتمثل هذه المساعدة بحضور القاضي اللبناني المختص الواضع يده على الملف موضوع طلب المساعدة في حال وجودها، ويتولى طرح الأسئلة على المطلوب الإستماع الى إفادته في حضور الفريق الأجنبي من دون ان يحق له طرح أسئلة مباشرة عليه، كون هذه الأصول المتبعة تدخل في مفهوم السيادة الوطنية للدولة وسيادة القضاء اللبناني المتمثل بالنائب العام التمييزي الذي يوافق على طلب المساعدة من عدمها. وهو ما دأبت النيابة العامة التمييزية على اعتماده في تعاقب رؤسائها، ومنهم النائب العام التمييزي السابق القاضي حاتم ماضي الذي طرح سؤالا عن طبيعة حضور الوفد القضائي الأوروبي الى لبنان، والمحدد من 9 الى 20 الشهر المقبل. وأدرج هذه الزيارة تحت احتمالين. الأول إما لطلب الحصول على معلومات في ملف قيد التحقيق لديهم. والإحتمال الثاني ان تتصل بوجود سبب لإجراء تحقيق قضائي. وفي الحالتين يقول لـ"النهار": "لا يمكن للوفد الأوروبي القيام بذلك إلا بإذن مسبق من النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات. وحتى إن ارادوا القيام بهذا التحقيق فإن الأمر يحتاج الى طلب إذن منه. والأمر نفسه ينطبق على طلب حضورهم تحقيقا يجري في لبنان ليتمكنوا من طرح أسئلتهم بواسطة القاضي القيّم على هذا التحقيق. وهو الإجتهاد الذي يعتمده القضاء اللبناني منذ عقود". ويضيف: "لقد عايشت حالات مماثلة كثيرة خلال ولايتي نائبا عاما تمييزيا، وحصل غير مرة أن رفضت طلبا من الخارج لإجراء تحقيق في لبنان. ووافقت أحيانا أخرى على طلبات من دول أجنبية لحضور تحقيق فحسب يتولاه قاض لبناني. وكان الرفض أو القبول بحسب الحالة المطروحة والتي يعملون عليها". ويصف القاضي ماضي طبيعة الطلب الخارجي بأنه نوع من التعاون الدولي في الشأن القضائي إنما يحتاج الى إذن قضائي لبناني مسبق في الحالتين المذكورتين. ويحول حجب الإذن دون قيام الوفد القضائي الأوروبي بأي من الحالتين الكامنتين وراء قدومه الى لبنان، ليشير الى أن إعطاء الإذن أو حجبه وقفٌ على النائب العام التمييزي فحسب. فهو إن أتاح يمكن للقضاة الأجانب طرح أسئلتهم بطريقة غير مباشرة عبر قاض لبناني يقوم بالتحقيق في جلسة تعقد بناء على طلبهم، كون الصلاحية والسلطة معقودة للقاضي اللبناني.
من الطبيعي ان يقابل القضاة الأجانب القادمون القاضي عويدات ويعرضون طلباتهم، بحسب القاضي ماضي، ليبنى على الشيء، حيث يعود للنائب العام التمييزي القرار بالقبول او الرفض. وفي حال القبول ستُعتمد الأصول المتبعة في القضاء اللبناني. والخطوة الأولى في كل ذلك ان يكون القضاء اللبناني فتح تحقيقا في الموضوع الذي من أجله سيحضر الوفد الأجنبي الى لبنان.
ماذا لو تطورت جلسة التحقيق ضمن هذه الأصول الى طلب توقيف المستجوب او المستمع إليه؟ يجزم النائب العام التمييزي السابق ان القاضي اللبناني هو من يقرر التوقيف من عدمه. والقرار اولا وآخرا يعود له وليس للقاضي الأجنبي في حال طلب ذلك، إنتظاما مع مسألة السيادة الوطنية. واستطرادا كليا يفصل في أن الدولة اللبنانية لا تسلم رعاياها الى دولة أجنبية ملاحقين فيها، إنما تحاكمهم في كل الأحوال على أراضيها طبقا للقانون اللبناني. وهو حال كل الدول وليس في لبنان فحسب. فالفرنسي مثلا تحاكمه فرنسا على اراضيها.
يُذكر ان تحقيقا أجري من القاضي جان طنوس، قبل تقديم إستقالته من القضاء، بصفته محاميا عاما تمييزيا بتكليف من النائب العام التمييزي في موضوع إثراء غير مشروع واختلاس أموال عامة. واستمع القاضي طنوس خلاله الى سلامة وشقيقه رجا ومسؤولين في المصرف المركزي وآخرين. وقبل ختم التحقيق طلب القضاء اللبناني إلقاء الحجز الإحتياطي على حوالى 300 مليون دولار في الخارج حيث جرى تنفيذه. وسبق لوحدة التعاون القضائية الأوروبية ان اعلنت في آذار الماضي عن تجميد 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية في فرنسا والمانيا ولوكسمبورغ وموناكو وبلجيكا إثر تحقيق إستهدف سلامة وآخرين بشبهة إختلاس أموال عامة في لبنان تقدر بحوالى 330 مليون دولار. وكان طلب القاضي عويدات تعيين محامي دولة لمتابعة مسألة الحجز الإحتياطي على هذه الأموال. كما طلب، بعد ختم التحقيق الأوّلي في هذا الملف، من النيابة العامة الإستئنافية في بيروت الإدعاء على سلامة وآخرين. واعتبرت النيابة العامة الإستئنافية في بيروت في حينه بشخص القاضي زياد أبو حيدر ان هذا الملف من صلاحية النيابة العامة المالية. وبعد ذلك تقدم الشقيقان سلامة بدعويي مخاصمة أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز بوجه القاضي عويدات. والهيئة العامة متوقفة عن العمل للأسباب المعروفة. وقانوناً يتوقف التحقيق مع مقدم دعوى المخاصمة لحين بتها قبولا او رفضا. وهذه الناحية قد تشكل عقبة قانونية تحول دون سماعهما في حال كان موضوع حضور الوفد الاوروبي يتصل بهذا الملف.
ويفترض تعيين محام لبناني لمتابعة موضوع الحجز الإحتياطي الملقى على اموال عامة أو خاصة في الخارج، ولمتابعة الملف في ختام التحقيق في حال عدم تبرئة المشتبه به. فهل ثمة خشية من ان تضع الدولة الأجنبية يدها على هذه الاموال؟ لا خشية من ذلك، يشير القاضي ماضي، "لأن ثمة معاهدات دولية لبنان ملتزم بها ترعى حالات كهذه، ومنها المعاهدة التي وضعتها الأمم المتحدة وتتعلق باسترداد الأموال المنهوبة"، مذكرا بأنه سبق للبنان ان التزم المواثيق الدولية وسلم اموالا مصرفية للعراق ولعقيلة الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي. ودعا القاضي ماضي في الوقت نفسه الدولة اللبنانية الى ان تتدخل في الدعوى عبر تكليف محام لدى السلطات المختصة في الدولة منفذة الحجز الإحتياطي على الأموال للحؤول دون مصادرتها.
[email protected]