خلص تحقيق أجرته "رويترز" إلى أنّ نيران دبّابة إسرائيلية هي التي قتلت مصور "رويترز" التلفزيوني عصام العبد الله (37 عاماً) في لبنان يوم 13 تشرين الأول.
وكان المصور الراحل يتحلّى بالشجاعة والمحبّة والبصيرة في عمله الذي غطى فيه بعضاً من أكبر القصص الأخبارية في العقد الماضي.
وكما يروي زملاؤه وأوضحت تغطياته، تفوّق الراحل العبد الله في نقل القصص الأخبارية عمّن يعيشون في أوج أزمات وكوارث سواء كان ضمن فريق تغطية الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق أو الغزو الروسي لأوكرانيا أو تبادل لإطلاق النار في شوارع بلده لبنان.
وبعد مهمّة عصيبة في أوكرانيا العام الماضي، كتب لرؤساء التحرير في "رويترز": "تعلّمت خلال كل السنوات التي غطيت فيها صراعات وحروباً مع "رويترز" في أنحاء المنطقة أنّ الصورة لا تنقل فقط جبهات القتال والدخان لكنها تنقل القصص الإنسانية التي لا يعرفها أحد وتمسّنا جميعاً من الداخل".
ونال العبد الله ترشيح "رويترز" لمصوّر تلفزيون العام في 2020 لتغطيته المميزة لانفجار مرفأ بيروت إذ قدم للعالم بعض أول وأقوى اللقطات للكارثة. وكان من بين أفراد فريق أكبر فاز بالجائزة في 2022 عن تغطية الحرب في أوكرانيا.
وقالت إليانور بيلز مديرة التصوير التلفزيوني لـ"رويترز" في أوروبا "كان لديه شغف بأن ينقل القصص التي يراها تتكشف أمام عينيه. هذا الشغف كان هو هو خلال تغطية زيارة باباوية أو تغطية زلزال".
ولدى تغطيته للأحداث في بعض أخطر أماكن العالم، عُرف العبد الله بين زملائه بأنّه حريص وحذر في البيئات والأجواء والمواقع الصعبة التي يعملون بها وبذل جهداً كبيراً لضمان سلامته وسلامة زملائه.
وخلال مهمّة عصيبة أخرى استمرّت لعدة أسابيع في 2019، كان العبد الله من أوائل الصحافيين الذين نقلوا الأنباء العاجلة لاستسلام المئات من مسلّحي تنظيم الدولة الإسلامية الذين كانوا يتحصنون في آخر معاقلهم في شرق سوريا.
وقالت إيلين فرنسيس وهي مراسلة في صحيفة "واشنطن بوست" عملت من قبل مع "رويترز" وكانت معه هناك "كان يغطي الأحداث بشجاعة ومسؤولية".
وفي وقت انزلق فيه بلده لبنان لانهيار اقتصادي وأزمة سياسية لا نهاية لها في الأفق، كان العبد الله هو الذي يلطف الأجواء ويبهج المزاج العام في مكتب "رويترز" في بيروت بصداقته الوثيقة مع زملائه وأسرهم.
ويقول صحافيون في مكتب "رويترز" في بيروت إنه أحب جمعهم معاً وعادة ما جاء بوجبات إفطار كبيرة للمكتب بأكمله وتجد يده طريقها إلى الكاميرا مراراً لالتقاط صور جماعية.
* شغف واحترافية
استند تحقيق "رويترز" إلى فحص ساعات من المقاطع المصورة ومئات الصور الفوتوغرافية ومقابلات مع 30 مسؤولاً وخبيراً وشاهداً ومحقّقاً ومحامياً ومسعفاً، بالإضافة إلى تحليل قطع شظايا.
وخلص التحقيق إلى أن طاقم دبابة إسرائيلية قتل العبد الله وأصاب ستة صحافيين بإطلاق قذيفتين في تتابع سريع من إسرائيل حين كان الصحافيون يصورون قصفاً عبر الحدود.
وكانت المجموعة المؤلفة من سبعة صحافيين من وكالة الأنباء الفرنسية والجزيرة و"رويترز" على بعد ما يزيد قليلا عن كيلومتر واحد من الحدود الإسرائيلية بالقرب من قرية علما الشعب اللبنانية، وكانوا جميعاً يرتدون سترات واقية من الرصاص وخوذات زرقاء مكتوب على معظمها كلمة "صحافة" بحروف بيضاء.
وعرضت "رويترز" على الجيش الإسرائيلي النتائج التي توصلت إليها بشأن إطلاق قذائف دبابة من داخل إسرائيل وطرحت أسئلة تفصيلية أخرى بما في ذلك مدى علم القوات الإسرائيلية بأنها تطلق النار على صحفيين.
وقال اللفتنانت كولونيل ريتشارد هيخت، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي: "نحن لا نستهدف الصحافيين". ولم يقل شيئا آخر.
واستراح العبد الله في مثواه الأخير يوم 14 تشرين الأول في مسقط رأسه في بلدة الخيام جنوب لبنان ودفن بجوار والده الذي توفي العام الماضي. وبقي من أسرته والدته وشقيقان وشقيقة.
وشيع المئات جثمان العبد الله الملفوف بالعلم اللبناني ووضع صحافيون كاميراتهم على قبره تكريماً لذكراه وأقاموا الصلاة عليه وردّدوا له الدعوات.
بدأ عصام العبد الله في تقديم لقطات لـ"رويترز" قبل نحو 16 عاماً وهو يعمل حرّاً أثناء استكماله لدراسته الجامعية. وقال لطفي أبو عون رئيس تحرير أخبار الشؤون الخارجية في وكالة آي.تي.إن نيوز الذي عين العبد الله عندما كان يعمل كبيراً للمنتجين في "رويترز": "شغفه كان معدياً واحترافيته لا غبار عليها وإنسانيته كانت شعاع ضوء ساطعاً في أحلك الأماكن".
هذا الشغف كان واضحاً جليّاً لكلّ من يقابله، إذ رافقته الكاميرا التلفزيونية وكاميرا التصوير الفوتوغرافي أينما ذهب وهو يجوب بيروت على دراجته النارية.
كان يصور قصصاً عن الجانب الطريف والملفت من الحياة اليومية بنفس المهنية التي يغطي بها الرعب الذي تأتي به الحرب في هذا الزمن. وقصصه الخفيفة التي عادة ما غطت مهرجانات موسيقية صيفية في لبنان أو تناولت موضوعات عن الحيوانات أعطت فكرة عن روح الدعابة المرحة التي جعلته محبوباً أكثر لدى زملائه.
وأوّل لقطات قدمها كانت لاشتباكات في بيروت في 2007 وغطى معارك كبرى بين لبنانيين في العاصمة في العام التالي.
بالنسبة إلى لبيب ناصر كبير منتجي قسم التصوير لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في "رويترز" فقد وصل العبد الله لأوج مهاراته وهو يغطي اللحظات التي سادتها الفوضى بعد انفجار مرفأ بيروت في 2020 الذي دمّر مساحات شاسعة من المدينة وألحق أضراراً بمكتب "رويترز" وقتها.
وبعد دقائق قليلة فحسب من الانفجار المروّع الذي أصاب الجميع بالارتباك والصدمة، قدم العبد الله لقطات حية وهو يقود دراجته النارية عبر الشوارع التي ملأها الغبار للوصول لموقع الكارثة ولم يتوقف إلا ليجري مقابلة مع أحد المصابين في الطريق.
وقال ناصر إن بمجرد وصوله للمرفأ قدم للعالم أول مشهد لصوامع الحبوب المدمرة في المدينة بما زود الجميع "بهذه الصورة التي أصبحت المشهد (الأيقوني) المعبر عن القصة".
ومن بين أعماله بعد ذلك توثيق قصة ليليان شعيتو، اللبنانية التي تسبب الانفجار في إصابتها بالشلل والخرس وهو توثيق كان له أثر كبير لدرجة أن أسرتها تمكنت من جمع أموال كافية لنقلها لتركيا لتلقي العلاج.
وعندما طلبت منه أسرتها عدم الدخول بكاميرا كبيرة لغرفتها في المستشفى، دخل بهاتفه المحمول فقط وقدم نفسه لها وطلب إذنها أولاً قبل التصوير وانتظر بصبر حتى أشارت بعينيها بالموافقة.
وقالت سامية نخول محررة السياسة الخارجية الدولية في "رويترز": "إخلاص عصام الراسخ لعمله وإيمانه بقوة تأثير اللقطات سيظل محفوراً في ذاكرتنا".