تعرض "النهار" ملخّص دراسة حول القرار الذي إتخذه مجلس نقابة المحامين في بيروت، برئاسة النقيب (السابق) ناضر كسبار بتاريخ 3 آذار 2023 بتعديل المادة 41 من نظام مهنة المحاماة. أعدّ هذه الدراسة المحامون البروفسور نصري أنطوان دياب، والنقيب السابق النائب ملحم خلف، والوزير السابق ريمون (روني) عريجي، وناي الهاشم، وموسى أسعد خوري، ورمزي هيكل، وعصام جورج الخوري، وماري ضوّ، والدكتور باسكال فؤاد ضاهر، وعلي حسين جابر.
بتاريخ 3 آذار 2023، إتخذ مجلس نقابة المحامين في بيروت، برئاسة النقيب ناضر كسبار، قراراً تاريخياً تجلّى بصورة خاصة بتعديل المادة 41 من نظام مهنة المحاماة ومناقب المحامين. تمّ تعديل عدّة مواد من النظام، تتعلّق جميعها بحرّية المحامي بالتعبير، قولاً وكتابةً، وهي مُصانة صراحةً في المادة 13 من الدستور وفي المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تشير إليه الفقرة (ب) من مقدمة الدستور والذي منحه المجلس الدستوري القوة الدستورية من خلال ضمّ مقدمة الدستور إلى الكتلة الدستورية بقراره رقم 2/2001. طال التعديل المواد 39 إلى 42 من النظام، شاملاً كل وسائل التعبير التي يمكن للمحامي إستعمالها، من وسائل الإعلام والإعلان والإتصالات المكتوبة والمرئية والمسموعة، ووسائل التواصل الإجتماعي والمواقع والصفحات والشبكات الإلكترونية والمجموعات على أنواعها، "سواء كانت خاصة أو مغلقة أو متاحة للجمهور"، بحيث أن حتى مجموعات الـ Whatsapp الخاصة والمغلقة أصبحت تدخل في مرمى المراقبة والمساءلة، ممّا يشكّل ظاهرة فريدة ونادرة من نوعها في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة.
من أخطر هذه التعديلات هو ما أصاب البند الأول من الفقرة الأولى من المادة 41 الذي كان ينصّ ما يلي: "يستحسن أن يحيط المحامي نقيب المحامين علماً بأية وسيلة متاحة برغبته الاشتراك في ندوة أو مقابلة ذات طابع قانوني عام تنظمها إحدى وسائل الإعلام، محدّداً زمانها وموضوعها وإسم وسيلة الإعلام"، والذي أصبح، بعد التعديل، ينصّ ما يلي: "على المحامي أن يستحصل من نقيب المحامين، بأية وسيلة متاحة، على إذن مسبق للإشتراك في ندوة أو مقابلة ذات طابع قانوني عام تنظمها إحدى وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي أو المواقع الإلكترونية أو المجموعات، على أن يحدّد في طلبه زمانها وموضوعها وإسم الوسيلة". الفارق بين النصّين واضح وشاسع.
تحليل التعديلات وتحديد أبعادها
لا يطال الإذن المسبق المفروض الحصول عليه من نقيب المحامين سوى تعبير المحامي عن آراء "ذات طابع قانوني عام"، بحيث أنه يحق للمحامي، وفق هذا التعديل، التعبير عن رأيه في كافة المواضيع (السياسية، والإجتماعية، والفلسفية، والفنّية، وغيرها) باستثناء ما درس وجهد من أجله، وما يدخل في صميم رسالته المهنيّة والإجتماعية: القانون. والملفت أن الإذن المسبق لا يطال الملفات العالقة أمام القضاء أو التي يكون المحامي وكيلاً فيها (وهي موضع أحكام أخرى من النظام)، بل فقط المواضيع ذات الطابع القانوني العام أو الوطني التي ليس للمحامي أي مصلحة شخصية أو مهنية مباشرة فيها.
الخطير بالأمر أن، بتعديله المادة 41، أعطى مجلس النقابة للقضاء السلطة الفاصلة بمنح هذا الإذن أو حجبه : فبمجرّد أن يتقدّم المحامي الذي رُفِضَ طلبه من قِبَل النقيب بطعن أمام القضاء، يصبح القاضي هو مَن يقرّر ما إذا كان المحامي سيعبّر عن رأيه أم لا.
خلال إجتماع مجلس النقابة الذي أقرّ التعديلات، وكونه تردّد علناً أن القرار إتُخذَ بالإجماع، يكون نقيب المحامين ناضر كسبار قد شارك بالمداولات وبالتصويت، وأعطى صوته لقرار له فيه مصلحة شخصّية، ولو بحكم منصبه (ès qualité): فقد منحه هذا القرار، شخصيّاً، بصفته نقيب المحامين، إختصاصاً خارقاً (Prérogative exhorbitante)، يمارسه بمفرده، بكل إستنسابية، دون أي قيد أو شرط. لوجود مجرّد شبهة تضارب مصالح، كان من المستحسن أن يمتنع النقيب عن المشاركة في المداولات والتصويت، عملاً بمبادئ الحوكمة الرشيدة. وحصل تضارب مصالح آخر، إذ شارك عضوان في مجلس النقابة في إتخاذ قرار المجلس الذي عدّل المادة 41، ومن ثم شاركا في إتخاذ قرار الغرفة الحادية عشرة لمحكمة الإستئناف المدنية في بيروت الناظرة بالقضايا النقابية الذي ردّ الطعن بقرار مجلس النقابة هذا، وصوّتا في مجلس النقابة لصالح قرار التعميل وفي المحكمة لصالح ردّ الطعن بقرار التعديل.
هذه السلطة الإستنسابية الممنوحة للنقيب، تُعيد إلى الذاكرة ما تخّوف منه الرئيس السابق للمجلس الوطني للنقابات الفرنسية (CNB) والنقيب السابق لنقابة باريس Christian Charrière–Bournazel,: إن القيود التي تُفرَض على حرّية التعبير تشكّل أعراضاً مقلقة لعودة الإستبداد (“retour de la tyrannie”).
عدم إستقامة التبريرات التي أُعطيَت للتعديلات
برّر النقيب ناضر كسبار وبعض أعضاء مجلس النقابة قرار التعديل بالقول أن من شأنه الحدّ من الإطلالات الإعلامية لعدد (صغير) من المحامين التي أصبحت، بنظرهم، إعلانية "وفوضويّة". هذا التبرير لا يستقيم في القانون، لوجود مادة أخرى من النظام خاصة بهذا الشأن (المادة 39)، وكان يكفي التشدّد بتطبيقها بحق المخالفين. كما أنه لا يجوز كمّ أفواه آلاف المحامين بعذر ردع قلّة قليلة منهم، ما يخرق مبدأ التناسبية (Proportionnalité).
برّر النقيب ناضر كسبار أيضاً هذا التعديل بحجة "أبوية" (Argument paternaliste)، مُعتبراً أن لا مشكلة في فرض إستئذان المحامي نقيب المحامين قبل إبداء رأيه القانوني، كون النقيب "هو بمثابة أبّ لجميع المحامين دون إستثناء". إن هذا التبرير يمزج القانون بالسوسيولوجيا أو بـ "اللا - قانون" (“le non-droit”، وفق عبارة العميد Carbonnier) لغياب أي أحكام في قانون تنظيم مهنة المحاماة نصّبت نقيب المحامين أباً للمحامين، ولكون النقيب هو فقط رئيس نقابة بصلاحيات حدّدها المشترع، والرب قد رزق المحامي أباً واحداً، هو والده.
من التبريرات الأخرى التي أُعطيت للقرار، والتي أخذت بها محكمة الإستئناف في بيروت برئاسة الرئيس أيمن عويدات، أن نقابة المحامين في باريس تفرض قيود صارمة على شكل التي أقرّها مجلس نقابة بيروت. هذا غير صحيح إطلاقاً، كما تظهره مراجعة سريعة لنصّ المادة 10 من النظام الداخلي لنقابة باريس: “Sous réserve de l’alinéa 3 ci-dessus, l’avocat s’exprime librement dans les domaines de son choix et suivant les moyens qu’il estime appropriés”.
من المؤكّد من صراحة هذه المادة أن المبدأ هو حريّة التعبير دون أي قيد أو شرط ودون حاجة لأي إذن مسبق، وأن المحامي الباريسي حرّ تماماً بالتعبير كما يشاء وفي المواضيع التي يشاء وبالوسائل والطرق التي يشاء؛ إن إعلام النقيب من قِبَل المحامي لا يمكن أن يؤدي سوى إلى إبداء ملاحظات أو إصدار أوامر لاحقة (a posteriori) من قِبَل النقيب، إذا إستدعت الحاجة. إن التوسّع في تفسير نصّ نقابي باريسي من قِبَل محامين وقضاة لبنانيين هو أمر غير مألوف: فقواعد القانون الدولي الخاص، التي أعطت القاضي الوطني صلاحية تفسير وتطبيق القانون الأجنبي، فرضت عليه ضوابط لمنعه من التوسّع في التفسير ومن إضافة ما لم يذكره المشترع الأجنبي وتأويله ما لم يقله مما يؤدي إلى تشويه (Dénaturation) القانون الأجنبي. يعتبر المحامون الفرنسيون أن حرّيتهم بالتعبير خارج قوس المحكمة (hors prétoire) تشكّل ركناً من أركان مهنتهم وعملهم.
مهما كانت القيمة القانونية لكل هذه التبريرات، فانها تسقط جميعها، كما ويسقط معها قرار مجلس النقابة وأي قرار قضائي يثبّت هذا القرار، أمام صراحة النصوص الدستورية والمواثيق والإعلانات الدولية، وهي تسمو على هذا القرار النقابي وفق هرمية Kelsen المكرّسة في المادة 2 من قانون أصول المحاكمات المدنية وفي قرارات للمجلس الدستوري. تنصّ المادة 13 من الدستور أن "حرية إبداء الرأي قولاً وكتابةً وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلها مكفولة ضمن دائرة القانون"، والمادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن "لكل شخص حقّ التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريّته في إعتناق الآراء دون مُضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقّيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما إعتبار للحدود".
القيمة القانونية للتعديلات
لم يكن إهتمام الأمم المتحدة بحرّية تعبير المحامين عابراً، بل هو ثابت ودائم، تجلّى من خلال وضع "مبادئ أساسية بشأن دور المحامين" (1990)، وقد جاء في المبدأ 23 ان " للمحامين شأنهم شأن أي مواطن آخر، الحق في حرّية التعبير... ويحق لهم بصفة خاصة، المشاركة في المناقشات العامة المتعلقة بالقانون وإقامة العدل ...". أمّا المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (CEDH)، فأخذت موقفاً حازماً في شأن حرّية المحامي بالتعبير عن رأيه، حتى في مسائل عالقة أمام القضاء، وقد جاء في قرارها “Alfantakis c. Grèce” (2010) ما يلي:
“La liberté d’expression vaut aussi pour les avocats qui ont le droit de se prononcer publiquement sur le fonctionnement de la justice”.
المحامي هو مواطن شأنه شأن سائر المواطنين، ولا يمكن إخضاعه لأذونات للتعبير عن رأيه في حين أن سائر المواطنين غير خاضعين لمثل هكذا أذونات. لا يُرَدّ على ذلك بأن بعض الأفراد من المجتمع خاضعون لأذونات بفعل وظيفتهم (كالموظفون العامون والعسكر)، إذ أن المحامين كانوا دائماً، منذ نشوء نقابتهم العريقة قبل قرن ونيّف، وهي أمّ نقابات المهن "الحرّة"، أحراراً في إبداء رأيهم دون أي قيد أو شرط أو إذن، ممّا يشكّل حقاً مكتسباً ثابتاً لهم، بالإضافة إلى أنه لا يجوز بتاتاً، عملاً بآلية الـ Effet cliquet، إستحداث شروط وقيود وأذونات لم تكن موجودة بالسابق. فالحريات العامة والفردية والحقوق الأساسية (droits fondamentaux) تسير إلى الأمام ولا ترجع بتاتاً إلى الوراء، إذ أن هذه آلية، التي فرض المجلس الدستوري في قراريه رقم 1/99 و 5/2000 العمل بها عند تعديل القوانين، تحظّر ذلك صراحةً: "وبما ان المشترع عندما يسنّ قانوناً يتناول الحقوق والحريات الأساسية فلا يسعه أن يعدّل أو أن يلغي النصوص القانونية النافذة الضامنة لهذه الحريات دون أن يحلّ محلها نصوصاً أكثر ضمانة أو تعادلها على الأقل فاعلية وضمانة..."
إذا كان لا يحق للمشترع إرجاع دولاب الحريات العامة والفردية والحقوق الأساسية إلى الوراء، فكيف لإحدى النقابات أن تفعل ذلك، بموجب قرار داخلي يقع في أسفل هرمية Kelsen ؟ ينسحب ذلك على قرار محكمة الإستئناف الذي ثبّت قرار مجلس النقابة : فما هو ممنوع على المشترع ممنوع أيضاً وبشكل أولى على القاضي، الذي يعود له تطبيق القانون وحماية الحقوق الأساسية والحريات العامة.
إن فداحة هذه المخالفة (Vice d’une gravité exceptionnelle)، التي تجرّد المحامي- المواطن من حقه بالتعبير عن رأيه بكل حرّية ودون قيود وشروط، تجعل القرار الذي إتخذه مجلس النقابة، برئاسة النقيب ناضر كسبار، عديم الوجود (Inexistant) وليس فقط باطلاً.