كان من المفترض أن يكون عام 2022 لبنانياً، عام بداية الحلول نتيجة الاستحقاقات الكبيرة التي شهدها، من انتخابات نيابية ورئاسية واتفاقات دولية، كفيلة بتغيير المسار الانحداري الذي عاشه هذا البلد منذ عام 2019، إلّا أن ما حدث أتى على نقيض التوقعات بالفعل، فلم تأتِ الانتخابات النيابية بجديد جدّي، بل زادت من التشرذم، كما لم تنجح الطبقة السياسية في انتخاب رئيس ولا في تشكيل حكومة ولا في تنفيذ إصلاحات تؤدّي إلى اتفاق مع صندوق النقد، لتكون أسوأ بأشواط من سالفتها، خصوصاً على المستوى السياسي والمؤسسات التي تدخل العام الجديد معطلة بالكامل.
بدأ العام مع إعلان رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري تعليق نشاطه السياسي وعدم الترشح للانتخابات النيابية التي جرت في أيار الفائت، وبالتالي عدم الحضور في البرلمان ولا في الحكومة.
القرار الذي نزل كالصاعقة على أنصاره، أحدث انقلاباً كبيراً في الساحة السياسية اللبنانية، نتيجة الحضور الأساسي للحريري في جميع مفاصل الدولة وعلى مستوى الطائفة السنية، التي شهدت تشرذماً كبيراً من بعده إلى فقدان المرجعية التي تولت الشأن السياسي في الطائفة على مدى ثلاثين عاماً.
ولم يقتصر الارتباك بعد قرار الحريري على "تيار المستقبل" وعلى الطائفة وحسب، بل كانت له ارتداداته السياسية على جميع الأفرقاء من الأصدقاء والأخصام، الذين لم يجدوا بديلاً لتعبئة هذا الفراغ على الرغم من التدخلات الإقليمية، وهو أمر لا يزال حتى الساعة يرخي بظلاله على الاستحقاقات.
وأثبتت استحقاقات 2022 أن انسحاب الحريري لم يكُن مجرد مناورة استعاض عنها بأدوار تحت الطاولة، بل كان جدّياً تمثل بغيابه عن الاستحقاقات الكبيرة وهو سؤال لا يزال مستمرّاً حتى الساعة عن إمكانية العودة إلى مزاولة العمل السياسي من عدمه.
واستمرّ ثقل انسحاب الحريري على الأشهر الأولى من العام، وخصوصاً أن الجميع أصبح في مرحلة التحضير للانتخابات النيابية، وطغت لغة التحالفات، والمشادّات الانتخابية ورفع السقوف، ولم يخرق الضجيج الانتخابي سوى قرار صادر عن غرفة الاستئناف بالمحكمة الدولية الخاصة بلبنان فسخ الحكم القاضي بتبرئة عضوَين من "حزب الله" في قضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وأصدرت مذكرتَي توقيف بحقهما.
وأرخت الحرب الروسية – الأوكرانية مفاعيلها لبنانيّاً، اقتصاديّاً وسياسياً، ففيما عادت الطوابير أمام الأفران وسط تخوّف من أزمة طحين وقمح، دخل لبنان في الاشتباك الدولي من خلال بيان صادر عن الحكومة اللبنانية رفض الهجوم الروسي على أوكرانيا وأدان الحرب، إلا أن هذا الموقف لم يخلق أزمة ديبلوماسية مع موسكو بقدر البلبلة السياسية التي نشأت في الداخل نتيجة رفض جزء من الأطراف السياسية اللبنانية كـ"حزب الله" و"التيار الوطني الحرّ" مضمون البيان، الذي كاد يطيح اجتماعات مجلس الوزراء، قبل أن يتم استيعابه وتطويقه.
أكمل مسار الانتخابات النيابية سيره على الرغم من كل التشكيك الذي رافق الحملات وإمكانية إجراء الانتخابات، وعادت التحالفات التي لا تشبه الوضع القائم إلى التبلور مجدّداً، فتحالَف "التيار الوطني الحرّ" وحركة "أمل" في كل الدوائر المشتركة باستثناء جزين - صيدا، وعلّق الفريقان هجوماتهما السياسية مرحلياً، كما عاد التحالف بين "القوات اللبنانية" والحزب "التقدمي الاشتراكي" في دوائر الجبل، واختلف الطاشناق مع "التيار" في المتن وتحالف معه في الأشرفية، اختلط الحابل بالنابل في الشمال وتشكلت عدّة لوائح تحت اسم المقربين من "المستقبل" وقدامى "المستقبل" وأصدقاء "المستقبل" لتنتج خليطاً نيابيّاً من دون مرجعية.
نجحت مجموعات المجتمع المدني في عدد من الدوائر بالتوحّد في لوائح مشتركة، وحققت خروقاً لافتة ومهمة كان أبرزها في الجنوب الثالثة حيث فازت بمقعدَين، في معركة وُصفت بالمستحيلة وشكلت مفاجأة الانتخابات من دون منازع، بالإضافة إلى تحقيقها 3 مقاعد في بيروت الثانية، و3 أخرى في الشوف - عاليه، ومقعدين في الأشرفية، ومقعداً في طرابلس وآخر في البقاع الغربي، ومقعداً واحداً في أصعب الدوائر الانتخابية أي في الشمال الثالثة.
في المقابل، حافظت الأحزاب على حضورها من دون خسائر تُذكر، فعاد وليد جنبلاط بـ8 نواب، و"القوات" رفعت عديد كتلتها إلى 19 نائباً، و"التيار الوطني الحرّ" رغم تراجعه استفاد من التحالفات النيابية وعاد بكتلة من 21 نائباً مع حلفائه الطاشناق وأحمد يحيى، وحسّنت الكتائب كتلتها وأضافت عليها مقعداً واحداً. ولم ينجح أيّ طرف في اختراق الكتلة الشيعية فحافظ الثنائي على التمثيل الشيعي من دون خروج أيّ مقعد عن سيطرته، كما حافظت البيوتات السياسية كآل افرام والخازن ومعوّض وغيرها على تمثيلها ولم تخسره.
من دون أدنى شك كان النواب الـ13 الفائزون هم نجوم الانتخابات النيابية وخصوصاً أنهم بوصولهم أسقطوا رموزاً متجذرة في المنظومة السياسية، فأسقط الياس جرادي أسعد حردان، وفراس حمدان مروان خير الدين، ورامي فنج فيصل كرامي (قبل أن يعيده المجلس الدستوري)، ومارك ضو طلال أرسلان، وفاز ميشال دويهي على "طواحين" لوائح "المردة" و"القوات" و"الكتائب" و"التيار الوطني الحر" و"حركة الاستقلال" وعلى أرضهم وفي ملعبهم، لكن بقيت هذه الانتصارات معنوية ولم تجد طريقها إلى التفعيل بسبب تكتل الأحزاب في مواجهتهم من جهة، واختلافاتهم الشخصية والسياسية من جهة أخرى، لينتهي بهم العام أفراداً مشتّتين مختلفين على غالبية القضايا ومن دون تأثير يُذكر.
بدت نتائج الانتخابات في نظرة أولى كأنها خسارة لفريق قوى الممانعة أو فريق 8 آذار المتحالف مع "التيار الوطني الحر"، لكنّ الاستحقاقات التي تلتها لم تثبت ذلك، بسبب التشرذم الكبير في الفريق المقابل، فكانت أولى النتائج إعادة انتخاب رئيس مجلس النواب نبيه بري، لكن هذه المرة بـ65 صوتاً وفوزه رغم رفض جزء من "التيار الوطني الحر" التصويت له، ومثله فعل الياس بو صعب الذي فاز أيضاً بـ65 صوتاً، وتم تقاسم هيئة المجلس واللجان النيابية والأحزاب بأغلبية مطلقة لفريق الممانعة الذي بسط سيطرته على كل مفاصل المجلس مع بعض فتات اللجان للقوات والمستقلين.
وما حدث في رئاسة مجلس النواب انطبق على رئاسة الحكومة وإن بعدد أقلّ من الأصوات، إذ لم ينجح نجيب ميقاتي في نيل أكثرية الـ65 صوتاً على غرار رئيس المجلس، لكن حصل على 54 صوتاً كافية لتحمله مرة جديدة إلى القصر الرئاسي لانتزاع تكليف جديد، غير مرضيّ عنه من سيّد القصر، لتبدأ مرحلة جديدة من المفاوضات غير الجدية كانت نتائجها معروفة سلفاً، إذ لم تؤدِّ إلى أيّ نتيجة. وترافق ذلك مع حملات عنيفة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، وصلت إلى مرحلة الشتائم، وتجاوزت التسريبات بين الفريقين الحدّ المتعارف عليه، لينتهي الأمر برئيس مكلّف من دون حكومة كاملة الصلاحيات.
وفي عزّ الاشتباك الحكومي، والصراع على الحصص، تم توقيع اتفاقية ترسيم الحدود مع إسرائيل على أساس الخط 23 مع حق الاستفادة من حقل قانا، في مقابل تعهد شركة "توتال" بإعطاء جزء من الأرباح لإسرائيل، الاتفاق الذي لم ينل رضى جزء غير قليل من اللبنانيين رأوا فيه تنازلاً عن مئات الكيلومترات البحرية ومن ضمنها جزء من حقل "كاريش" الذي بدأت إسرائيل الاستفادة منه، ما زال يكتنفه الغموض خصوصاً في ما خص الحصة الإسرائيلية من قانا، وتضمّنه بعض البنود التي يمكنها أن تؤثر على عمل التنقيب وتعرقلها نتيجة عدم وضوحها. وإذ أحيطت المفاوضات بسرّية تامة، تم الإمضاء بلحظات خاطفة من دون عرض الاتفاق على مجلس النواب ولا حتى نشره رسمياً، وأخذ اللبنانيون علماً بنقاط الاتفاق عبر تسريبات إسرائيلية. وعلى الرغم من الاعتراضات دخل الاتفاق حيّز التنفيذ، ومن المتوقع أن تشهد الأشهر الأولى في بداية 2023 أولى عمليات الاستكشاف، التي بدأ ينظر إليها اللبنانيون على أنها الفرصة الأخيرة والوحيدة للخلاص من المأزق الاقتصادي الذي وُجدوا فيه.
أنعش اتفاق ترسيم الحدود الحالة العونية، على بعد أيام قليلة من انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون، الذي غادر القصر الرئاسي قبل يوم واحد من انتهاء ولايته أي في 30 تشرين الأول، وسط احتفالات شعبية نظمها له "التيار الوطني الحر". وأمام مناصريه المحتشدين في قصر بعبدا أعلن ميشال عون عن خطوة غير مسبوقة وهي قبول استقالة الحكومة بحكم القانون بعد الانتخابات النيابية ولكن من دون إعلان حكومة جديدة، بما زاد الخلاف بين "التيار الوطني الحر" والرئيس نجيب ميقاتي، وتظهّر لاحقاً في الهجوم العنيف الذي شنّه "التيار" على ميقاتي و"حزب الله" نتيجة اجتماع حكومة تصريف الأعمال في شهر كانون الأول من 2022 وأدّى إلى اشتباك إعلامي للمرة الأولى بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله".
وفي الشهرين الأخيرين من السنة، عَقد مجلس النواب 10 جلسات لمحاولة انتخاب رئيس جمهورية لكنّه فشل فيها جميعها نتيجة التشرذم الحاصل داخل المجلس، وعدم امتلاك أي طرف أكثرية الأصوات ولا أي تحالف أكثرية الثلثين لمنع فرط النصاب، والسماح بانتخاب رئيس.
لم تتوحّد المعارضة على اسم واحد برغم المحاولات التي قام بها المرشح النائب ميشال معوّض، وأقصى ما استطاع جمعه أقل من خمسين صوتاً مؤلفة من كتل "القوات" و"الاشتراكي" و"الكتائب" وجزء من تكتل "التغيير" وبعض النواب المستقلين، فيما لم يستطع حتى الساعة الحصول على دعم أغلبية النواب السنّة، مثلهم مثل النواب التغييريين الذين يرفض أكثر من نصفهم التصويت له، في المقابل هناك عدم اتفاق وانقسام واضح على صعيد جبهة "الممانعة" بعد رفض "التيار الوطني الحر" انتخاب النائب السابق سليمان فرنجية، وعدم الاتفاق على مرشح آخر. وعلى هذه الصورة المشرذمة انتهى العام، ومن المتوقع أن تستمر في العام المقبل.
ولم يتوقّف عقم مجلس النواب الحالي على عدم انتخاب رئيس الجمهورية بل فشل في إقرار أي من مشاريع القوانين الإصلاحية التي طالب بها صندوق النقد لعقد اتفاق مع لبنان. ورغم إقراره قانون السرية المصرفية، طُعن به أمام المجلس الدستوري وما زالت تعتريه الكثير من الشوائب. أما قانون "الكابيتال كونترول" فهو يتنقل من لجنة المال إلى اللجان المشتركة، ومن اجتماع إلى اجتماع، من دون الوصول إلى برّ الأمان الذي لن يبلغه قريباً كما يبدو بسبب امتناع الكتل النيابية عن القبول بالتشريع ضمن الفراغ الرئاسي، وبهذا ينضم المجلس إلى المؤسسات الدستورية المعطلة بحكم الشغور أو بحكم الاختلاف.
وعلى الصعيد القضائي المرتبط مباشرة بالقضايا السياسية، لم تشهد سنة 2022 أي تقدم بالنسبة للتحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، وما زال التحقيق متوقفاً منذ السنة الماضية، وجلّ ما يذكر في هذا الإطار محاولات مستميتة من "التيار الوطني الحر" لفصل ملف الموقوفين عن الملف الكامل ومحاولة تعيين قاضٍ رديف للبت في إخلاءات السبيل، وهو ما أفشله رئيس مجلس القضاء الأعلى وبقيت الأمور على حالها، أمّا الملفات القضائية الأخرى فهي ما زالت تدور في حلقة مفرغة مع سيل من مذكرات التوقيف أصدرتها القاضية غادة عون، وتنفيذ أكثر من محاولة إلقاء قبض على حاكم مصرف لبنان من دون أن تنجح في ذلك، فيما بقي الحاكم في مركزه لم يمسّه أحد، حتى جميع محاولات رئيس الجمهورية السابق وتياره السياسي لم تنجح في إزاحة الحاكم، وصحّت مقولة "ذهب عون وبقي سلامة".
كذلك لم يصدر قرار قضائي واحد في ما يخص تهريب الأموال أو تبييضها، وما زالت اقتحامات القاضية غادة عون لشركة مكتف وغيرها من المؤسسات مجهولة النتائج.
وفيما القضاء العادي دخل في إضراب مفتوح في الشهور الأخيرة من العام، لم يجارِه المجلس الدستوري الذي أصدر قراراته بردّ 14 طعناً في الانتخابات النيابية، وقبول طعن واحد أعاد فيصل كرامي إلى مجلس النواب وأدخل معه حيدر ناصر أيضاً وأبطل نيابة كل من رامي فنج وفراس السلوم. وهي المرة الثانية التي يبطل فيها المجلس الدستوري بعد غبريال المر نيابة أحد الأفراد وتثبيت آخر من دون إجراء انتخابات جديدة.
في المحصّلة، تودّع 2022 اللبنانيين بفراغ وشلل قاتلَين في جميع المؤسسات والسلطات. فالرئاسة شاغرة، والحكومة مستقيلة، ومجلس النواب لا يستطيع التشريع إلا بعد انتخاب رئيس، والانتخاب مستحيل حتى هذه اللحظة، والسلطة القضائية مشلولة، والخلافات مستعرة على جبهة الأحزاب والقوى السياسية.