منذ فترة، يتركّز القصف الإعلامي والسياسي لمحور الممانعة على فرنسا، باعتبارها اليوم المتحدث الرسمي باسم اللجنة الخماسية، والأسباب لا تتعدّى الاعتبارات التفاوضية ومضامين التسوية التي يُعمل عليها بين لبنان وإسرائيل، تحت عنوان الـ1701.
المبتدئ في علم السياسة يعلم أن فرنسا تحاول إيجاد نفوذ لها ومكانة ومصالح على ساحة الشرق الأوسط وفي لبنان، وهذا ليس بجديد. أليس هذا مبدأ عمل الدول منذ تكوينها؟ وأليس هذا ما تفعله كلّ دول العالم، بما فيها إيران، التي تقول بنفوذها على عواصم أربع، وفلسطين اليوم؟ ولماذا التركيز على شيطنة الفرنسيين لدرجة تخوينهم بتقديم المصلحة الإسرائيلية في المنطقة على ما عداها من مصالح؟
من ناحية الفرنسيين، تعلو الأجندة المصالح الأمنية، الإقليمية والدولية، التي باتت ترتبط ارتباطاً وثيقاً ببوابة الجنوب اللبناني، لأن كل تصعيد بين الجانبين، "حزب الله" – إسرائيل، قد تمتد تداعياته إلى أمن أوروبا ودول الجوار والعالم بأكمله، فيُعمل على تفادي الانخراط في "الحرب الشاملة". لذلك تتكثف الاتصالات والمساعي بهدف إيجاد تسوية ترضي طرفي الحدود، جنوباً من الناحية اللبنانية، وشمالاً من الناحية الإسرائيلية. وهذه التسوية شرط إسرائيل فيها منطقةٌ عازلة أو آمنة، وهي لا يمكن أن تنشأ إلا بإبعاد "حزب الله" إلى ما وراء نهر الليطاني، "إذ لا يحق للحزب أن يكون له سلاح ثقيل جنوب الليطاني. ولدى "حزب الله" حالياً في جنوب الليطاني ترسانة أسلحة ضخمة مؤلّفة من صواريخ وأسلحة ثقيلة"، وفق ما تقول المعلومات الواردة من باريس.
هذه التسوية اختصرها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أمس بقوله "سنبعد "حزب الله" إلى ما وراء نهر الليطاني عبر تسوية دولية، استنادا إلى قرار أمميّ. وإذا لم تنجح التسوية الدولية فسنتحرّك عسكرياً لإبعاد "حزب الله" عن الحدود".
في الجانب الآخر، "حزب الله" الذي تمتلك قيادته وتتقن فنّ البراغماتية في جانب من ممارستها السياسية والديبلوماسية، مسخّرة عامل القوّة في السنوات الأخيرة لتحقيق المكتسبات في سياق توسيع نفوذها في لبنان والمنطقة، تحاول اليوم تفادي الوصول إلى قرار أمميّ جديد يُضاف عبئاً على أجندة "الحزب"، الذي - كما يبدو - يضغط للحصول على أثمانٍ، تبدأ من استمرار الحفاظ على ترسانته العسكرية والأمنية مع ضمانات بعدم التعرّض أو إثارة هذا الملف تحت أيّ ظرف أو مسمّى، وصولاً إلى تحقيق اختراق أو مكاسب في التركيبة السياسية اللبنانية.
من هنا، وفي هذه المرحلة الحسّاسة جداً، يحاول "الحزب" التخفيف قدر الإمكان ممّا يمكن أن يوافق عليه، لأنّه بات هناك قناعة لدى الأطراف السياسية في الداخل والخارج، وخلافاً للاعتقاد، أن الأيام المقبلة تحمل نيّة جديّة لتطبيق القرار 1701، وهذا لا يعني استبعاد إجراء بعض التعديلات عليه، كالانتقال من الفصل السادس إلى الفصل السابع؛ وبالتالي، بات لزاماً بحسب المعلومات أن يختار "حزب الله" بين تطبيق القرار الدولي على "الساخن" أو على "البارد".
ففي ميزان الحسابات، إنّ كل رفض من قبل "الحزب" لتطبيق هذا القرار يعني المواجهة الحتميّة، وهو ما عبّر عنه غالانت بالقول "سنتحرك عسكرياً لإبعاد "حزب الله" عن الحدود". وهذه المواجهة قد لا تكون متكافئة نتيجة قدرة إسرائيل التدميرية وتفوّقها بإلحاق الأذى بلبنان، فيعمل الفرنسيون، وبدعم من الأميركيين والسعوديين وباقي أطراف اللجنة الخماسية، على تأمين خط حماية للبنان، وتفادي إعطاء إسرائيل الذرائع لاستجرار الحرب الواسعة، مع العلم أن الضغوط الأميركية منذ بدء حرب غزة فعلت فعلها لتجنيب لبنان الأسوأ.
من هنا، يُدرك "حزب الله" جيّداً أن عدم عودة مستوطني الشمال بالنسبة إلى إسرائيل خسارة أكبر من أن يتحمّلها بنيامين نتنياهو شخصياً، ولا إسرائيل على مستوى حضورها الاستراتيجي على الحدود. لذلك، ينتظر منه الفرنسيون قرارات واعية ومحسوبة تجاه الأخطار المحدقة، لأنّ تحديد الخسائر اليوم يبقى مقبولاً ومضبوطاً. لكنّ أحداً، في حال اندلاع الحرب الواسعة، لن يستطيع أن يضمن ماذا يمكن أن تحمل تداعياتها من أثمان، قد يكون أقلّها طرح ملف سلاح "حزب الله" جدياً على الطاولة الدولية. ويعرف "الحزب" عندها أنّ ايران ستكون تحت ضغط كبير جداً، لا يُعرف ما يتأتّى منه.
يقول مسؤول سياسي رفيع في إحدى جلسات مناقشة معه إن كلّ ثمن يقبضه اليوم "حزب الله" على أشلاء الفلسطينيين و"رأس حماس"، سيكون له ديمومته الطويلة الأمد، وأثمان لن تكون محصورة في بيروت فقط بل ستصل إلى طهران.
وفي الملف اللبناني، وتحديداً في معضلة التمديد لقائد الجيش، يعتبر المسؤول السياسيّ أن اتهام "حزب الله"، عبر قنواته الإعلامية والسياسية، أطرافاً في الداخل بتطبيق إيعازات الأميركي والسعودي والفرنسي لجهة تبنّي معركة التمديد لجوزاف عون، تصعيدٌ مدروس، يتزامن مع الإيحاء بإقفال حلّ مسألة التمديد من خلال مجلس الوزراء، وحصره بمجلس النواب، للتأكيد أولاً على أنه قادر على التمديد لقائد اليرزة متى تأمّنت الأثمان من داعميه الدوليين، وثانياً، أنه لا يمانع وجود قائد له علاقات حسنة مع الأميركيين ويرفض المنازلة العسكرية معه.